صبري عباس في ذاكرة الزمن
د. محمود عباس
صبري عباس في ذاكرة الزمن
تقبلت وداعك لاستحالة بديله، وسايرت جبروت الإحساس بالواقع المؤلم بالكبرياء لئلا أسيئ لذكراك والراحلين من قبلك، واحتميت بشروط الحكمة الكونية، وبالإرادة التي تسند الشعور المتهالك، تكالبت على الأمل لئلا أرضخ للحزن عله يهون مع الزمن.
بحثت أحيانا عن سطوة القدر بلا إرادة، فتبين وبعد اليقظة من الصدمات إن بعض ما يترسخ في الذاكرة أقوى من جبروت الزمن، أكدتها مرارة تبعات رحيل الوالد محمد عباس والوالدتين خنسه عباس وعالية عباس، وأحيتها صدمة وداع أخي صبري قبل أيام وقبله أحمد صابر والأخت حياة.
صراعي مع الحزن يتفاقم، أحاربه في اللاشعور؛ وبصمت لإرضاخ النفس للحقيقة المطلقة؛ ولترسيخ قناعاتي بإن الحسرة مهلكة، والحزن ملجأ الضعفاء، رغم إن الصدمات تأبى الهجرة من الذاكرة. جاهدت للتحكم باللاشعور أمام زوال صروح دارنا، لكن وفي كل مرة عاد الغياب المطلق مدوياً ومؤلماً، لا تغطيه إحياء الذكريات اللطيفة ولا مسيرة العيش الجميل معاً، ولا متعة الحوارات خلف غياهب الغربة.
كل فرد من العائلة يملأ مكان فريدا في الدار الذي كنا نملئه صراخا ولهوا في عهد الطفولة، وبالمشاكل المحصورة بيننا دون علم الوالدين في مرحلة المراهقة والشباب، والحوارات والسجالات؛ أحيانا حتى طلوع الفجر في المراحل اللاحقة إلى أن تشتتنا في أعماق المهجر وابتعدنا عن بعضنا، لكننا حافظنا على الرباط العائلي المتين بكل جوانبه. كان أخي صبري بعد الوالد يحافظ بوجوده على جدلية العلاقات الفريدة بيننا، فالفراغ الذي خلفه كشف عن مدى رعب الخلاء لأماكن سابقيه، وغيابه المفاجئ أزال المجهول عن المساحات الفارغة والمتزايدة أعدادها مع الزمن ضمن العائلة، كما وأعاد إلى الحياة ذكرى سابقيه.
أحصر الدمعة، دمعة رجل على رجل وعلى الأحبة، فمنذ رحيل الوالد والذي ألقاني في أحضان أحساس مدمر بالوحدة إلى هذا الوداع المؤلم للأخ صبري، تأبى الدمعة الصمت طوال المسافة الزمنية الفاصلة بينهم، فالأخت التي بالكاد أتمكن من تحجيمها كلما أتذكر شهامتها يوم زفافها، وعلى ذكريات أخر حديث مع أخي صبري حول كيفية طبع كتابه المنسوخ باليد، وعلى حواري مع الأخ صابر عن قضايا الساعة السياسية من أمام باب المستشفى قبل العملية بساعتين، وعلى غيرها من الذكريات التي لا تعد مع الوالد والوالدة. جملة الذكريات تدفعني إلى الالتجاء لتعويم الجميل من اللحظات معهم لتخفيف ثقل الإحساس بعدمية اللقاء ثانية، وتعميق الصمت وحصر الآهة على الدمعة لغيابهم، الدمعة التي تصارع الصمت لتنهمر بدون صوت على رفات أخ غاب مع السراب.
يوما بعد يوم تزداد الحسرة على مسيرة عمر لم نستغله كما يجب، وعلى هيمنة اللامبالاة بقدوم اللحظة الفظيعة بشكل مفاجئ التي تتجاوز مجالات خداع الذات بأنها بعيدة. كان الغائب هناك وكان بالإمكان أن نلتقي ونتحدث وأستمع إليه وأبدي رأي، لكنني الأن وتحت خيمة وقار الرحيل، أنقب في أروقة ذاكرة الماضي البعيد عن لحظات، أواسي بها نفسي، وعن زيارات تمت في المدن المهاجرة معنا إلى الضياع، أتجول بين الدروب المتقاطعة على مدى سبعون سنة، وما أكثره، فأتيه في السراب المتناثر بين أزقة العمر المتبقي.
أتذكر يوم نزلت في مطار أنقره عام 1981 وفي معمعان انقلاب كنعان إيفرين، قادما من موسكو، وكيف تحكمت سيارات الجيش التركي بالمسافرين لإيصالهم إلى عناوينهم، بحكم منع التجول والأحكام العرفية، وفي قرابة منتصف الليل بلغت دار الأخ صبري، طرقت الباب ومن باب المزحة وضعت أصبعي على العين السحرية للباب، وقد كان حينها من بين المطلوبين بحكم علاقاته ونشاطاته مع الحركات اليسارية ومشاركته في قيادة تنظيم المسيرات قبل الانقلاب، ضمن جامعتي أنقره وأورتا دوغو، وفي جامعتي إسطنبول وأزمير. لم يفتح ولم يرد، وظل ينتظر، إلى أن انتبهت إلى الخطر، تحدثت معه من خلف الباب وأزلت أصبعي، وكانت الفرحة أكثر من المتوقع، سهرنا إلى الفجر معا، وغاب في اليوم التالي عن العمل، قضيت أسبوعين بين مقاهي أنقرة وجامعتيها شبه الخاليتين، وحيث دوريات الجيش الكثيفة، وتحذير الأخ صبري لي بعدم التجول كثيرا وخاصة في المناطق الخطرة التي يتجمع فيها شباب الحركات اليسارية الكوردية والتركية، لأنني كنت أجنبيا وقادما من موسكو، وقد كانت الأماكن معروفة لي من خلاله وعن طريق علاقاته الواسعة والمتشعبة بينهم أثناء زياراتي السابقة له، لن أنسى أبداً غيرها من اللحظات وزياراتي الأخرى والعديدة وبتفاصيلها.
فكيف بغيابهم سأؤمن بالحكمة الإلهية من هذا العالم الخاطئ وحيث الأعمار المنعدمة فيها الزمن، وكيف سأؤمن بالعالم الأخر، وأرى وأحس وأعي، إن كان هذا الكون من صنع إله ما فلا بد وأنه أخطأ في خلق الحياة وعلى رأسهم الإنسان وتحميله كل هذه الألآم، وتعذيبه من ولادته إلى نهايته، أحقا كما يقال في الأديان، بالولادة والموت يثبت الله حكمة أبعد من مداركنا، أم إنها فلسفة، تعني بأنه لا مطلق في الكون حتى ماهيته. وإن كنا من إحدى طفرات الطبيعة فلا بد أنها طفرة شاذة تعكس نواقص الكون وطبيعة الأرض.
رغم معرفتنا التامة أن استمرارية الكون مبينة على الخلق والفناء وهو خير للطبيعة، ولربما أنها صيرورة لا يمكن للإله تغييره، ولا للطبيعة من إيقافه، رغم ما فيه من شقاء أبدي، مع ذلك نصارعه، ونقف في وجهه حتى ولو بأحاسيسنا، نعارض الله والقدر والطبيعة، ومنا من يود إيقاف الجدلية، مع غياب مطلق لمعرفة نتائجها، رغم علمنا التام بأننا في الدرب ذاته متجهون، وهناك من سيدفننا ويتذكرنا لفترة، كما دفنا الأجداد والوالد والأمهات، والأخوة صبري وأحمد صابر والأخت حياة. ويتم نسيان الجميع مع الزمن ومع غيابنا، أننا نعيش في دوامة الوقت، ومثلنا الكون، مع ذلك نتعامل مع بعضنا وكأننا في حالة أبدية، وهو ما يعمق تأثير صدمة الغياب.
عقولنا ربما شبه كاملة، لكنها لا تعمل بالقدرات التي جبلتها الطبيعة، والسويات التي بلغها التطور البشري، لذلك لا نتقبل الحقائق ونرضخ للواقع بألم. أعلم بأنني سألحق بالأجداد والوالد والوالدتين والأخوة والأخت، وما بيننا ربما ساعات أو سنوات قليلة، لكن العقل الباطن يرفضه بملكة التناسي، وهي القوة ذاتها التي تساعدنا على تقبل غيابهم، فالواقعية في الحكمة هو أننا سنرحل وهناك من سيفرحون برحيلنا بقدر ما سيؤلم البعض، إن كانت على خلفية عدم التوافق أو بحكم الرأفة لإنسان عاش عمرا ولا يريدون له المعاناة مع العيش المديد.
تجاوزت السبعين من العمر، تستقبلني مرحلة العيش مع الذكريات المتلاطمة، ولربما ستتناقص لحظات السعادة مع الزمن، فإلى جانب النكسات النفسية المتكاثرة أعيش صدمات الوداع بعد الوداع، فالأولى بنا تقبل الرحيل وهو ما يجب على المودعين فعله، وهو ما أحاول التلاؤم معه، ولنهيئ بعضنا على الوداع، وتقبل أحكام غياب الأحبة، لذلك أصارع الحزن على الراحلين، وأتمنى ألا يحزن أحد على رحيلي، إنها جدلية الطبيعة لديمومة الحياة، قبل أن تكون حكمة إلهية خاطئة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية