دراسات و تحقيقاتفي الواجهة

دراسة في بعض مرتكزات السياسة الغربية تجاه قضايا الشعوب

عباس علي العلي

من شروط العمل السياسي في الأنظمة المؤمنة بالليبرالية السياسية أن خطوط العمل لا يمكن وقفها عند نقاط محددة طالما أن النتيجة بالتالي تصب في مصلحة المحرك السياسي صاحب المصلحة والهدف، إنها مرحلة أكبر من البرغماتية التي تبرر الوسائل بالغايات، وهذا مبدأ تقليدي في عالم السياسة ولكن حتى لو تأملنا أحيانا وبعمق نجد أن البرغماتية مع شيء من الإحساس بالعوامل الأخلاقية قد تبدو أكثر نبلا من السياسة التي نتعامل معها وتفرض علينا اليوم ،وإلا كيف يمكننا أن نفسر سكوت العالم عن الجرائم الأخلاقية التي تمارس على مجموعة من الشعوب والقوميات وبعض المجتمعات دون أدنى من أي وازع أخلاقي أو ديني، أو حتى إنساني حضاري في مقابل تجييش العالم كله لو حدث خطأ مقصود أو غير مقصود تجاه الطرف المعتدي، الآن وكأن المسألة لا تتعلق بالمصالح ولا بالغايات إلا بحدود مفهوم المؤامرة التي أنكر وغيري وجودها والفاعل يصرح بها يوميا وتفصيليا .
الحديث في معرض المناسبة هنا أننا نرى الكثير من المستغرب واللا معقول في السياسة العالمية وخاصة في النظم التي تدار بديمقراطية واعية، ويحكمها نظام قانوني ورقابة شعبية عالية تحافظ على أهمية الرأي العام بأعتباره أحد موجهات السياسة للبلد، ومع كل هذا لا نجد إنعكاسا حقيقيا لصوت الضمير الشعبي في الممارسات السياسية وخاصة الدولية منها، قد يكون هذا الغياب بسبب عدم أهتمام الشارع المحلي بالسياسة الدولية طالما أن النظام بحد ذاته لدبه رؤية وأستراتيجية تنفذ من خلال مراكز القوى المهيمنة على صنع القرار الوطني، كما أن أهتمام الشارع المحلي ينصب دوما على المسائل الأكثر إلحاحا وأهتماما للأفراد بدأ من قوانين الرعاية الصحية ورقع مستويات المعيشة وقضية الهجرة والمناخ والأسعار والطاقة، هذه الأهتمامات نصرف الفرد عن ملاحقة قضايا ثانوية بالنسبة له، ما عدا فئات سياسية عادة ما توصف باليسار الثوري، هذا اليسار الذي يتحرك أيضا وفقا للأمزجة الشعبية السائدة والتي يبدأ فيها الأعلام واللوبي السياسي دورا في صنع العقل الجمعي، فهو أيضا يعاني من تشظي وأحيانا من ضعف في الحركة في مجتمعات تتجه لليمين غالبا وفي أحسن الأحوال للوسط السياسي.
وحتى نكون منصفين أيضا لا بد من الإشارة أن العلاقات الدولية اليوم تبنى على أركان أربعة وحسب أهميتها في إدارة وطبيعة هذه العلاقات، الركن الأول والأهم هو المصلحة العليا والبعيدة للبلد محسوبة على تصورات أستراتيجية تنتهي إلى غايات محددة، تسعى لها وتحافظ على القدرة للوصول لها من دون أن تتأثر بالتكتيكات أو التحولات المرتهنة لصراعات أو مصالح أو علاقات لا ترتبط بالنتيجة بالهدف الأبعد، فمثلا الصراع العربي الإسرائيلي والذي يعتبر أطول صراع وأخطر صراع في العصر الحديث بعد الحربين العالميتين، لا يشكل ضاغطا مهما على طبيعة السياسة الغربية عموما والسياسة الأمريكية خصوصا، طالما أن طرف واحد في هذا الصراع متمكن من إدارته لمصلحته من خلال ربط هدفه المحلي مع الهدف الغربي والأمريكي، التعليل بعود لسببين الأول أن الكيان الصهيوني يمثل توجه سياسي واحد مبني على أستراتيجية ثابتة لا تتأثر بالتنازعات والصراع داخل المجتمع الحاضن لها، بينما العرب يركزون كل أهتماماتهم على النزاعات البينية بينهم كمجتمعات ودول وأنظمة متناقضة بالهم الأول، وثانيا على الإنشغال بالصراع الداخلي بين الأنظمة وشعوبها التي لم تنتخبها ولن تدافع عنها وتعتبرها جزء من تركة الأستعمار ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذه الصراعات لم تدع العرب يتوحدون في أستراتيجية عليا ومشتركة، وبالتالي فالتوجهات المختلفة والأنقسام الحاد بين أطراف مهزومة ذاتيا لا يمكن أن تشجع الأخرين أو تدفهم لأخذ الموقف العربي بعين الجدية والأهتمام طالما أن صاحب الشأن غير جاد ولا مهتم.
الركن الثاني بعد المصالح الاستراتيجية هو توازن القوى والأستحكامات التي يفرضها على رسم السياسات الخارجية، ففي مرحلة الحرب الباردة وأنقسام العالم إلى قطبين برزت هذه الظاهرة السياسية بشكل حاد، فقد كانت السياسات العامة والخارجية تحديدا تصاغ وترسم تبعا لطبيعة المحور الذي تنتمي له، وعلى ضوء مصالح المحور وتوجهاته العامة تتحدد العلاقات السياسية، هذا بالشكل العام ولكن هناك بلدان وإن كانت تنتمي لأحد المعسكرين لكنها كانت تحتفظ بعلاقات جيدة ومتواصلة مع الطرف الأخر كما الحال في النظام السياسي الصهيوني، بالرغم من أنتمائه الشديد واللصيق بالغرب بزعامة بريطانيا أولا وأمريكا لاحقا، لكن الأتحاد السوفيتي كان من أوائل الدول التي أعترفت به في الأمم المتحدة ودعمته بشكل مباشر وغير مباشر، طبعا الأسباب كثيرة منها ما يتعلق بالفهم الدولي للنظام السياسي العالمي وأرتباطاته الخفية والمعلنة، ومنها علاقات أقتصادية وسياسية عميقة قد لا يمكن رؤيتها للسياسي البسيط أو حتى الذي لا يغوص في طبيعة النظام العالمي.
الركن الثالث والذي له دور محوري أيضا في رسم طبيعة العلاقات الدولية هو أرتباط الموقع الجغرافي مع النظام السياسي والذي يشكل ما يعرف بالطبيعة الجيوسياسية للبلدان والأنظمة، فالسياسات الداعمة والمؤيدة من طرف الدول العظمى تتجه دوما نحو الأنظمة والبلدان التي تتميز بالطبيعة المزدوجة بين الموقع الجغرافي المهم وطبيعة النظام الموالية، ومن هنا نفسر مثلا عمق العلاقة السياسية بين دول الخليج العربي والولايات المتحدة والتي وصلت إلى ما يعرف بالحليف الاستراتيجي، بالرغم من أن الولايات المتحدة نفسها تصنف هذه الأنظمة والدول باللا ديمقراطية والأصولية المتخلفة التي تعاني من مشكلة مزمنة في تداعيات حقوق الإنسان والحرية السياسية لشعوبها، هذا الدعم هو من أفشل كل المحاولات الشرقية من أن تبني علاقات مماثلة أقتصادية وسياسية معها، السبب للموقع الجغرافي الممثل بمصدر الطاقة الرئيسي في العالم وتحكمه بموقع وممر هام من مواقع السيطرة والنفوذ القريبة من العملاقين الروسي والصيني.
وأخيرا نقول ما لا يقال عادة في المقالات والأبحاث السياسية والتي تنشر على المستوى العام والمعلن، وهو الركن الرابع والذي يشكل جزءا مهما من سياسات الدول الكبرى المتحكمة بالنظام العالمي، هذا الركن هو المتعلق بالعقيدة الدينية لتلك المجتمعات، هذا الأمر ليس جديدا ولا أبتداعا من خارج المنطق الواقعي، فقد شهد العالم كثيرا من التحالفات السياسية التي قادت مراحل مهمة من التاريخ تحت غطاء الدين، ولنا في الحروب الصليبية شاهد تاريخي يظهر هذه الحقيقية، كما شهدت الحرب العالمية الأولى نوعا من هذا الاصطفاف ضد الدولة العثمانية على نفس الأسباب والمبررات.
عالم اليوم بالرغم من ظاهرة الليبرالية المنتشرة فيه والنظام العلماني المسيطر، لكنه في رسم السياسات الدولية يوجه من حيث جوهر المصالح ضد الأنظمة والمجتمعات ذات التوجه المناقض دينيا، هذا الأمر لا يخص الدول الإسلامية فقط، بل مورس العامل الديني كحافز ودافع سياسي ضد روسيا سابقا والاتحاد السوفيتي لاحقا ومن ثم روسيا بعد تفكك الأتحاد، روسيا بكنيستها المشرقية لا يمكن أن تتوافق مع الغرب الكاثوليكي ولا حتى البروتستانتي، الذي يجعل من أن تكون روسيا أو حتى الصين وكلاهما له عقيدة سياسية تستمد قوتها من الإرث التاريخي للديانات التي عليها غالب الشعب عدوا طبيعيا للغرب بثقافته وتاريخه المبني على رفض الأخر المختلف دينيا، إذا ما نشير له هنا أن دعوات الحرية الدينية وضرورة بماء السياسات الدولية بعيدا عن العامل الديني مجرد دعوة خالية من الجدية والصدق.
إذا وفي عودة لبداية المبحث نقول لو كان الذي يجري وفق مبدأ البرغماتية السياسية وتوازنات المصالح فإن للغرب والولايات المتحدة بالذات وشائج اقتصادية وسياسية ومعاهدات والكثير من الروابط التي تؤمن مفهوم المصلحة وزيادة، ناهيك عن تزعم هذه المجموعة من الدول صوت التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والقانون الدولي ووو، والحقيقة أن هذا الميزان المقلوب الذي يضع سياسات ومصالح الكيان الصهيوني قبل مصالح ووجود التوازنات الدولية، وحتى الأفق الذي يحمي وجود الغرب لا يمكن تفسيره بأي حس برغامتي ولا حتى بأي تفسير أخر، وهم يرون ارتدادات هذه السياسة القديمة الجديدة عليهم وعلى المنطقة، وبالتالي لا يمكن أن نفسر هذا الموقف المعادي للشعوب العربية عامة وللشعب الفلسطيني خاصة بأي وصف خارج إطاره الطبيعي، وهو الكره الديني والعنصرية التي منشأها العصبية التوراتية الكاره للإنسان والتعدي على كرامة المجتمع الإنساني لصالح أقلية عدوانية عنصرية خبيثة .
الجرائم التي ترتكب باسم الثأر في مجتمع هو الآن في العشرينية الثالثة من القرن الحادي والعشرين بكل هذه الفظاعة والبربرية والإجرام النازي، وفاق في نازيته هتلر نجد أن مفعول الأصوات الخجولة التي تصدر من هنا ومن هناك تطالب الضحية بضبط النفس وإدانة حق الدفاع عن النفس، وهي تراهم رؤية أم العين ان هذا الشعب غارق في دم أبناءه، كذلك الحال مع الشعب العراقي الذي يتعرض لتهديد مميت وتفكيك لكل بنيته التأريخية نتيجة عمل منظمات أسستها ودعمتها أمريكا والدول المتحالفة معها، ويسقط العشرات والمئات يوميا من الأبرياء كما في سوريا وليبيا ومصر واليمن وأفغانستان والباكستان وبورما دون أن تهتز لها مشاعر، ولا تعلن عن حرصها الجاد والأكيد والمثمر على حماية حقوق الإنسان، بالقدر الذي أهتز الكون ولم يستقر للآن لمجرد قتل ثلاثة أشخاص كل الدلائل تشير على أن إسرائيل هي من فعلت ذلك لتتجاوز على نتائج المصالحة بين فتح وحماس، وتخريبا لمنهج السلام الذي حاول أن يجير غالبية ما فيه لهم السناتور كيري، ومع ذلك أفشلوا المهمة وأطاحوا بكل فرص السلام باستخدام الذرائع ذاتها .
السياسة الإسرائيلية منذ أن تأسست لم تعمل وفق القوانين السياسية التي عرفها العالم وتداولها كفن أممي مشترك بفارق بعض التفاصيل هنا وهناك ، بل أنها أسست فكرها السياسي على تلمودية النفس العنصرية الكاره والمكروه، والعنصرية والتي لا ترى في العالم الأخر حتى الحليف والمناصر شيء واجب الأحترام، إنها تتعامل بروح الكراهية حتى مع وجودها وهي تعلم علم اليقين أن أمتداد وتجذر الكراهية وتعمقها وتأصلها لدى الشعوب الأخرى لا بد أن ينتج منه ردات فعل عنيفة، ستعيدهم إلى حالة التشتت والتشرذم والتفكك وسيصبح المجتمع الإسرائيلي القائم اليوم مجرد ذكرى من الماضي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى