حرب عالمية نووية .. هل باتت قريبة ؟

محمد عبد الشفيع عيسى

أفادت بعض التحليلات الخبرية الأخيرة بأن التراجعات النسبية التي تعانى منها القوات الروسية على الجبهة الأوكرانية مؤخرًا تطرح تساؤلاً حول ما إذا كان من المحتمل أن يؤدى ذلك إلى إمكان لجوء الطرف الروسي إلى “الخيار النووى” باعتباره خيار “الفرصة الأخيرة” لكسب الحرب.
لسنا في معرض مناقشة هذا الاحتمال من حيث تحققه، وطرق هذا التحقق، ولكنّا نطرحه كمقدمة لسؤال أهم، أكثر عمقًا، وأوسع نطاقًا، يتعلق “بأسلحة التدمير الشامل” Mass Destruction Weapons التي أخذ يسمح بها التقدم التكنولوجي المتسارع، من الثورة الصناعية الأولى فى القرن التاسع عشر، إلى ما يسمى “الثورة الرابعة” حاليًا. إنه ذلك التقدم الذى دعوْناه “غير المُؤَنْسَن” : تكنولوجيا من غير روح، ومن قبل : علم “خال من الضمير – بمعنى الوعى” Consciousness . ذلك هو العلم، وتلك هي التكنولوجيا التي فتحت أبوابها “مُشْرعة” للرأسمالية كنظام اقتصادي- اجتماعي ممتزجة بالتطور العلمي-التكنولوجي كدعامة للتطور فى “قوى الإنتاج” بشكل غير مسبوق حقًا.
لم يقتصر الأمر في الحقيقة على انحصار تقدم قوى الإنتاج، بالعلم والتكنولوجيا، فى الدول ذات النظام الرأسمالي، فقد أدت ملابسات التنافس والصراع الدولي، وظروف التغير التاريخي في عدد مما يسمى “الدول الكبرى” أو “القوى العظمى”، إلى احتكار حيازة التقدم التكنولوجي “غير المُؤَنْسَن”، وصولاً إلى حيازة الأسلحة الأكثر فتكًا، بفروعها الثلاثة: النووية والكيماوية والبيولوجية. وقد سمحت جملة عوامل معقدة بالنظر إلى الأسلحة الكيماوية والبيولوجية من قبيل “الخيارات المحّرمة”، وأُبرِمت من أجل ذلك اتفاقيات دولية، وأنشئت منظمات خاصة بها. وغدا اللجوء إلى السلاح الكيماوي والبيولوجي في أي حرب أو نزاع مسلح، وكأنه المحرم الذى لا يدانيه محرّم آخر، برغم تواصل الأبحاث الأساسية والتطبيقية والتطويرات التجريبية في كلا الحقلين دون انقطاع، وخاصة من قبل تلك (القوى العظمى) وفى الصدارة منها كلّ من الولايات المتحدة و روسيا و الصين.
أما الأسلحة النووية فقد كان لها شأن آخر. فقد تم “الاكتشاف” الابتكاري للقوة التدميرية الكامنة في نواة الذرّة، الوحدة الأولى في بنية المادة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، و بلغ الأمر مدى غير مسبوق بإنتاج القنبلة النووية، الذرية فالإيدروجينية، فى أربعينات وخمسينات القرن العشرين، وباستخدام القنبلة الذرية بالفعل في خواتيم الحرب العالمية الثانية عام 1945 مما يعرف بقنبلة “هيروشيما ونجازاكى”، من أجل وضع “لمسة الختام” على الاستسلام الياباني في الحرب، ومن ثم نهاية حقبة تاريخية كاملة، وافتتاح ما يليها مما نعيشه حتى الآن، عبر مراحل مختلفة، وصور متنوعة .
وقد أدى الإدراك العام الدولي المتنامي بالقوة التدميرية الواسعة للأسلحة النووية، إلى إبرام “معاهدة عدم الانتشار النووي” NPT حيث تم التوقيع عليها (بالأحرف الأولى) بتاريخ الأول من يوليو عام 1968، ثم دخلت حيز النفاذ -لفترة محدودة- باكتمال العدد المطلوب للمصدّقين عليها، وذلك بتاريخ الخامس من مارس عام 1970 ، و بحيث يتم النظر في أمر انتهاء أجلها أو تمديدها، كما سنرى.
وتحت وطأة التنافس القطبي الثنائي خلال مرحلة “ما بعد الحرب” (1945-1990) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ثم روسيا “الدولة الوارثة للسوفييت”، تم عقد اتفاقية للحظر الشامل للتجارب النووية، والتي تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 سبتمبر عام 1996، وإن لم يقدّر لها أن تدخل حيز النفاذ حتى الآن. ولعلنا لا ننسى هنا تجارب فرنسا الاستعمارية في الصحراء الجزائرية منذ نهاية الأربعينات حتى استقلال الجزائر في الخامس من يوليو 1962، وما تزال آثار تلك التجارب شاخصة حتى الآن على أوجه البشر والحجر في الجزائر الشقيقة. ثم كانت هناك معاهدة “ستارت” START حول الخفض المتبادل للأسلحة الهجومية الاستراتيجية-من الرؤوس الحربية و آليات إطلاقها- بين الولايات المتحدة و روسيا، على عدة دورات، تم التوقيع على أولاها ( أو ما يعرف ب “ستارت الأولى”) في 8 إبريل 2010 والتي دخلت حيز النفاذ في 5 فبراير 2011 وتم تجديدها لعدة دورات. و قد تم الاتفاق في منتصف 2021 على تمديدها لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة. ولعل أهم العقبات التي تواجه (ستارت) عدم التوافق بين الطرفين -الولايات المتحدة و روسيا-على آليات محددة للتفتيش والتحقق. وتجدر الإشارة هنا إلى اجتماع فني مزمع بينهما مكرس لهذا الغرض وذلك في العاصمة العربية المصرية القاهرة خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2022.
وعودٌ إلى “معاهدة عدم الانتشار النووي”، فقد تفتقت أذهان (القوى العظمى) وخاصة (القوة العظمى الوحيدة!) في حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، على العمل من أجل “التمديد الأبدي” للمعاهدة، مع عقد مؤتمر للمراجعة الدورية للمعاهدة كل خمس سنوات وكان أحدثها المؤتمر العاشر الذي انعقد في نيويورك في 30 أغسطس من هذا العام 2022 مع فشله في إصدار البيان الختامي، نظرا للخلاف بين القوى النووية الرئيسية، و الذي تفاقم على وقع “الأزمة الأوكرانية”.
هذا و كان قد تم الاتفاق على “التمديد الأبدي”–كاتفاق “إذعان” في الحقيقة وبضغط قوي من الولايات المتحدة بالذات- خلال مؤتمر المراجعة المعقود بمناسبة مرور 25 عاما على دخول المعاهدة حيز النفاذ، بتاريخ 11 مايو 1995، و هي المدة التي كانت مقررة لها أصلا كأجل زمني مقطوع.
و يشار إلى أنه في ذلك الوقت البعيد، أواسط 1995، حاولت مصر ومعها عدد قليل من الدول، إبطاء وتيرة العمل من أجل “التمديد الأبدي” ثم حاولت ربط مطلب التمديد، بطلب موازٍ لإدخال الكيان الصهيوني إسرائيل في كنف المعاهدة التي لم تنضم إليها أصلا. ثم حاولت العمل على دفع ذلك الكيان للانضمام، على الأقل، ل “اتفاقية الضمانات الشاملة والتفتيش المفاجئ على المرافق النووية”، برغم حيازته للقدرات النووية ثم للسلاح النووي منذ 1957، كأداة غير مشروعة للردع الإقليمي، في ظل ما يسمى ” الغموض الاستراتيجي” المتعمّد، أي حيازة السلاح ولكن دون إعلان. كما ذهبت أدراج الرياح المحاولات الرسمية العربية من أجل الاتفاق على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، بهدف جعل الكيان الصهيوني منزوع الأنياب النووية.
هكذا سيطر مزاج “النفاق الدولي”، وإن شئت فقل التواطؤ الصريح أو الضمني بين الدول النووية الخمسة المعلنة التي اعترفت لها (معاهدة عدم الانتشار) وحدها برخصة حيازة السلاح، باعتبارها “الدول النووية” الوحيدة، دون قابلية لنشره خارجها. إنها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (روسيا) والصين وفرنسا وبريطانيا، وغير ذلك وجدت أربع دول وكيانات نووية غير معلنة هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية والكيان الصهيوني إسرائيل . مع ملاحظة أن كوريا الشمالية قد أعلنت نفسها –مؤخّرا و أخيرًا- كدولة نووية، بمقتضى القرار الصادر من برلمان (جمهورية كوريا الديموقراطية)- “مجلس الشعب الأعلى” بتاريخ 8 سبتمبر 2022.
و لقد أخذ يطل علينا شبح الحرب النووية، الذى يتحول سريعًا من حيز التكهن إلى حيز الاحتمال- الأكيد أو غير الأكيد ، على وقع تطورات الأزمة الأوكرانية الراهنة. فلم يعد الحديث يجرى حول مجرد إمكان نشوب (الحرب العالمية الثالثة)، فقط، ولكن الحرب النووية بالذات. أفأرأيتم إذن إلى أين يقودنا الصراع الأعمى، الذى يجرى بقيادة قوة عظمى (بغير ضمير) -الولايات المتحدة كقوة عاملة على تأجيل سقوطها بعد اضمحلالها، ولو عن طريق المقامرة بامتلاك ونشر وربما استخدام الأسلحة التدميرية الشاملة، نووية وكيماوية وبيولوجية.
والآن وقد أطلّ الشبح، شبح الحرب النووية العالمية، ليصبح جَدّاً من الجَد بدون هزل، هل آن الأوان للعمل على خيار(مسكوت عنه) – كما يقولون، وهو الخيار الذى كانت أبرمت معاهدة (عدم الانتشار) تحت ظله الظليل ..! ، أي التصفية الكاملة للأسلحة النووية ..! إن ذلك لم يعد خيارا من أجل شيء من الرفاهية، ولكن من أجل إنقاذ البشرية من الفناء المؤكد، كليا أو جزئيا.
ومن أعجب العُجاب، أن يبتعد خيار التصفية الكاملة للأسلحة النووية، وغيرها من أسلحة التدمير الشامل، والأسلحة الواقعة تحت مستوى “التدمير الشامل” باتجاه “الدمار المتوسط…”! .. هذا بينما ترتفع عالية نبرة الحديث عن الحرب التدميرية، ولو كانت من قبيل “الأسلحة النووية التكتيكية و ما يسمى بالقنبلة القذرة، على جبهات ساخنة بالفعل، وذلك على ألسنة، و بأيدي الذيول التي تعمل كبؤر متفجرة التوتر العالمي و الإقليمي، في سياق حروب بالوكالة للدمار البشرى (وما كيانات أوكرانيا وتايوان و الكيان الصهيوني إسرائيل ببعيدة).
إنه التناقض الملغز الذى يلفّ عالم “البشرية المعذبة” في زماننا. فحيث، و حين، يجب البحث عن أي سبيل لتصفية أسلحة الدمار الشامل، وقد أصبح احتمال استخدامها، قريبًا بعد أن كان بعيدًا، يجرى شحْذ النقيض على قدم وساق، من أجل زيادة حدة التوتر الحربي، إلى حد التلويح بالحرب النووية .
فإلى أين نسير، وألا يوجد على أرض الكوكب المعذب، (رجل رشيد..!) يبعد خيار الحرب العالمية النووية، ويزيح شبح التدمير الذى لن يبقى ولن يذر…؟!
وإنّا لفي الانتظار على أحرّ من الجمر ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى