رأي

جزائر الثمانينات.. بين الانفتاح والاستبداد.

**

مع مجيء (الشاذلي بن جديد) ورحيل (هواري بومدين)، بدأ الحديث عن ظهور الثراء والأثرياء، واستغلال النفوذ من طرف بعض المقرّبين لدائرة الرّئيس وحاشيته وأخذ مثل هذا الكلام ينمو وينتشر ”كالفطر في أماكن الرطوبة“.

وانعكس ذلك على الحياة العامّة، وظهرت ملامح البذخ والترف من خلال استيراد المواد والسلع النّادرة لم يكن معظم الجزائريين يحلمون بها، ولا حتى رأوا مثلها في قناتهم اليتيمة. وتهافت الناس بنهم على أنواع هذه البضائع والمواد المستوردة، وكثر الكلام عن تيسير الأمور لمن كان يرغب في الذهاب إلى الخارج، وتسابق الجزائريون من الجنسين وكل من كان يحمل جواز سفر إلى البنك من أجل اقتناء العملات الأجنبية.

ومع هذا الانفراج، راح بعض المواطنين يسخطون على نظام بومدين يصفونه بـ”المستبد“ الذي حرمهم من لذّة العيش وما طاب، ويترحّمون على (الشاذلي بن جديد) الخلوق و”صاحب القلب الأبيض“ الذي فتح لهم الأبواب التي ظلّت موصدة خلال كل السنوات.

وكان لهذا التحوّل المفاجئ في السياسة العامّة انعكاس على سير المرافق والمؤسّسات المحليّة، وكنّا نحن أبناء الثانوية من ”المستفيدين“ الأوائل من هذا الانفتاح الذي كانت بدايته القيام ببعض الإضرابات لجس النّبض. ثم تلاه إضراب آخر؛ مرّة على نقص الوجبات المقدّمة، ومرّة على أستاذ مادة متغيّب… وبدت الفرصة سانحة لمغادرة النظام الدّاخلي، وكنت واحدا من الذين قرّروا ”التحرّر“ من قبضة النّظام الدّاخلي الصارم، كما تخلّص الشعب الجزائري من نظام (بومدين) ”المستبد“.

وبعيدا عن رقابة الأهل والمسئولين، التقطني الشارع ووجدتُ نفسي حرّا طليقا كالطير في السماء. فصار بإمكاني أن أفعل ما أريد، وقد غدوتُ سيِّد قراراتي. وتماديتُ، فكنتُ امتنع عن حضور بعض الدروس لأنّها في اعتقادي ليست مهمّة.

وأذكر أنه تعاقب على الثانوية في تلك السنة عدة مسئولين، وذهب أساتذة وحضر آخرون؛ وكان من بينهم من التحق بالخدمة الوطنية ثم عاد ليكمل المدّة بصفة ”مدني“. وكنا نحن ”المستفيدين“ في ظلّ هذه الحركة، وهذا ”اللا إستقرار“.

ومن آثار هذا الانفتاح الكبير والتحوّل المفاجئ أيضا، أرتفاع مؤشّر السّعادة لدى الشعب المتعطّش للحريّة؛ ارتفاعا جنونيا سيما بعدما تخلّص من القيود الأمنية والبيروقراطية.. وحتى ”الأخلاقية“ في بعض الحالات؛ بعدما أمست بلدان بعينها مثل تونس والمغرب وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية التي صارت ”على مرمى حجر“ بالنسبة للجزائريين الذين جاءتهم فرصة لاتعوّض. وما شجّع الجزائريين أكثر هو قوّة الدينار آنذاك، مقارنة بالعملات الأجنبية. وكذلك التسهيلات التي يجدونها عند استخراجهم لجواز السّفر. وصار بإمكان كل جزائري الحصول على جواز سفر والذهاب إلى الخارج؛ ”الدخول إلى الجنّة“، إلّـا من أبى.

لم تكن لدينا فكرة عمّا يجري من تغييرات في أعلى هرم السلطة، ذهبت وجوه وحلّت أخرى وكل ذلك لم يكن يحظى باهتمامنا. ولكن الذي كان يشغل عقولنا الصغيرة آنذاك هو تلك ”الحريّة“ التي انتزعناها ولم نكن نحلم بها يوما ولم يخطر ذلك ببال أحدنا. وكذلك شاشة التلفزيون وقناتها ”اليتيمة“ التي كانت هي الأخرى قد تأثّرت بريّاح التغيير فراحت تبثّ الأفلام والأغاني المُغرية، وكنا بشدّة مولوعين بالأغاني والأفلام الغربية، نمضي معها آخر الأوقات من ليالي نهاية الأسبوع.

وكانت هذه الأغاني والأفلام ”المادة الدسمة“ للكلام المشوّق ونحن في طريقنا إلى(سدراتة)للالتحاق بالثّانويّة. ولم يكن الكلام حول حياة النجوم ”مادّة دسمة“ فحسب، بل كان بمثابة ”جرعة الصبر“ المنعشة لروح الأمل فينا، ونسيان المعاناة المتمثّلة في قلّة المصروف؛ مصروف الجيب، وندرة وسائل النقل. وقد شجّع كل ذلك على ظهور آفة التسرّب المدرسي، ودفع ببعض المعوزين إلى التخلّي نهائيا عن الدراسة.

ضائعٌ بين أقرانه

ج(3)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى