تقديس البشر !
د. صادق السامرائي
المجتمعات المغلوبة على أمرها تميل إلى إضفاء القدسية على البشر لتتحرر من المسؤولية، وتتوهم أنها على صراط مستقيم، وقد تخلصت من مشقة إعمال العقل في تحديات الحياة، والبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلتها الناهضة أمامها.
وقد إنتقل الوعي البشري من البشر الإله إلى البشر نصف الإله، وبعد ذلك إخترعَ البشر الذي يحكم بأمر إله، ومن ثم صار الميل الشديد نحو إضفاء القدسية على البشر وإتخاذه قدوة ومعيارا للسلوك.
وهذه بعض القراءات للنفس المنشغلة بالتقديس، وما معنى البشر المقدس في وعيها المستتر، الذي تترجمه بسلوكياتها الفاعلة في الواقع الذي تعيش فيه.
البشر المقدس
المُصنع في غرف لا وعينا منذ إبتدأنا الخطو فوق التراب والغرق في المجهول الذي يغمرنا، فكانت الآلهة تحكمنا، ومن ثم أنصاف بشر وآلهة، وكم تزوجت الآلهة المتصورة بشرا منا، وكانت أنظمة الحكم الأولى مرهونة بالإرادة الإلهية، التي تعطي الصلاحيات المطلقة لبشر مقدس يجلس على كرسي العبث بوجودنا، حتى إنتهينا إلى صيغ التقديس والتأليه التي إتخذت صنوفا متعددة، يختصرها الكرسي الذي يتحكم بمصير العامة عبر الأجيال.
البشر المقدس
بشر مثلنا من لحم وعظم ودم، يأكل وينام ويقضي حاجاته ويمارس الجنس بشراهة أكثر منا وينجب ويمرض ويموت، ولا يختلف عنا في شيئ على الإطلاق، إلا أنه صار رمزا وصورة في خيالنا، حلقنا بها في علياءٍ لا يعرفها، وأضفينا عليه صفات لا يفهمها ولا يدركها .
فأصبح وعاء مشاعرنا الخفية ودوافعنا المستترة، كأننا نرى فيه ما لا نراه فينا وفي واقع حالنا . فلا نراه ولا نعرفه ، وإنما نعيش وهما ونتأمل سرابا ونركض وراءه بكل طاقاتنا الإنفعالية وعواطفنا، وما عندنا من قدرات مسخّرة لتبرير هذا اللهاث وراء اللاموجود.
وبما أن ما فوق التراب يعود للتراب، فعلينا أن نخرج هذا الموجود الوهمي من قيود التراب ونحرره من جاذبية الأرض وغلافها الجوي، ونطلقه كالصاروخ في الأكوان، ونسميه كما نشاء، ووفقا للحاجات التي نرضيها ونتمكن من تحقيق نداءاتها المتدفقة، ونوازعها المتواترة التي تفيض كل وقت، ولا يمكن لسدٍ أن يكبح جماح تياراتها الجارية.
البشر المقدس
الذي نصنعه لكي يأكلنا ويمتص جهودنا، ونتمكن من سكب عواطفنا في حضرته وإطلاق مشاعرنا بقربه، فنشعر بخفة الأعماق وطهارة الآفاق وهدوء البال، فلا ضمير يحاسب ولا عقل يراجع ولا إرادة تفعل، بل إستسلام وخنوع وتبعية وإذلال وهوان، وإنسحاق وفقر وجوع وآلام ومسكنة وضياع وإنتماء للقبور، والسعي نحو الموت بحجة سوء الحياة، وأنها زائلة ولا قيمة فيها وعلينا بالباقية.
البشر المقدس
نتماهى جماعيا معه، ونذوب هستيريا فيه، وننتمي إنفعاليا إليه ونلتصق عاطفيا به، ويصبح إمتدادنا المثالي وصوتنا الذي لا نطلقه، وكلامنا الذي لا نقوله، ورغباتنا المخنوقة الكامنة فينا وأفكارنا المحلقة في فضاء السراب.
هو إمتداد الأنا الجمعي المعطرة بالأوهام والتصورات الهذيانية والإنقطاعات التامة عن واقع الحال، ويؤلف صورة براقة من صور المحال المنغرس في كياننا السحيق، وهو يدنا وفعلنا ونفسنا التي تزعم التحرر من قيد السوء وسجن التضليل والبهتان.
هو الحقيقة التي لا نعرفها، والمدى الذي نجهله، ومستودع مخاوفنا وهواجسنا ومشاعرنا الصعبة، وآلتنا في تحقيق ما لا يتحقق، لكنه يكون في هذا المقدس المصنوع من عناصر السراب، وطاقة الوهم الخلاق الفاعل في ربوع وجودنا المجهول.
البشر المقدس
لا يمكننا أن نرى الحياة بدونه، لأننا لا نريد أن نعرفها ونحسبها فيه، ولا نريد أن نتفاعل معها أو نضيف إليها أو نسابق زمنها، بل الإنزواء في أحضان البشر المقدس وتفريغ طاقاتنا المكبوتة وأحلامنا المؤودة ومشاعرنا المعتقة، حول ما يرمز إليه أو يشير إلى صورته المتخيلة وفعله الخارق، وصوته الطارق وعزمه الحارق، ويكفينا أننا لا نستغني عنه، وننسى الله لأنه بعيد لا نراه، ونتمسك بهذا الذي يأخذنا إلى حيث تطمح النفوس وتسعى الأعماق، وتتأمل النوازع الكامنة في دياجير ذواتنا وجحور مآسينا، والتي نؤديها كأنها الطقوس اللازمة لسفك دمائنا وإيلامنا وتخديرنا، ليرضى علينا البشر المقدس الممزوج بالتراب الذي ندوسه.
البشر المقدس
هو الذي يذبحنا ويدمر وجودنا لأننا نلغي عقولنا ونحطم معالم صيرورتنا العاقلة، ونعيش في حالة الوهم والغيبوبة والهستيريا الجماعية، التي تأخذنا إلى دروب الآهات وتفتح علينا أبواب جحيمات الويلات، فنستمرؤها ونرقص وسط نيرانها ولا نشعر بحرارة جمرها، لأننا في نوع من الغياب أو الإنقطاع والإنشطار، وفي حالة من النكران الأعظم لواقعنا المرير، والإمعان في إستلطاف ما يجود به علينا خيالنا المعطر بكلمات البشر المقدس، الذي يسخرنا لغاياته ورغباته، التي إستطاع بواسطتنا أن يعبّر عنها أحسن تعبير.
البشر المقدس
البشر المقدس يفترسنا، يخربنا، يمتهننا ويهلكنا، ونحن ندور مأسورين بهذه القدسية التي إخترعناها والصفات الخيالية التي وهبناها، وما هي إلا إنفلاتا للنفس اللوامة المأزومة في داخلنا، والتي لا تستطيع أن تواجه النفس الأمّارة بالسوء التي تستعبدنا وتصادر كل ما فينا، وتلغي قوانا العقلية والمنطقية والواقعية وتدفع بنا إلى الإمتهان والإذلال، وتسخّرنا لتأكيدها والتعبير عن إرادتها، فنكون خدّامها وعبيدها ونحاول التخلص من هذا الشقاء النفسي، بصياغة البشر المقدس الذي يحررنا من إستعباد النفس الأمّارة بالسوء لنا، وبهذا نتآخى مع ضمائرنا ونشعر ببعض الأمان الداخلي، فنساهم في صناعة النفس المطمئنة السعيدة بأساليب المخادعة، وبالآليات الدفاعية النفسية الأولية، وعلى رأسها الإسقاط والتبرير والنكوص والنكران.
البشر المقدس
عاهة حضارية كبرى، مزقتنا ودمرت وجودنا وإستهلكت طاقاتنا وحطمت كياننا، وألغت ما عندنا من الطاقات والإمكانات والموروث الفكري والحضاري الوفير .
وبرغم تجاربنا الحضارية الكبيرة والثرية بالدروس والعبر، لكننا لا نراها ولا نعرفها ونذوب في حضرة البشر المقدس الذي نصنعه، ونوفر له أسباب إمتهاننا وإيلامنا وإجتثاث وجودنا المعاصر، لأننا نرفعه فوق عرش السماء ونضعه فوق الله في سلوكنا، دون أن نشعر من شدة الغيبوبة فيه والتماهي مع صورته، لأننا في لا وعينا المتقيّح، لا نؤمن بالله حقا وننكر وجوده أصلا، وما نفعله عبارة عن محاولة للهروب من عدوانية الأعماق، ومساوئها ودوافعها المتوحشة الشرسة، التي نريدها أن تتقنع بما يتفق وإرادة الضمير الحي المسحوق بسنابك الشر، فنوهمه بأن ما نقوم به هو الخير والفضيلة والمنطلقات التي تحقق الإنسانية، وتقضي على الحيوانية التي تستعبد ما فينا من نبضات وأحاسيس ورغبات وتطلعات دنيوية حامية فوق التراب.
البشر المقدس، الذي نعبده ولا نعبد ربنا بصدق وإنتماء ومعرفة ووعي، أو نحسبه وسيلتنا للتقرب إلى ربه أو ربنا، ونتغافل عن أن العلاقة ما بين الخالق والمخلوق مباشرة ولا تحتاج إلى وسطاء من بيننا.
فأين نحن من ربنا وديننا؟!
فإياك، إياك أن تمس رمزي المقدس الذي أضع على رأسه تاج أوهامي وشهواتي، فهو يمثل ضميري المستتر المدفون في مقبرة رغباتي الشرسة، وشروري المنكرة التي تتقنع بالأباطيل والافتراءات، وتدين بالكذب والتضليل والفساد والنهب والسلب وتحسبه رزقا من ربها العظيم، وتخر ساجدةً عند أقدام شيطانٍ رَجيم.