ثقافة

“العون” آخر إبداعات الأدبية التونسية نزهة المثلوثي في مجال الكتابة القصصية

“العَوْنُ” هي آخر إبداعات الكاتبة و الأديبة التونسية نزهة المثلوثي في مجال القصة و التي تطرقت من خلالها إلى إحدى الحالة المرضية التي كانت قد وقعت في زمن جائحة كورونا “كوفيد 19” و ذلك بالسرد المفصل و الدقيق لكل وقائعها .

“اقترب عون الأمن من السيّارة و كانت على الرصيف قرب وجهه من الزّجاج الأماميّ فرأى زوجي نائما و كنت حذوه و في المقعد الخلفيّ استلقت رضيعتي و لم يتجاوز عمرها سبعة أشهر …
ضرب بأصابعه على الباب ضربات خفيفة فالتفتّ مفزوعة و فتح زوجي عينيه و في لمحة البرق فتح باب السيارة و بعد تبادل التحية قال العون:

  • هات بطاقة التّعريف و أوراق السّيّارة.

أخرج زوجي محفظة يد من جيبه و فتحها ثم أخرج الأوراق المطلوبة و سلّمها له … قائلا

  • تفضّل
    كان الشّارع خاليا و اللّيل في ساعاته الأولى …
    تسلّم العون الأوراق و جعل يتأمّلها ثم قال :
    -ماذا تفعل هنا في هذه السّيّارة و في هذا الوقت الذي مُنِع فيه الخروجُ ؟! ألست مواكبا لما يجري ؟! إنه الحجر الصّحيّ الشّامل
  • نعم أعلم و لكن …
  • و لكن ماذا ؟ أنت لا تملك رخصة سياقة و السّيّارة ليست ملكك ؟
    هل سرقتها ثم هربت ؟ أصدقني القول… هيا ما الذي أتى بك إلى هنا لتنام جالسا…و زوجتك بجانبك و الصغيرة ألم تفكر بالحجر
    و خلاء الشوارع و أشرارها ؟ “

كانت تروي ما حدث في ولاية سوسة و ما قاله العون و ما كان في تلك الليلة العصيبة بعد أن أعلمتني أنّها تشتغل عاملة في مركز مندمج للطفولة
و بعد أن لقيتها في الصّباح الباكر جالسة على درج أمام البنك و طفل على يسارها و طفلة على يمينها قالت أنهما توأم أنجبتهما بعد توأم آخر و غفلة بعد أن قررت عدم الإنجاب….
كانت جميلة الملامح هادئة الطّبع بادرتني بحديث تشعّبت أطرافه حتى وصلنا إلى مكانة الأمّ و دورها فأخبرتني أن أباها توفي و أن أمّها رحلت بعد وفاته -مغادرة منطقة “العيون” إلى مدينة القصرين و أنها شمّرت عن ساعد الجدّ…
اكتفيت بالإنصات إلى حديثها الهادىء و لم أسألها رغم ما انتابني من فضول عن مهنة أمّها التي قالت أنها مهنة للرّجال…

لقد لفت انتباهي لطفها و عدم تلهفها على دورها الأول و أسبقيّتها بالصّفّ لمّا كثرت غمغمات المقبلات الواقفات لقد اختلفت عمّن صادفتهنّ من سليطات اللسان ذوات الملامح المتأهبة للشجار و النزاعات…
كانت تبتسم بصفاء و تضحك بصدق و لم تبرح الدّرج رغم الزّحام حولها و التّدافع نحو باب البنك …
قالت لي ضاحكة اليوم يقبض الموظّفون رواتبهم سيتكدّسون كلّهم هنا …
ضحكنا و واصلت حديثها :
“لقد انتبهت بعد أشهر من الولادة أن ابنتي مريضة..و أنّ ّحالتها خطيرة فأخذتها إلى المستوصف و عرضتها على الفحص فأعلمني الطبيب بضرورة نقلها على جناح السّرعة إلى مستشفى بولاية سوسة بعد أن سلّمني ظرفا وضع فيه ورقة كتب عليها بضع سطور و أمضى أسفلها…
فانطلقنا بها إلى المستشفى المقصود و ما إن فحصها الطبيب و فتح الظرف حتى طلب أن نجري لها تحاليل و نعود إليه على عجلة…
فتبين أنّ كليتها مريضة بسبب ضغط أخيها التوأم أثناء الحمل و أن شفاءها يتطلب الإقامة بالمستشفى و علاجها بحقن دواء و يكون بحقنة كل ساعتين …
و قالت إنّ سرعة ردّها الحسن أنقذت رضيعتها حين قال لها الطبيب :
“آسف جدا هذه فترة كوفيد و لا يمكن أن تقيم هنا ستجبرين على العودة بها… بانتظار وقت مناسب

  • لي قريبة هنا أستطيع أن أقيم عندها و أحضر بنيتي كل ساعتين…

-حسنا إذا “فلنبدأ العلاج “

روت لي ما دار بينها و بين الطبيب من حوار و ارتباكها عند توقعها سؤاله عن عنوانها هناك فقالت و هي تنظر لي مخاطبة و قد ارتسمت ملامح الحيرة و الفزع على وجهها و صوتها كأنّها مازالت بالمستشفى.
-ماذا كنت سأقول لو سألني عن عنوان قريبتي المزعومة ؟! لا أعرف سوسة و لا أعرف شوارعها
-أكيد بسرعة بديهتك ستقولين له “منزل قريبتي هنا قريب جدا في هذا الشارع…” و ضحكنا
و واصلت حديثها:

“لقد كانت فترة علاجها صعبة جدا أقمنا شهرا كاملا في سيّارة أحد أقاربي و التي كانت مورد رزقه
فاندهشت و خاطبتها…
-هل أعطاها لكما و بقي شهرا بلا دخل؟!!!
“-نعم إنّه من أقاربي رافقنا بسيارته مجانا ثم تركها و قال لا مشكلة ابقوا في السّيّارة و سأرجع بطريقتي..”

-يا للعظمة !!! أنتابني شعور هزّ قلبي و وجداني…
.و أَردفَتْ بعد ثلاثة أيام لحقني أخي حاملا أدباشي و ملابسي و بعض ما يلزمنا …

و بقيت أُدْخِلُ بنيّتي إلى العلاج كل ساعتين و أرجعها إلى السّيّارة و كان العلاج مكلّفا جدا و المصاريف كثيرة …و المستلزمات غالية الثمن فجمع لي أقارب زوجي مبالغ مالية لتسديد كل ما أحتاجه للعلاج …

  • ما أروعهم !! و ما أحلاكم !! و ماذا فعل بكم عون الأمن و قد خالفتم قانون الحجر الصحيّ؟
  • لما علم بحال ابنتي و علاجها قال
    -لا تقلق ستُشفى بإذن الله .
    و أعطانا رقم هاتفه للاتصال به عند أي طارىء و كان يتدبر لنا الأمور و يكرم الوفادة
    -إنه عون شهم و نبيل انسان حقا بتقديره لأولوية شفاء الرضيعة و حياتها.

فمزيدا من العطاء الفكري و الأدبي المتميز للقاصة و الشاعرة التونسية المبدعة نزهة المثلوثي ، مع أمل النجاح و التوفيق في حياتها اليومية ، الإجتماعية منها و المهنية و كذا مزيدا من التألق في عالم الفن و الثقافة ، محليا و عربية .

الطيب بونوة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى