الطبيعة القانونية للجنسية
ماجد حاوي الربيعي
الجنسية رابطة قانونية سياسية ينظمها القانون ويحدد أسباب التمتع بها وزوالها والأثار المترتبة عليها، فهي ليست علاقة من العلاقات ألأدبية أو الاجتماعية التي قد لا يتولد منها أحيانا حق ولا يترتب عليها التزام قانوني، وإنما تنتج عن علاقة الجنسية دائماً عدة حقوق والتزامات قانونية بين طرفيها (الدولة والفرد) ولهذا ترقى الجنسية إلى مرتبة العلاقات التي تولد الآثار القانونية، فالروابط التي تربط الفرد بأمة معينة أو بجنس معين ليست إلا روابط أدبية واجتماعية لا يمكن أن تكون أساسا لحقوق وواجبات قانونية. وقد اختلف الفقهاء حول صبغة الطبيعة القانونية لرابطة الجنسية فذهب فريق منهم إلى أنها عقد تبادلي بين الفرد والدولة وذهب البعض الأخر إلى أنها نظام قانوني تشرعه الدولة.
أولا: الجنسية رابطة تعاقدية
لقد حاول الفقهاء منذ بداية القرن التاسع عشر أبرزا دور الفرد وأهميته في إدارة حكم الدولة، ويكون ذلك بالاعتماد على رابطة الجنسية فلم يؤيدوا فكرة الولاء الدائم السائدة منذ العهد الإقطاعي والتي لم تعترف بأي اعتبار للإنسان، بل أنه كان يعيش ويموت وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً، فأراد الكُتاب إنهاء هذه الحالة من خلال تقديم بعض النظريات التقدمية التي تفسر رابطة الفرد بالدولة.
فقد أضفى بعض الفقهاء على هذه الرابطة طبيعة تعاقدية على اعتبار إن انتساب الفرد إلى دولة ما حالة تنشأ عن عقد تبادلي بين الدولة والفرد. وقد اختلف الفقهاء في نوع هذا العقد فرأى بعضهم أنه عقد بين الفرد والدولة بمقتضاه تمنح الدولة للفرد حقوقاً مدنية وسياسية وتتعهد بحمايته وحماية مصالحه في الداخل والخارج ويلتزم الفرد بالمقابل باحترام قوانين الدولة وحمايتها. هذه هي نظرية الأستاذ فايس وهي في الحقيقة تجديد لنظرية الفيلسوف الفرنسي الكبير جان جاك روسو في العقد الاجتماعي إذ أقام روسو أساس الدولة أو المجتمع على عقد نزل فيه الأفراد عن حريتهم الطبيعية لقاء حصولهم على حماية المجتمع ورعايته. إن قوام هذا العقد هو إرادة طرفيه وللوقوف على إرادة طرفي الجنسية أجهد “فايس” نفسه في الاستدلال على مظاهر الإعلان عن هاتين الإرداتين. فقرر إن الدولة تفصح عن إرادتها مقدماً بما يرصده الشارع من قواعد وأحكام تحدد مختلف الشروط التي تثبت بها الجنسية سواء كانت أصلية أم مكتسبة. ففي الجنسية الأصلية يكون إيجاب الدولة موجه للجميع وفي إطار الجنسية المكتسبة تكون إرادة الإيجاب خاصة موجهة لفئة معينة وهي فئة الأجانب في الغالب وبالمقابل تكون إرادة القبول صريحة في إطار الجنسية المكتسبة تارة كما هو الحال في التجنس وضمنية تارة أخرى كما هو الحال في إلحاق الزوجة بجنسية زوجها بفعل الزواج المختلط. وقد تكون إرادة القبول افتراضية لدى بعض الأفراد كالصغار عديمي الأهلية الذين يفترض بهم اختيار جنسيتهم الأصلية التي تثبت لهم منذ ولادتهم على الرغم من انعدام أهليتهم لذلك.
ويرى البعض ألأخر من أصحاب هذه النظرية ومنهم العلامة أيسي ومعه بعض الشراح إن هذا العقد بين الفرد والدولة هو شبيه بالعقد المنشئ لجمعية أو لشركة حيث إن الدولة ما هي إلا شركة ورعاياها هم أعضاؤها والجنسية صفة العضوية فيها. ولا تخلو هذه النظرية (العقدية) من الانتقاد حيث إن الإرادة المفترضة التي قال بها فايس والتي تنسب للمولود عديم الإرادة لا وجود لها ألبته. وإذا كانت الجنسية تفرض على الشخص عند ولادته فهي تفرض عليه بحكم القانون دون اعتبار لإرادته، أذن فلا مسوغ لكلام الفقيه عن وجود رابطة عقدية أساسها التراضي في وضع تكون فيه إحدى الإرادتين منتفية لا وجود لها. وان اللجوء لفكرة الإرادة المفترضة في هذا الغرض ليس إلا مجرد حيلة قانونية تهدف إلى إخفاء انعدام وجود هذه الإرادة، وإذا كانت إرادة الفرد تلعب دوراً بصدد الجنسية المكتسبة فلا يمكن التعويل عليها للقول بأنها رابطة تعاقدية وذلك لأن الدولة تملك أن تجرد الفرد من هذه الجنسية في حالة ثبوت عدم أهليته لها دون أن يعد ذلك انتهاكاً منها للرابطة العقدية. كما إن الرابطة التعاقدية تشترط توافق إرادتين لنشاؤها في حين إن رابطة الجنسية تكون فيها الدولة حرة في تنظيمها ومنحها وسحبها وفق ما تقضي مصالحها العليا وظروفها الاجتماعية وأحوالها الاقتصادية والسياسية كما تستطيع تغيير أحكام الجنسية أو تبديلها دون الرجوع إلى إرادة الفرد وهذا خلاف العقد الذي لا يمكن إنشاءه وتعديله وإنهاءه إلا بإرادة وموافقة طرفي العقد.
أما بالنسبة إلى تشبيه العقد بين الفرد والدولة بالشركة فأن هذا الرأي ليس له سند قانوني لان هناك فرق بين العلاقة التي تترتب بين الشركة وأعضاؤها والتي تخضع للقانون الخاص، والدولة ورعاياها والتي تخضع للقانون العام.
ثانيا: الجنسية رابطة تنظيمية
يميل الفقه في مجموعهِ إلى تكييف الجنسية على اعتبار أنها رابطة غير عقدية بل هي رابطة تنظيمية فالدولة هي وحدها المنوط بها تحديد ركن الشعب فيها تبعاً لما يحقق مصالحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي في هذا المجال لا تعتد بإرادة الأفراد الصريحة أو الضمنية بحيث يقتصر دور الفرد على الخضوع للنظام القانوني الذي تنفرد الدولة ببيان أحكامه وذلك متى توافرت الشروط المتطلبة.
فليس للفرد أن يغير أو يبدل من تلك الشروط بأي حال من الأحوال فإذا توافرت الشروط اللازمة لاكتساب الجنسية في فرد معين فأنه يكتسبها وفي هذه الحالة له أن يتمسك بها تجاه الدولة والأفراد الآخرين وقد يكون لإرادة الفرد دور ايجابي في العلاقة القانونية ولكن في حدود ضيقة كما هو الحال في التجنس. ويكون دور الإرادة هنا ليس دوراً إنشائيا بل يقتصر على تهيئة الوقائع التي يرتبط بها ألأثر القانوني دون أن تكون مصدره المباشر وبالتالي فأن دور الإرادة يتحدد في هذه الحالات بالنطاق الذي ترسمه الدولة نفسها. ويؤخذ على هذه النظرية إهمالها لدور إرادة الفرد في مجال الجنسية ومبالغتها في تأكيد دور الدولة في هذا المجال لذا فان التشريعات المعاصرة وان كانت تميل في غالبيتها إلى ترجيح هذه النظرية ألا أنها تحاول أن تخفف من عموميتها وذلك بالسماح لإرادة الفرد أن تلعب دوراً في مادة الجنسية طبقاً للأصول المثالية السائدة في هذا المجال.
ومما تقدم يتبين إن الجنسية هي علاقة قانونية تنظم بقانون يحدد شروط فرضها ومنحها وفقدانها واستردادها وتغلب في تنظيم أحكامها إرادة الدولة على إرادة الفرد وذلك استناداً لما يعبر عنه بمبدأ (حرية الدولة في تنظيم أحكام جنسيتها) وهو من المبادئ المسلم بها فقهاً وقضاءً.