الساعة البيولوجية للأطفال
تبدّلات الساعة البيولوجية عند الاطفال يوسف المحسن كاتب، روائي
يجيء عام دراسي جديد ، تغادرنا عطلة صيفيّة، من بين اشهر العام هو الاكثر إحداثاً للتغيير في نفوس الطلبة والتلاميذ وحركة المجتمع، لها حضورها في انعاش المساحة الروحية بداخل الانسان نحو الافضل، على المستوى الجسدي والبدني لها ذات التأثير ايضا، فيما موسم العطلة الصيفيّة يقلب اوقات الصحو والنوم ويغيّر النظام الغذائي، يضع بصمته على الايقاع اليومي او ما يطلق عليه الخبراء التواتر اليومي والذي يسير خلال ثمانية اشهر وفقا للساعة البيولوجية الداخلية للإنسان والتي تتبدل مع استقبال العام الدراسي الجديد.
والساعة البيولوجية هنا هي الضابط للأنماط السلوكيّة الدوريّة والتي تسير على ايقاع منتظم بالنسبة للأيّام والليالي والفصول او بالنسبة للتبدّلات الخارجيّة كالليل والنهار ومعدّلات الرطوبة والحرارة والضغط الجوي والمد والجزر وسرعة واتجاه الريح، هي ما يقود سلوك الفرد تجاه هذه المتغيّرات وهي بذلك تمنح اشارات مختلفة وبالتالي تتغير ايقاعاتها ومجسّاتها وايعازاتها لأعضاء الجسم.
والساعة البيولوجية موجودة عند الطيور لتحدد رحلتها واوقات تحليقها وهجرتها وعند الحيوانات لتحديد فترة سباتها الشتوي وعند النباتات للاستدلال الى اوقات تفتح الزهور والاوراد، اما عند الانسان فهي ليست ساعة كالتي نرتديها او نضعها في جيوبنا او نتابعها في الساحات العامّة والملاعب، انّها مجسّات الايقاع الداخلي للجسم الانساني، واغلب الدراسات تذهب الى ان تركيزها الكيمياوي والعضوي موجود في المخ وتحديدا في النواة فوق التصالبيّة، فهي مجسّات تستجيب لما يتلقّاه الجسم من معلومات خارجيّة كالضوء والحرارة والجهد والطاقة لتحفز الجسم على الاستجابة.
وفي موسم العطلة الصيفيّة تطول ساعات السهر ويبقى الاطفال والفتيان والشباب نياماً لساعات اطول خلال النهار، ويتقلّص النظام الغذائي من ثلاث وجبات وما بينهما الى وجبتي الغداء والعشاء، ما يلقي بظلاله على الساعة البيولوجية والتي يُعرِّفها العلماء بانّها الساعة التي تحافظ على ايقاع الفعاليات الحيويّة اليوميّة او الشهريّة او الفصليّة، والتي تعمل لضبط اوقات النوم والصحو ودرجة الحرارة وغيرها.
وعلى ذلك فهي متوافرة في انحاء الجسم كجزيئيّات نشطة متفاعلة مع الخلايا تستجيب للعوامل الخارجيّة وتوزِّع الايعازات فيها، فهي نظام سيطرة لا اراديّة واستجابيّة للفعاليات الحيويّة، ويرتبط بجينات وبروتينات متوزِّعة في الجسم، وتذهب كثير من الدراسات الى انّها تتجاوز عشرين الف خليّة عصبيّة ومركزها موجود في جزء من الدماغ يقع فوق العصب البصري تحديدا وهي المتوليّة للفعاليات الحيويّة الجسمانيّة.
ولانَّ اوقات العطلة تشهد ساعات متباينة وطويلة من الاسترخاء والتعب والفرح والنوم والصحو …الخ، فهرمونات الساعة البيولوجية تملي على اعضاء الجسم الايعازات المرتبطة بمعدّلات النبض والسُكّر في الدم والكثير من الافعال غير الاراديّة كمثل انتاج الخلايا والنمو والنعاس.
خارطة النوم وايّام العطلة:
وتتغير في العطلة الصيفيّة خارطة وقت النوم، فهي تنحسر في مقابل ساعات سهر طويلة مصحوبة بتناول وجبات غذائيّة ومأكولات سريعة ومشروبات والقيام بنشاطات وفعاليّات لم يكن لها حضور في اوقات دوام المدارس، ويقول الاطبّاء ان مادّة كيمياويّة يدعونها الميلاتونين ينتجها الجسم البشري بشكل طبيعي هي المسؤولة عن الشعور بالنعاس، وهي غالباً تنتج في ساعات الليل او اوقات الظلمة، ويحتاج الجسم الى فترة للتأقلم مع الايعازات الجديدة او التعافي والعودة الى ايقاعات التبدّل الجديد في المنهاج اليومي .
الدكتورة سندس برهان وهي متخصّصة وتدريسيّة في كليّة التربية البدنيّة وعلوم الرياضة بجامعة المثنى ان محاصرة الضرر المتوقّع نتيجة تبدل الساعة البيولوجية يبدأ من ايام العطلة ذاتها من خلال المحافظة على نمط حياة مقارب لما اعتدنا عليه وعدم السهر لساعات كثيرة لان ذلك يؤثر على تركيز الانسان، برهان اضافت “هناك عادات خاطئة لاحظتها عند الكثير من العوائل حيث تترك الحبل على الغارب للأطفال والفتيان مثل السهر لساعات طويلة وقيام الافراد بتغيير نظام حياتهم بشكل جذري وفجائي وهو ما يسبب ارباكاً وتغييراً حادّاً في الساعة البيولوجية ومدى استجابتها ودرجة تحفيزها لأعضاء الجسم”، وعن طبيعة هذه الاستجابات والتغييرات الحادّة في عمل الساعة البيولوجية يقول الاستاذ الدكتور حيدر بلاش ان الساعة البيولوجية هي ميزان تراكمي لردود الافعال عند كل شخص، ميزة وضعها الله سبحانه في عقل الانسان، هي التوقيت الخاص بكل انسان، هرمونات وانزيمات موجودة بالدماغ ومتصلة بأجزاء خاصّة تتحفز للتذكير بالفعاليات المعتادة والمصاحبة مثل النوم ودرجة الحرارة والجوع، بلاش وهو مدرب المنتخب الوطني بألعاب القوى وعميد كلية التربيّة البدنيّة وعلوم الرياضة بجامعة المثنّى اضاف “انصح دوماً بممارسة الرياضة بانتظام سواء في العطلة او الدوام المدرسي للحفاظ على ايقاع حيوي جسماني متوازن يضمن المحافظة على الحد الادنى من التشابه او التطابق في الفعاليات الحيويّة لان اختلاف وتغيير المواقيت الداخلية للإنسان قد يترك له اثار على فعاليّات انسانيّة مثل معدلات التعب والتركيز والاجهاد والانفعال ولهذا نلاحظ تغييرات تطرأ على الاستجابة الانفعالية لدى الاطفال والفتيان عند ايقاظهم صباحاً، والسهر وقلة النوم وعدم وجود الحركة هي اسباب رئيسيّة للتبدّلات التي تجري على الساعة البيولوجية”.
وبحسب بحث لفريق من جامعة غلاسكو فإن اضطرابات النوم يمكن ان تؤثر على سلوك الافراد بشكل مؤثر، الدراسة قالت “إن الساعة البيولوجية للجسم تعمل على تنظيم وقت النوم والتغيرات في مستوى الهرمونات ودرجة حرارة الجسم، وهي تقع في النواة فوق التصالبيّة بالمخ وفوق نقطة التقاء العصبين البصريين في قاع الجمجمة، و تمثل مركز التحكّم في الإيقاع اليومي للفرد، وتنظم الجداول الزمنية وتنسّق مع بقية الخلايا للوصول إلى ما يجب أن تكون عليه أنشطته على مدى اليوم”.
سلطان النوم
التراث الانساني يورد الكثير من الحكايات والقصص حول اهمية النوم الكافي واهمية الحفاظ على توقيتاته خاصة وان لا احد يستطيع مقاومة الاحساس بالنعاس وان لفترات متباينة، وفي النهاية.. لا شخص على وجه الارض يستطيع مواجهة مارد النوم او لنقل سلطان النوم ليوم او يومين وربّما اكثر في حالات نادرة، وقصّة سلطان النوم وسبب التسمية تقول بحسب ما عثرنا عليه ” إنّ مشاجرة نشبت بين الريح والشمس والمطر والنوم، على مَن يكون فيهم الأقوى من الآخرين، فقرّروا إبراز قوّتهم بأي طريقة، وبينما كانوا يفكرون في طريقة مناسبة، مرّ رجل من أمامهم وهو يحمل في يده رغيف خبز، فقال أحدهم: لنرى مَنْ يستطيع أن يأخذ هذا الرغيف من الرجل؟. هبّت الريح بشدة لتخطف الرغيف من يد الرجل، غير أنه امسكه بقوة ولم يتركه، وجاء المطر ليُثبت قوّته وقدرته على سلب ذاك الرغيف، فهطل بغزارة، ولكن الرجل حمى الرغيف من قطرات المطر ولم يفلته من بين يده، ثم سطعت الشمس بقوة أشعتها الحارقة، ولكنّ الرجل ازداد تمسّكاً بالرغيف ولم يتنازل عنه، وأخيراً حضر النوم فلم يستطع الرجل مقاومته وغرق في نوم عميق، لينفلت الرغيف من يده بسهولة، وبذلك أصبح النوم هو السلطان”.
وعن ذلك تقول الدكتورة سندس برهان ان الساعة البيولوجية للإنسان مرتبطة بفعاليات حيويّة عدة وهي المسؤولة عن اوقات النوم والصحو لهذا انصح بالحفاظ على ساعات نوم كافٍ وعدم النظر الى النوم كفعالية غير مهمّة بل على العكس هو اعادة تنشيط للخلايا وله اهمّية بالغة في تركيز وانفعال وانتاج الانسان عقليّاً وجسديّاً، وتؤكّد الدكتورة برهان ايضاً على إنَّ الاسابيع التي تسبق انطلاقة العام الدراسي هي فرصة لأشياء كثيرة من بينها تعديل يوميات الاطفال وساعات النوم والاستيقاظ والنظام الغذائي والابتعاد عن الاكلات السريعة(الفاست فوود) والتنويع الغذائي المطلوب وتعديل ايقاع شرب كميّات وافرة من المياه بشكل منظم ومتوزع على طوال اليوم، مؤكدة ان من شأن هذه السلوكيات “ان تعيد ضبط ساعتهم البيولوجيّة بما يتناسب ومتطلبات التركيز والمذاكرة والتفاعل الدراسي”.
الدكتور بلاش من جانبه ختم بالقول ان قلة النوم وتبدل مواعيده من شانه ان يشكّل صعوبة للكثير من الاشخاص كفقدان التركيز والقلق والضغط النفسي والانفعال لكن هذه الاعراض يمكن ان تزول خلال اسبوع او اقل بمجرد اعادة الالتزام بالتوقيتات السابقة من مواعيد نوم واستيقاظ واكل وممارسة للرياضة، وغالباً ما يكون الاسبوع الاول من العام الدراسي فرصة لتعديل التوقيتات وعودة العقارب الافتراضيّة للساعة البيولوجية للدوران.
اما خطة الهجوم المقابل والتي لابد لأولياء الامور ان يسعوا للاستعانة بها فهي العمل التدريجي مع الاطفال والفتيان لتغير يوميات العطلة الصيفيّة والانخراط في متطلبات الدوام المدرسي وتوقيتاته مع توفير اجواء نوم هادئ ليلا وممارسة النشاط الحركي والرياضة نهاراً وعدم استخدام الاجهزة اللوحيّة بشكل مفرط.