أخبارإقتصادفي الواجهة

التكتلات الاقتصادية العالمية في دائرة التنافس والنفوذ

غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
دفعت الولايات المتحدة الاميركية، خلال انعقاد قمة مجموعة العشرين في نيودلهي-الهند، في
النصف الاول من شهر ايلول / سبتمبر 2023 ، في اتجاه مشروع ” ممر ” طموح يربط الهند
واوروبا، عبر خطوط السكَك الحديد والنقل البحري تمر بالشرق الاوسط، مع دور قيادي
للمملكة العربية السعودية.
وبالفعل، أعلن كل من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس وزراء الهند ناريندا مودي ورئيسة
المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن
انطلاق المشروع خلال القمة، وهو ممر يعتبر جزءاً من مبادرة أُطلق عليها “الشراكة من أجل
الاستثمار في البنية التحتية العالمية”.
وكان ولي العهد السعودي قد وقّع خلال انعقاد القمة، مذكرة تفاهم لمشروع اقتصادي يجمع بين
الهند والشرق الأوسط وأوروبا، برعاية أميركية.
وأشار بن سلمان الى أن “هذا المشروع الاقتصادي سيسهم في تطوير البنى التحتية التي تشمل
سكك حديد وبناء موانىء”، مؤكداً أن ذلك ” الممر الاقتصادي سيوفر فرص عمل طويلة
الأمد”.وانه سيزيد التبادل التجاري بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وسيعمل على مدّ
خطوط أنابيب لتصدير الكهرباء والهيدروجين”.
الرئيس الاميركي قال معلقاً على الاتفاق “انه امر مهم حقاً” متحدثاً عن اتفاق تاريخي خلال
مشاركته في ندوة جمعت القادة المعنيين.
من جهتها، اكدت رئيسة المفوضية الاوروبية اوسولا فون ديرلديين ان المشروع “اكبر بكثير
من مجرد سكَك حديد او كابلات” مشيرة الى ” جسر اخضر ورقمي بين القارات
والحضارات”. اما مستشار الامن القومي للبيت الابيض جيك سوليفان فقال ان هذا المشروع
يجب “ان يعزز التكامل في الشرق الاوسط”.
لم يكد حبر الاتفاق في نيودلهي يجف، حتى اعلنت الولايات المتحدة واوروبا انهما توحدان
جهودهما لدعم مشروع آخر للبنية التحتية، وهذه المرة في افريقيا. وهذا المشروع هو “ممر
لوبيتو”، الذي يربط جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا عبر ميناء لوبيتو في انغولا.

تأتي هذه الاتفاقيات، بعد نحو شهر من اجتماع دول البريكس الذي انتهى الى توسيع دائرة
الدول المنتسبة الى البريكس واطلاق مشاريع عدة مرتبطة به، وهو كان موضوع مقالنا للشهر
الماضي.
يبدو واضحاً، ان صورة التكتلات الاقتصادية تطغى على المشهد السياسي العالمي حالياً، مع
ترابط واتصال في حلقاتها السياسية والاستراتيجية، بسبب التداخل بين السياسة والاقتصاد من
جهة، والتحدي الاقتصادي الذي بات يحتل واجهة الاحداث من جهة اخرى.
مصطلح التكتلات الاقتصادية او ECONOMIC BLOCKS ظهر للمرة الأولى خلال
النصف الثاني من القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية. حين بدأت ظاهرة الاندماج
الاقتصادي او Integration economic بمفهومها التقليدي. ثم توسعت على شكل تكتلات
اقتصادية اقليمية. فكان ظهور النواة الأولى للاتحاد الاوروبي، المنبثقة من اتفاق الجامعة
الاقتصادية الاوروبية عام 1957 . وقابلها ظهور التكتل الاقتصادي الشيوعي في الاتحاد
السوفياتي والدول الدائرة في فلكه.
من الاسباب التاريخية لظهور هذه التكتلات، الوضع الاقتصادي العالمي في السبعينات وما
رافقه من انهيار لنظام ما كان يعرف باسم بترومين ووزر لاسعار الصرف الثابتة. وما
صاحبه من ازمات مديونية واقتصادية في العديد من الدول. كما من اسبابها ايضا صراع ما
بعد الحرب الباردة بين قطبي العالم ثم انفراط عقد الدول الاشتراكية.
اما ابرز اسبابها الحالية، فيكمن في رغبة دول كالصين وروسيا والهند في تعزيز مواقفها
ومكاسبها الاقتصادية، لا سيما بعدما باتت تحتل مواقع ومراكز قوى متقدمة على خارطة
الاقتصاد العالمي، كما ان تراجع الدور الاقتصادي العالمي للولايات المتحدة، لعب دوراً في
تشجيع تلك القوى على التقدم خطوات في الميدان الاقتصادي، فجاءت التكتلات من هنا
والتجمعات من هناك تلعب ادواراً مكملة ومعززة للتواجد الاقتصادي والرغبة في مزيد من
التوسع والانتشار، كما في الامساك بخيوط اللعبة الاقتصادية على مدار الكرة الارضية. انه
التنافس بادوات عالمية واقليمية متعددة.
في جوهر قيام التكتلات مبدآن اثنان: الاول يقول بضرورة التجانس في النظام السياسي
الديمقراطي، والتجانس في النظام المالي الليبرالي الحر، للدول المنضوية في تكتل واحد. مثل
حالة الاتحاد الاوروبي. ومثل هذا “الجوهر” اثبت نجاحاً، والدليل الاستمرار الفاعل والقوي
للاتحاد الاوروبي، حيث التجانس الاقتصادي والسياسي هو السائد.
والثاني يعتبر أن التكتل في حد ذاته، هو حاجة متبادلة اقتصاديا وسياسيا، وهو ذات نفع متبادل
للدول الاعضاء والشركات الكبرى. ولذلك فالتجانسان السابقان غير ضروريين لقيامه ولا
يشكلان حكماً شرطاً لوجوده. بدليل منظومة الدول التي قامت حول موسكو السوفياتية سابقاً.
وهو نموذج اثبت فشله حتى الان، بدليل سقوط المنظومة الاشتراكية السوفياتية، مع سقوط

الاتحاد السوفياتي، علماً ان علامات استفهام عدة كانت تُطرح حول استمرارها والدور الذي
لعبته في هذا المجال.
لا بد هنا من الفصل بين التكتلات الكبرى التي لدول المنطقة مصلحة بديهية في حجز مكان لها
فيها. وهذا ما فعلته دول الخليج وبعض الدول العربية مع تكتل بريكس. وبين التكتلات التي
تقوم على مستوى المنطقة والتي ترعاها دول الخليج نفسها. كما بادرت وحققت المملكة
العربية السعودية والامارات العربية المتحدة كما مصر وقطر وغيرها من دول الشرق الاوسط
في الفترة الأخيرة. وهي تكتلات، وإن كانت إقليمية الطابع والهوية، إلا أن تأثيرها البعيد وغير
المباشر، يتخطى نطاق الإقليم. ويسهم في إعادة رسم المشهد السياسي الدولي. لمجرد أنها
كسرت نمطية الاصطفافات الدولية المفروضة على دول إقليم أو منطقة ما، في انتظامها
الاقتصادي والسياسي.
يبدو واضحاً ان مشروع الممر الكبير بين الهند واوروبا يقف في مواجهة مبادرة الحزام
والطريق الصينية، انه صراع اقتصادي بامتياز. وفي هذا المجال يقول الخبير في شؤون من
آسيا في مركز ويلسون في واشنطن مايكل كوغلمان انه “اذا تحقق ذلك، فانه سيغيّر قواعد
اللعبة عبر تعزيز الروابط بين الهند والشرق الاوسط” مضيفاً ان ذلك يهدف الى مواجهة
مبادرة الحزام والطريق”.
وتقوم بكين من خلال “مبادرة الحزام والطريق” التي تأتي ضمن إطار برنامج “طرق الحرير
الجديدة” باستثمارات ضخمة في عدد من الدول النامية لبناء البنية التحتية.
يهدف هذا المشروع إلى تحسين العلاقات التجارية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وحتى خارجها،
من خلال بناء الموانىء وشبكات السكة الحديد والمطارات أو المجمّعات الصناعية، ممّا يسمح
للعملاق الآسيوي بالوصول إلى المزيد من الأسواق وفتح منافذ جديدة أمام شركاته.
غير ان معارضيه يعتبرون ان بكين تهدف منه الى تعزيز نفوذها السياسي في المناطق التي
تسعى للدخول اليها.
مصدر دبلوماسي فرنسي قال تعليقاً على اطلاق مشروع الممر الكبير انه ” ضمن الفكرة
(الممر اللوجستي الجديد) هناك منافسة مع طرق الحديد” معتبراً ان اعلان نيودلهي ” مجرد
بداية لقصة طويلة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى