أزمات وحلول البنوك والمصارف العربية

 
مصطفى العبد الله الكفري
يواجه القطاع المصرفي في الدول العربية مع دخول الألفية الثالثة تغيرات جذرية إذ سيصبح التمييز بين المصارف والوسطاء وشركات التأمين وصناديق الاستثمار اقل من ذي قبل مع توفير الخدمات المالية والمصرفية عن طريق الانترنت، حيث أن العملاء أصبحوا اليوم يفضلون استخدام قنوات الخدمة الذاتية لإنجاز أعمالهم المصرفية.
ومن المتوقع أن تركز المصارف العربية على تعظيم العائد على حقوق المساهمين الأمر الذي يتطلب التخلص التدريجي من النشاطات التي لا تغطي عائداتها كلفة رأس المال المخصص لها وتحويل المزيد من رأس المال للأعمال المصرفية التي ترتفع عائداتها مع الوقت. ويمكن زيادة الربحية عن طريق تقليص النفقات التشغيلية من خلال الاستخدام الفعال للتكنولوجيا الحديثة مثل الانترنت إذا أرادت أن تواجه المنافسة الشرسة القادمة من الخارج. وإذا كان هناك من شك في مدى تأثير هذه المنافسة على الأسواق المحلية، فما علينا سوى أن نلقي نظرة على ما حدث في عمليات تداول الأسهم عبر الانترنت خلال السنوات الأخيرة.
– التغييرات الهيكلية في الأسواق الدولية للسلع والخدمات ورؤوس الأموال:
شهد الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة تغييرات هيكلية كبيرة وأصبحت الأسواق الدولية للسلع والخدمات ورؤوس الأموال مترابطة على نحو متزايد. في ظل هذه التغيرات تواجه الاقتصادات العربية تحديات كبيرة أبرزها التحول في الفكر الاقتصادي وأشكال التعاون والتكتل الاقتصادي. ولا تستطيع الدول العربية أن نبقى بمنأى عن التفاعل والاندماج بالاقتصاد العالمي الجديد. والمنطقة العربية بموقعها الاستراتيجي وثرواتها المختلفة وأسواقها المستقبلية المحتملة لن تكون قادرة على العزلة أو الانغلاق، وبالتالي لا يمكن أن تبقى خارج الاقتصاد العالمي. مع التأكيد على أهمية القطاع المصرفي في الدول العربية الذي شهد تغيرات مهمة استجدت على القطاع المالي الإقليمي والعالمي، يُتوقع أن يكون لها أثر بالغ على القطاع المصرفي وهي:
1 – تحرير وعولمة الخدمات المصرفية:
يبدو أن الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية يفرض على الدول العربية منح المصارف الأجنبية معاملة المصارف المحلية نفسها، وسيصبح باستطاعة المصارف الأجنبية دخول الأسواق العربية واستقطاب العملاء بما تقدمه لهم من خدمات مصرفية متطورة قد لا تكون متوافرة في السوق المحلية. كما سهّلت العولمة وتحرير الخدمات المصرفية على المصارف في الدول الصناعية الدخول إلى أسواق الدول الناشئة واستغلال النمو المتوقع لهذه الأسواق، حيث قامت المصارف الاسبانية على سبيل المثال بالتوسع في أميركا اللاتينية والمصارف الألمانية في أوروبا الشرقية والمصارف الأميركية في منطقة شرق آسيا.
يثير تحرير الخدمات المالية والمصرفية في العالم القلق في القطاع المصرفي العربي بسبب التخوف من أن المؤسسات المالية الأجنبية أكثر كفاءة من المؤسسات المالية العربية وبالتالي فهي قادرة على السيطرة تدريجياً على القطاعات المصرفية المحلية. ولكن هذا القلق ليس صحيحاً دائماً، فالمصارف الأجنبية قد تتميز في بعض الخدمات المصرفية الاستثمارية وفي التكنولوجيا وفي الصيرفة الخاصة لكن معرفة المصارف العربية لأسواقها المحلية وعلاقتها القوية مع عملائها سيوفر لها ميزة تنافسية كبيرة على المصارف الأجنبية، إضافة إلى أن منظمة التجارة الدولية تسمح بتطبيق التحرر المالي على مراحل إذا ما احتاجت المصارف المحلية إلى مزيد من الوقت لتكييف أوضاعها مع المنافسة الجديدة.
2 – التحولات في الفلسفة الإدارية للمصارف العربية:
في ضوء المتغيرات العالمية المستجدة في القطاع المصرفي ينبغي على المصارف العربية الاستعداد لتطبيق ثقافة إدارية جديدة تأخذ في الاعتبار التغير المستمر في أوضاع السوق، وتقوم على شبكة من خطوط الاتصال بين مراكز العمل بدلاً من هرم وظيفي جامد، وتعتمد بشكل أكبر على مبدأ الشراكة مع مؤسسات مالية أخرى بدلاً من العمل بانفراد. وستعتمد المصارف بشكل متزايد في مجال العمليات المساندة والبحث والتكنولوجيا والمنتجات المالية وغيرها من مؤسسات خارجية تستطيع أن توفر هذه الخدمات بكفاءة أكبر. فمثل هذه الشراكة موجودة الآن لكن ستكون الحاجة إليها أكبر في ظل الثقافات الإدارية الجديدة وستصبح إدارة شبكات معقدة من الشراكة والعلاقات الخارجية بأهمية إدارة العمليات الداخلية للمصارف.
في ظل الثقافة الإدارية الجديدة ستدرك المصارف أن التكنولوجيا لا تمكنها من انجاز الأعمال بكفاءة أكبر فحسب لكنها تعطيها المقدرة لتطوير إعمالها بشكل متواصل، والأمر يتعلق باستخدام آخر إصدارات برامج الكومبيوتر كما يتعلق بالثقافة والعقلية السائدة. فالتكنولوجيا يجب ألا تصبح هدفاً بحد ذاتها ولكن أحد عوامل زيادة الكفاءة للبنك، ولا بد للإدارة العليا أن تكون إدارة إلهامية تثمن الأداء المميز للموظفين وتشجعهم على ابتكار أفكار وخدمات مصرفية جديدة.
3 – انتشار الخدمات المصرفية عبر الإنترنت:
أصبحت الخدمات المصرفية الذاتية أو قنوات التوزيع المباشر مفضلة لدى العملاء، وتقدمها كل المصارف في العالم. وفيما يتعلق بالمصارف العربية فقد استثمرت الملايين لتطوير أجهزة الصرف الآلي لديها ونقاط البيع والبنك الناطق، ويتجه معظمها الآن نحو تقديم الخدمات عن طريق الانترنت (بنك أون لاين). لذا نجد أن استخدام الفروع اخذ يتراجع بشكل تدرجي، وقدرت كلفة إنجاز المعاملة المصرفية بواسطة جهاز الصراف الآلي بـ 10 في المائة فقط من تكلفة انجازها عن طريق الفرع، وتنخفض هذه الكلفة إلى 1 في المائة إذا تم انجازها من خلال الهاتف أو البنك الناطق وإذا قدمت الخدمة نفسها من خلال الانترنت فإن التكلفة تنخفض إلى ما دون ذلك بكثير. لقد استطاع سيتي غروب من خلال 10 فروع فقط في الهند وباستخدام أجهزة الصراف الآلي والبنك الناطق أن يصبح أكبر مصدر للبطاقات الائتمانية في الهند.
لا تزال المصارف العربية متأخرة كثيراً عن المصارف الأميركية والأوروبية في تقديم الخدمات المصرفية عبر الانترنت والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى عدم انتشار الانترنت في هذه الدول، حيث أن اقل من 10 في المائة من السكان العرب يستخدمون الانترنت مقارنة مع أكثر من 50 في المائة من السكان في أميركا. وكل المصارف الأميركية له مواقع على الانترنت والعديد منه يقدم خدماته من خلال هذه الشبكة، وتشمل هذه الخدمات إدارة الحسابات الجارية بما فيها دفع فواتير وإصدار البطاقات الائتمانية وتوفير القروض السكنية الشخصية وتقديم خدمات الوساطة لشراء الأسهم والسندات إضافة إلى صناديق الاستثمار المشترك.
لقد تشكل في المنطقة العربية كونسورتيوم مؤلف من بنك الكويت الوطني وبنك دبي الوطني وبنك مصر التجاري الدولي والبنك العربي في الأردن والبنك السعودي – الأميركي ليقوم بتطوير سوق الكترونية إقليمية لتبادل الخدمات بين الشركات (B2B)، وصياغة شبكة دفع تابعة له على مستوي المنطقة ككل.
4 – ازدياد الحاجة لعمليات الاندماج بين المصارف العربية:
ستواجه البنوك العربية منافسة شرسة من البنوك الدولية العملاقة والتي أخذت تقدم خدمات مصرفية عبر الانترنت. فهذه البنوك لا تحتاج إلى أن يكون لها وجود فعلى وهي تقدم خدماتها بأكثر من لغة مما سيساعدها على جذب أفضل العملاء. ولا تملك المصارف العربية اليوم سوى خيار الاندماج لخلق كيانات مصرفية قادرة على المنافسة في ظل الأسواق المالية العالمية المتحررة، وسيساعد الاندماج على خفض تكاليف التشغيل وتقليل عدد الفروع، وتقليص التشابه والتكرار في الأعمال وتوزيع نفقات التكنولوجيا العالية على قاعدة أكبر، وإتاحة المجال للاستفادة من ميزة اقتصاديات الحجم.
(يتوقع أن يشهد القطاع المصرفي العربي مزيداً من عمليات الاندماج والحيازة خلال السنوات القليلة المقبلة سواء بين المصارف المحلية سعياً وراء الحصول على حصة أكبر في السوق، أو بين مصارف من دول عربية مختلفة تهدف إلى التوسع خارج سوقها المحلية.
كما شهدت السنوات القليلة الماضية عدداً من صفقات الاندماج والشراء غير أن معظم المصارف التي تتحدث عن الاندماج والحياة تبقى توجهاتها حبراً على ورق إذ لم يتحقق حتى الآن سوى عدد قليل من عمليات الدمج الناجحة … ويبدو أن الاندماج المصرفي في الدول العربية لن ينجح إلا إذا تدخلت السلطات النقدية وأجبرت المصارف الضعيفة على الاندماج).
وأصبح من الضروري إنشاء أنظمة رقابية متطورة لتكون أكثر فاعلية وقادرة على مجاراة التطورات المستجدة في الأسواق المالية الدولية وسيؤدي الطلب المتزايد للشفافية في الأسواق الدولية إلى تسريع تطوير أنظمة الرقابة في دول المنطقة. وستشعر السلطات النقدية أن قدرتها على التحكم في حجم الكتلة النقدية قد ضعف مع انتشار الخدمات المصرفية عبر الانترنت والتوسع في استعمال الدفع الالكتروني في عمليات التجارة على الشبكة العالمية.
وتستطيع المصارف المركزية تنفيذ سياساتها النقدية من خلال التحكم بأسعار الفائدة بدلاً من التأثير على حجم الكتلة النقدية. لهذا السبب أصبح من الضروري لدول المنطقة تطوير أسواق السندات المحلية حيث أن توافر سوق ثانوية للسندات الحكومية سيتيح للبنك المركزي استخدام عمليات السوق المفتوحة لتحديد أسعار الفائدة حتى في اقتصاد يصعب فيه السيطرة على الكتلة النقدية المتداولة. وتحتاج الدول العربية إلى تطوير سوق السندات للشركات لتشكل مصدراً آخر للتمويل عند الحاجة، وذلك لتعويض التراجع في نشاط البنوك الاقراضي عند حدوث أزمات اقتصادية للحد من آثار هذه الصدمات، حيث أن وجود سوق سندات فعال للشركات يؤدي إلى تقليل آثر الأزمات، كما أن وجود مصادر تمويل غير مصرفية أمام الشركات يؤدي إلى تخفيف أثر الأزمات التي قد تتعرض لها البنوك العاملة (في حال حدوث أزمة أو انهيار الأسعار في سوق العقارات). وبالمقابل نجد أن الدول التي تعتمد الشركات فيها بشكل رئيسي على التمويل من البنوك وبشكل قليل جداً على سوق السندات قد أخذت وقتاً أطول لحل أزماتها المالية.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
كلية الاقتصاد – جامعة دمشق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى