رأي

الراتب التقاعدي هل هو تعويض أم التزام تعاقدي؟

سالم روضان الموسوي

إن فهم الطبيعة القانونية للراتب التقاعدي سوف يوفر لنا الكثير من الوضوح لما تقوم به مؤسسات الدولة تجاه المتقاعدين والتأثير على مستحقاتهم التقاعدية، حيث ظهرت في الفترة الأخيرة مشكلة التلكؤ في صرف تلك المستحقات، ولأسباب متعددة بعضها نقص السيولة أو قلة الموارد المالية على وفق ما ذاع وشاع في الأخبار ، وما أكدته الحكومة من سعيها لتامين الأموال اللازمة لصرف رواتب المتقاعدين، لذلك فان الراتب التقاعدي الذي يتقاضاه الشخص هل هو تعويض عن أضرار أصابته من جراء انتهاء عمله الوظيفي بسب من الأسباب مثل بلوغ السن القانوني للتقاعد أو أسباب أخرى؟، ام انه التزام تعاقدي بينه وبين المؤسسة المعنية بإدارة صندوق التقاعد؟ لذلك سأعرض للموضوع على وفق الأتي :
1. ما هو الراتب التقاعدي؟
أشار قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 إلى تعريف الراتب التقاعدي بأنه الراتب الشهري الذي يستحقه المتقاعد، كما أوضح بان المتقاعد هو كل شخص استحق عن خدماته راتباً تقاعدياً أو مكافأة تقاعدية او مبلغاً مقطوعاً وفقا لإحكام هذا القانون .والشخص الذي يستحق التقاعد هو كل شخص عهدت إليه وظيفة مدنية او عسكرية او ضمن قوى الأمن أو مكلف بخدمة عامة والذي يتقاضى راتباً أو أجراً أو مكافأة من الدولة وتستقطع منه التوقيفات التقاعدية، وهذا ما ورد في المادة (1) من قانون التقاعد الموحد النافذ، وفي ضوء ذلك النص القانوني فان المتقاعد هو الذي كان موظف يشغل وظيفة في الملاك الدائم للدولة وهذه الخدمة التي تحتسب لأغراض التقاعد تسمى الخدمة التقاعدية التي أشار لها القانون أعلاه في المادة (1/18) بأنها (الوظيفة المؤداة في الدولة ومستوفى عنها التوقيفات التقاعدية) وهذه التوقيفات التقاعدية المستقطعة من الراتب تذهب إلى صندوق التقاعد وتمثل الجزء الرئيسي من تمويله وعلى وفق حكم المادة (9/أولا/آ) من قانون التقاعد التي جاء فيها الآتي (ولا ـ تتكون إيرادات الصندوق مما يأتي :أ ـ مبالغ التوقيفات التقاعدية التي تستقطع شهريا من رواتب موظفي الدولة والمكلفين بخدمة عامة) بينما مساهمة الدولة في الصندوق من موازنتها لا تتعدى بأحسن الأحوال نسبة15% من راتب الموظف وعلى وفق ما جاء في البند(ب) من المادة أعلاه وعلى وفق الآتي (مساهمة الدولة البالغة (15%) خمسة عشر من المائة من راتب الموظف شهرياً( وبذلك فان يتولى مصدر تمويل الراتب التقاعدي هو الموظف ذاته لأنه ادخر أمواله التي استقطعت من استحقاقه في صندوق التقاعد بحكم الالتزام القانوني.
2. ماهية صندوق التقاعد؟
بعد ان توضح لنا بان الصندوق هو من يتولى منح الراتب التقاعدي فلابد من معرفة الطبيعة القانونية لهذا الصندوق هل هو جهة خيرية تتولى تقديم المساعدة أم انه طرف في عقد مصدره القانون ، ويسمى صندوق التقاعد في بعض البلدان صندوق المعاشات (Pension Fund) وهو مؤسسة مالية تعنى بجمع رسوم إلزامية أو اختيارية بهدف توزيعها لاحقًا على المتقاعدين، لذلك يرى بعض الباحثين المختصين بان الراتب التقاعدي ولا يعد منحة أو هبة، وإنما هو حق من حقوق الموظف، لأنه مستقطع ابتداءً من راتبه الشهري بصورة منتظمة خلال خدمته في الوظيفة من اجل مواجهة متطلبات الحياة بعد انتهاء خدمته الوظيفية، وقانون التقاعد الموحد اعتبر هذا الصندوق مختص بموظفي الدولة دون غيرهم وعلى وفق تسميته في المادة (1/ثالثا) من القانون التي جاء فيها الآتي (الصندوق : صندوق تقاعد موظفي الدولة ( وله مهام حددتها المادة (7/رابعا) من قانون التقاعد التي جاء فيها الآتي (رابعا ـ يتولى الصندوق المهام الآتية: أ ـ احتساب مبالغ التوقيفات التقاعدية وجبايتها ب ـ صرف الحقوق التقاعدية للموظفين المحالين إلى التقاعد .ج ـ استثمار أموال الصندوق وتنميتها والمحافظة عليها.) ومن خلال هذا الإيجاز فان نظام التقاعد الذي يسمى في فقه القانون الغربي (pension scheme) هو عقد ملزم قانوناً وذو هدف وغاية صريحة للتقاعد بين الموظف او العامل وبين جهةٍ ما تتولى منحه الراتب التقاعدي بعد انتهاء وظيفته ويكون جزء من عقد التوظيف الشامل ومحدد مسبقاً بموجب اتفاق أو إلزام قانوني، وفي العراق فان مصدر ذلك العقد هو القانون سواء في قانون الخدمة المدنية أو قوانين الخدمة الخاصة الأخرى أو بموجب قانون التقاعد النافذ، لذلك اخلص إلى إن الراتب التقاعدي هو اثر من أثار العقد المبرم بين الموظف أو العامل وبين صندوق التقاعد بموجب قانون الخدمة الذي كان يعمل بموجبه، وفيه التزامين رئيسيين متقابلين الأول التزام الموظف بتسديد بدلات الاشتراك في الصندوق والتي تسمى بالتوقيفات التقاعدية، والثاني التزام صندوق التقاعد ممثل بالهيئة الوطنية للتقاعد بمنحه الراتب التقاعدي بعد انتهاء عمل الموظف ويسمى (الإحالة على التقاعد) للأسباب التي حددها القانون وأي إخلال بأي بالتزام من أي طرف يرتب جزاءات متفق عليها مسبقاً فإذا تخلف الموظف أو العامل عن التسديد فانه لا يستحق الراتب التقاعدي إلا بعد التسديد، وكذلك صندوق التقاعد إذا امتنع عن منح الراتب التقاعدي فانه ملزم بالتعويض.
ومن خلاصة العرض فان الراتب التقاعدي هو اثر من أثار العقد المبرم بين الطرفين بشروطه الواردة في القوانين النافذة وهو ليس بمنحة او تعويض. لكن ما شهده العراق منذ سنوات عديدة وخصوصاً بعد الحرب العراقية الإيرانية في بداية ثمانينيات القرن الماضي ظهرت لنا شريحة أخرى منحت مبالغ شهرية بمسمى تقاعد وتوزع عن طريق صندوق التقاعد وهي شريحة ذوي المتوفين من جراء العمليات الحربية من العسكريين المكلفين الذين ليس لهم وظيفة في ملاك الدولة ولا يتقاضون منها راتب وظيفي وإنما لهم راتب يقرر خلال فترة خدمتهم العسكرية ، ويمنح ذوي هؤلاء وكذلك الجرحى راتب تقاعدي دون الالتفات إلى سنوات الخدمة، أي أن المبلغ الذي يوزع عليهم ليس له مقابل مدفوع من راتب المتوفى أو الجريح، كما ظهرت ايضاً شريحة المتضررين من جراء العمليات الحربية سواء في الحرب العراقية الإيرانية او الحروب التي تلتها ومنها ما ورد في قانون رقم (20) لسنة 2009 (تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الارهابية) وقانون مؤسسة السجناء السياسيين وقانون مؤسسة الشهداء وغيرها من القوانين الأخرى، فهذه الرواتب التي خصصت لهؤلاء الضحايا سواء من جراء الأعمال الإرهابية او تعسف السلطة في النظام السابق والحالي فان هؤلاء يستحقون التعويض عن الضرر الذي لحق بهم وهذا الراتب التقاعدي الممنوح لهم هو جزء من تعويض عن المسؤولية التقصيرية تتحمل أثارها الدولة إما لأنها هي من اعتدت على الضحية مثل الإعدامات والمقابر الجماعية في ظل النظام السابق او انها عجزت عن توفير الأمن للمواطن وهذه تتحملها لأنها مسؤولة بحكم الدستور والقوانين النافذة عن امن المواطن، وما يعزز هذا الرأي إن القانون المدني رتب اثر في التعويض عن المسؤولية التقصيرية بمنح راتب للمتضرر من العمل غير المشروع وعلى وفق النص الوارد في المادة (209/1) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل التي جاء فيها الاتي (تعين المحكمة طريقاً التعويض تبعاً للظروف ويصح ان يكون التعويض أقساطاً أو إيراداً مرتباً ويجوز في هذه الحالة الزام المدين بان يقدم تأميناً) لكن المعالجة التي مارستها الجهات المسؤولة في العراق كانت غير صحيحة وإنها كانت قاصرة حيث لم تتحسب لأي انتكاسة مالية مثلما حصل الآن واثر على مواردها من بيع النفظ المورد الرئيسي للموازنة، ودمجت هذه التعويضات مع الرواتب التقاعدية التي يستحقها الموظف في دائرة واحدة وصندوق واحد مما اثر سلباً على الطرفين الموظف او العامل المتقاعد وعلى ضحايا السلطة وضحايا الإرهاب وغيرهم، مما دعا المتقاعدين من العمال والموظفين المستحقين لرواتبهم من جراء خدمتهم يمتعضون من الرواتب التي منحت للضحايا وهي تعويض وليس عن خدمة فعلية، والبعض اعتبرها غير ذات استحقاق او مغالى فيها، لكن الحقيقية هي جزء من تأهيل الضحايا وتعويضاً لهم عن ضرر لم يتعرض له سواهم، كما إن هؤلاء الضحايا أيضا امتعضوا من عدم صرف مستحقاتهم التي تميزهم عن سواهم لأنهم قدموا القرابين من الشهداء، لذلك فان تلك المعالجة غير موفقة، إذ كان على الدولة أن لا تدمج هاتين الفئتين في صندوق تقاعد واحد لأنهما يختلفان من حيث الشروط والموارد ، وكان عليها أن تخصص صناديق أخرى للتعويض وتؤمن لها الموارد المالية في نص القانون الذي نظم أعمالها، ونجد هذا الأمر معمول به في اغلب الدول المتقدمة ومنها بريطانيا وأمريكا حيث توجد صناديق خاصة بالمحاربين القدماء لا علاقة لها بصناديق المعاشات ، كما إن موارد مثل هذه الصناديق تكون من موازنة الدولة أو من الهبات او أي وسيلة أخرى، بينما صندوق التقاعد اغلب موارده هي مبالغ مستقطعة من رواتب الموظف وهي مدفوعة سلفاً ويحكمها العقد القانوني الملزم بين الموظف وصندوق التعاقد، وحتى إن للمتقاعد أن يطلب التعويض عن أي ضرر يصيبه من جراء ذلك الصندوق بسبب القصور في الأداء سواء في استثمار أمواله وتنميتها أو في التأخر في صرف مستحقاته التقاعدية.
لذلك وللمعالجة اقترح الآتي :
1. جعل صندوق التقاعد الحالي مختص في الموظفين حصراً .
2. استحداث صناديق أخرى لكل فئة ضحايا النظام السابق والحالي والعمليات الإرهابية وتنظم موارده المالية بشكل مستقل عن صندوق تقاعد الموظفين لخصوصيتهم باعتبار ما يتقاضوه هو تعويض عن ضرر وليس استحقاق تقاعدي عن خدمة قضاها في العمل تمتد لسنوات عدة.
3. فصل العمال عن الموظفين وإلغاء قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 150 لسنة 1987 الذي قضى بتحويل جميع العمال إلى موظفين، مما افقد شريحة العمال امتيازات كانت ممنوحة لهم بموجب قوانين العمل والحماية الدولية التي توفرها لهم منظمة العمل الدولية وكان الهدف في حينه سياسي لإبعاد العمال عن الانخراط في التنظيمات النقابية خارج إطار الحزب الذي كان يتولى الحكم آنذاك، ومن ثم العودة إلى العمل بتقاعد العمال والضمان الاجتماعي وتفعيل ضم العمال في القطاع الخاص إلى نطاقه لشمولهم بامتيازاته، وفي الفترة الأخيرة ظهرت أصوات عمالية كثير تنادي بهذا المطلب.
4. الاهتمام بالاتجاهات الحديثة في علم تشريع النصوص القانونية أو ما يسمى بعلم الصياغة التشريعية والتحسب لكل الكلف التي يرتبها القانون وبيان ماهية مصادرها حتى لا يصدر القانون وهو غير قابل للتطبيق والتنفيذ لعدم وجود موارد مالية تكفي لتنفيذه، لان إن النظريات الحديثة في علم القانون تشير إلى أن كل قانون يشكل كلفة مالية ولابد من إيجاد مصادر تمويل لتنفيذ ما ينص عليه في صلب القانون.
القاضي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى