العالمتقاريرفي الواجهة

هل يمكن للعالم أن يثق بأمريكا، وهي تُدار من قبل رجال أعمال لا يهتمون إلا بالأرباح؟

ترامب وفانس إهانة للبيت الأبيض باسم السلام

تصاعد دور الدولة العميقة الحديثة في أمريكا بأساليبها الخفية يشكل طعنة في جوهر القيم الديمقراطية العالمية والعلاقات الإنسانية، حتى وإن كانت تتستر بغطاء الدعوة إلى السلام العالمي وإنقاذ البشرية من الحروب.

فما حدث في البيت الأبيض لم يكن اجتماعًا سياسيًا عاديًا، بل كان مسرحية سياسية مشينة تُظهر كيف تحولت السياسة الأمريكية، في عهد دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، إلى مجرد لعبة تجارية رخيصة، حيث تغلبت المادة والربح على القيم والمبادئ.

كان الرئيس الأوكراني (فلاديمير زيلينسكي) الضيف المدعو إلى أهم بيت سياسي في العالم، يحمل على كتفيه أوجاع شعبه وتضحياته الهائلة في مواجهة الغزو الروسي، آملاً في إيجاد بصيص أمل لإنقاذ أوكرانيا مع الحفاظ على كرامة دولته وسيادتها. لكن بدلًا من لقاء يُبنى على الاحترام المتبادل والشراكة الاستراتيجية، وجد نفسه محاصرًا بين فكَّي الابتزاز السياسي، بين ترامب، الذي تصرف كـزعيم كارتيل عالمي، وبين نائبه جي دي فانس، الذي ظهر كظل تابع، يردد كل ما يقوله رئيسه دون وعي أو وزن سياسي.

جلس ترامب في موقع “صاحب البيت”، يحدد شروطه، يهاجم ضيفه دون احترام الأعراف الدبلوماسية أو حتى أدنى أخلاق الضيافة، متحدثًا عن السلام وكأنه سلعة معروضة للبيع، يجب أن تشتريها أوكرانيا بشروطه الخاصة، دون أن يكون قد حصل على أدنى ضمانات من بوتين.

هذا المشهد المهين يعكس كيف تحولت السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب إلى تجارة نفوذ، تعتمد على الضغط والابتزاز بدلًا من احترام المبادئ والقيم التي قامت عليها الولايات المتحدة لعقود، لم يكن اللقاء حوارًا بين شريكين سياسيين، بل كان جلسة إذلال متعمدة، هدفها إجبار زيلينسكي على قبول ما يفرضه ترامب، دون أي اعتبار لما قدّمه الأوكرانيون من تضحيات في الدفاع عن أرضهم.

الأخطر من ذلك، هو الشكوك المتزايدة حول العلاقة الخفية بين ترامب وبوتين، وكأنهما لا يمثلان دولتين متصارعتين، بل أعضاء في شبكة عالمية سرية، تحكمها مصالح خفية للدولة العميقة الحديثة التي تجوب أروقة البيت الأبيض والوزارات، خارج نطاق السياسة التقليدية، فما يحدث لا يبدو مجرد سوء إدارة سياسية، بل استراتيجية مخططة هدفها إعادة توزيع موازين القوة الدولية بطرق غير متوقعة، تحت غطاء “السلام”.

والأغرب من ذلك، أن هذا النهج المنحدر دبلوماسيًا حصل على دعم غير متوقع من موسكو نفسها، حيث علقت المتحدثة باسم الكرملين، ماريا زاخاروفا، بسخرية قائلة إنها تتعجب كيف لم يضرب ترامب زيلينسكي بحذائه! وكأن تصرفات ترامب، التي كان يُفترض أن تعكس قوة أمريكا وكرامتها الدبلوماسية، قد لاقت استحسانًا من ممثلة حكومة دكتاتورية تحاول مجاراتها عمليًا وفكريًا ومنهجيًا، وهذا يكشف بوضوح أن ترامب لم يعد يتصرف كرئيس للولايات المتحدة، بل كرئيس دولة مافياوية، وعضو في الدولة الأمريكية العميقة الحديثة، تتبنى نفس أساليب الاستبداد السياسي التي تمارسها الأنظمة القمعية.

من الواضح أن ترامب لم يعد يتصرف كرئيس دولة ديمقراطية، بل كزعيم شبكة سياسية عالمية غامضة، تفرض إرادتها عبر الابتزاز والترهيب، يدعو الرؤساء والوزراء إلى البيت الأبيض فقط ليجبرهم على تنفيذ شروطه، وإلا فإنهم يواجهون مصيرًا مماثلًا لما حدث مع زيلينسكي، أو ربما إهانة دبلوماسية كما حصل مع ملك الأردن عبد الله الثاني، الذي عاد من واشنطن خالي الوفاض، بعد أن رفض الرضوخ لمخططات ترامب.

لكن ما هو أخطر من تصرفات ترامب الفردية هو أن الدولة العميقة الحديثة في أمريكا أصبحت تجوب أروقة البيت الأبيض، وتسعى إلى فرض هيمنتها على العالم بطرق مختلفة تمامًا عن الأدوات الدبلوماسية – العسكرية التقليدية.

في الماضي، كانت الإمبراطورية الأمريكية تعتمد على التأثير السياسي والدبلوماسي لدفع مصالحها عالميًا، لكن تحت قيادة ترامب، تحولت هذه الإمبراطورية إلى آلة لجمع المليارات، دون أي مراعاة للاستراتيجية العالمية التي حكمت سياسات واشنطن لعقود.

السياسات الاقتصادية التي تقودها الدولة العميقة الحديثة، والمسيطرون على اقتصاديات الشركات الكبرى، باتت تتحكم في القرارات السياسية، مما أدى إلى:

تسريح آلاف الموظفين الحكوميين الأمريكيين في قطاعات حساسة، كالدبلوماسية، والصحة، والبيئة، لتحويل الأموال إلى قطاعات استثمارية تخدم الأثرياء والنخب الاقتصادية.
قطع المساعدات الإنسانية عن المناطق الفقيرة والمعدمة في العالم، حتى عن الدول الحليفة، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، بينما يتم توجيه الأموال نحو مشاريع ذات أهداف تجارية بحتة.
تقليص الدعم للمنظمات الإنسانية الدولية، مما جعل مناطق بأكملها أكثر عرضة للجوع والفوضى السياسية.
تحويل المؤسسات الأمريكية إلى شركات رأسمالية، حيث الأولوية المطلقة للربح على حساب القيم والمبادئ السياسية والدبلوماسية.
لطالما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى لعب دور الإمبراطورية العظمى، التي تعطي وتحرك الشعوب والدول وفق مصالحها، لكن ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، حيث كان النفوذ الأمريكي قائمًا على الدبلوماسية، والقوة الناعمة، والتدخلات الذكية، وليس على الإملاءات الوقحة والابتزاز المباشر.

لكن في ظل إدارة ترامب، يبدو أن العقلية التي تحكم البيت الأبيض هي عقلية مدراء الشركات لا قادة الدول. فلم تعد أمريكا تعتمد على الاستراتيجية الإمبراطورية التي توازن بين القوة والمرونة، بل تحولت إلى آلة تحكمها عقلية “خذ المال أو أغرب عن وجهي”. هذه المقاربة الجديدة قد تحقق أرباحًا سريعة للنخبة الاقتصادية الحاكمة، لكنها تدمر مكانة أمريكا على المدى الطويل، وتجعلها دولة منفرة سياسيًا، حتى لحلفائها التقليديين.

النتيجة سقوط مدوٍّ للدبلوماسية الأمريكية تحت إدارة الكارتيلات الاقتصادية، فما حدث في البيت الأبيض ليس مجرد حادثة عابرة، بل انعكاس لفشل كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، لقد أظهر ترامب وإدارته أن المبادئ والقيم لم تعد جزءًا من سياستهم، بل استُبدلت بالصفقات والابتزاز.

والسؤال الآن:

إذا كان البيت الأبيض قد تحول إلى مقر لعصابات النفوذ السياسي الاقتصادي، فمن سيضمن مستقبل العلاقات الدولية في عهد ترامب؟
هل يمكن للعالم أن يثق بأمريكا، وهي تُدار من قبل رجال أعمال لا يهتمون إلا بالأرباح؟
وهل ستبقى أمريكا في موقع القوة، أم أن عقلية “التاجر” التي تحكم البيت الأبيض ستسرّع من انهيار نفوذها الإمبراطوري؟
هذه الأسئلة لن تجد إجاباتها إلا عندما تنتهي مرحلة ترامب، لكن الضرر الذي لحق بمكانة أمريكا العالمية، وتحولها إلى أداة للابتزاز المالي بدلًا من قوة دبلوماسية مؤثرة، قد يكون أكبر من أن يُصلح بسهولة، وقد تدمر أمريكا كسقوطها في مستنقع التضخم المتسارع، والتي ستثير الشعب يوما ما، لربما قبل انتهاء ولايته.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى