رأي

ضائعٌ بين أقرانه الجزء الثّاني (4)

—-

رشيد مصباح (فوزي)

**
كان ذلك في نهاية العام الدراسي من السنة المذكورة؛ انتهى الموسم الدراسي ولم ينتهي موسم الكد والجد، وفي الوقت الذي انصرف فيه بعض الزّملاء لمراجعة الدروس، استسلم العبد الضّعيف لحلمه الكبير. لأعذب وأحلى ما يحلم به شاب في تلك السن، الحلم الذي تحوّل إلى حقيقة ولم يعد مجرّد وهم.
وفرحة لا تصدّق غمرتني، وشعرتُ حينها بسعادة منقطعة النّظير . حين علمتُ بأنّ الأنيق والدي؛ الذي كان مثالا في الصرامة والانضباط، قد أحضر بالفعل جوازي السّفر.
ووجدتني على متن باخرة ”الهچّار“ الرّاسية بميناء (عنّابة) جوهرة البحر الأبيض المتوسّط، وسط الزّحام؛ موجة بشرية ”لا بداية لها ولا نهاية“ تتقاذف وتتدافع أمام المكاتب والشبابيك كأمواج البحر العاتية.
روائح الفم الكريهة والعرق المتصبّب ونحن في أعزّ شهر جويلية.. تزكم الأنوف. الرطوبة الخانقة والفوضى العارمة التي كانت من وراء كل ذلك التأخير، زاد من معاناتنا. والانتظار المحموم.. وبدأ اليأس معه يتسلّل إلى قلبي وأنا أتابع المشهد وقد أغلق أعوان الجمارك والشرطة جميع النوافذ والمنافذ في وجوهنا.
وتعالت الأصوات و الثرثرة، وبدأتُ أشعر بالغثيان: بالفعل إنّها معاناة حقيقية. وفجأة، تخلّلها نداء عبر مكبّر الصّوت يرجو صاحبه من المسافرين الذين استوفوا كافّة الإجراءات التوجّه إلى السفينة.
داخل صالة الباخرة ”العجوز“ رمينا بكل ثقلنا على أريكة عافها الزمن، ورحنا نتفرّس في ملامح الوجوه المغبرّة. وتخطّانا بعض المسافرين ”المرفّهين“ قاصدين غرفهم التي قاموا بحجزها مسبقا. ثم فجأة صدر نداء آخر كان هذا المرّة من قائد السفينة؛ يتمنّى للجميع رحلة ممتعة. بعدها بقليل شعرنا بتمايل السّفينة، معلنة رغبتها بالإبحار.
وأخيرا! وبعد كل المعاناة حضر الاطمئنان، ونهضتُ متسلّلا إلى الخارج، أستمتع بمنظر الغروب والأمواج الزرقاء التي تعكس ألوان الشّمس الذهبيّة، ترسم لوحة ”تحفة فنيّة“: ويا له من جمال ومنظر أخّاذ!
وتدافعت الأفكار تدافع أمواج البحر، ورحتُ أسأل نفسي: – وماذا بعد هذه البداية السعيدة؟!
وكنتُ قد نسيتُ حكايتي مع (الباك) ورميتُ به وبكل ما له علاقة بالموضوع في البحر. واستسلمت كما استسلمت السفينة للهدوء والسّكينة، وقد أسدل اللّيل ستاره الأسود على السفينة وجميع من فيها.
وانسحبتُ إلى المكان الذي تسلّلتُ منه، ورميتُ بنفسي فوق الأريكة القديمة؛ وحتما سيكون الغد أجمل وأفضل.
ونفسي تتوق إلى التحرّر من النّظام الصّارم. ولطالما اعتقدت والدي كذلك. ليتبيّن فيما بعد أن الشرطيّ لم يعد بتلك الصرامة الذي عهدتها فيه. وقد ساعدني هذا الشعور على التخلّص من كل تلك المخاوف والاعتبارات التي ظلّت تلازمني طيلة حياتي.
ومع طلوع النهار، تسلّلت نسمات عبر باب الصّالة الكبير، كأنّها تريد أن تحملني معها إلى الحارج، فحرجتُ مسرعا أستعيد أنفاسي في انتظار ما تبقّى للعبور إلى الجانب الآخر من البحر.
كنتُ أشعر كأن شيئا ما ينقصني، ورحتُ أبحث عنه في ركن ما من أركان السفينة المتأرجحة، و استوقفني شاب يفوقني ببعض السنتيمترات؛ صافحته بحرارة، وقام يبادلني نفس التحيّة. وعرفتُ من خلال ملامح وجهه و لهجته أنّه تونسي. وكنّا ونحن نتجاذب أطراف الحديث، وكأنّنا صديقين حميمين قديمين، ولفترة من الزمن لم نشعر خلالها بالفوارق الاجتماعية ولا الجغرافية.
واستطاع الجار التونسي أن يفرض عليّ إيقاعه المحكم مستغلّـا في ذلك موهبته في الفذلكة و القدرة على صياغة الكلام، وكان دقيقا في كلامه؛ وكأنّما حفظه عن ظهر قلب. وفجأة، وإذا بوالدي الذي لم يفلتني بنظره وكان يراقبني من مكان ما، كأنّه يرغب في استعادة دوره الحقيقيّ. وأرسل إلي بنظرات تحذيرية، تعوّدتُ عليها وأنا طفل صغير.
فاختصرتُ الكلام معتذرا لهذا الرّفيق الذي لم يمضِ على معرفتي به سوى بعض الثواني، ومع ذلك استطاع أن يروي لي قصّته كاملة دون تلكّأ أو تلعثم؛ عن الظروف التي أجبرته على الهروب من تونس ونظامها ”البورقيبي“، والقدوم إلى عنّابة للمشاركة في امتحانات البكالوريا لأن شهادة البكالوريا في تونس غير معترف بها في الخارج.
و لحسن الحظ فإن والدي لم يمنحنِ وقتا طويلا وإلّـا كانت الأمور ستتعقّد. ولأن الشرطي المعروف بصرامته وكثرة انضباطه، كان قد حسب حساب لهذا السفر، و لتمضية أطول مدة ممكنة في مدينة مرسيليا. وكان والدي -رحمه الله وطيّب ثراه- أشبه ما يكون بالممثّل الأمريكي (كلينت إيستوود) بيقظته وقوة صبره وتحمّله.
لكن، وبرغم تلك القوّة والصّرامة، فإن الشرطي لم يستطع مقاومة نظرات المحيطات والمعجبات. اللاّئي ربما عرفن كيف يعوّضن النّقص الكبير الذي ظلّ يعاني منه معظم الأوقات؛ إذ إنّ أم طفليه ما انفكت تعاني ومنذ فترة طويلة من مرض عضال.

يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى