تعاليقرأي

ضائعٌ بين أقرانه الجزء الثّاني (11)

*

رشيد مصباح (فوزي)
الجزائر
*
تلمّس والدي داخل جيبه وأخرج بعض الفرنكات وهو يحدّق في وجهي مشيّعا نظرته كعادته حين يكون مبتهجا بابتسامة خفيفة نزلت كنسيم الصبح العليل على فؤادي؛ ربّاه! كم أنا مشتاق إلى تلك النظرة المغلّفة بالإبتسامة التي كانت وراء الدّلال الذي تربّيتُ وعشتُ وترعرعتُ فيه.
أخذتُ تلك النّقود التي ناولنيها أبي ولم أستطع إخفاء الفرحة التي جعلتني استعجل الأمور أُسابقُ الزّمن، والوقت يمرّ بسرعة، ويجب أن استغلّ كل ثانية فيه ولم يتبقّ لنا منه سوى بضعة أيّام ثم نعود إلى الديّار لنعيش تلك الرتابة المملّة من جديد.
حملتُ النقود ومرقتُ كالسّهم مسرعا ولم أشعر بالمسافات وهي تُطوي تحت قدميّ من شدّة الفرح، ورحتُ ألهثُ بحثا عن الشّيفون بين الشوارع الكبيرة، فقد مررتُ به قبل هذا بيوم أو يومين، ويوجد في مكان ما لم أعد أتذكّره.
بعد كدّ وجهد جهيد و أخيرا تعرّفتُ على المكان من خلال بعض المعالم وأدركتُ أنّه لم يعد يفصلني عنه سوى بضعة أمتار وأصل. وتراءت لي من بعيد أكوام القماش على الرّفوف الممتدّة والممدّدة على جانب الطّريق ”إلى ما لا نهاية“.
وانغمستُ بين الصفوف أقلّب أصناف الألبسة والبدلات، وافحصها بدقّة.. وأخذ الأمر منّي بضعة دقائق.. وعثرتُ على قميص مزركش بعديد من الألوان الذهبية البرّاقة، لا تزال صورة النمر الذهبي التي رُسمت عليه عالقة بذهني. وتقدّمتُ إلى البائع الشّاب، وسألته عن سروال مناسب، فأشار إلى رفّ بجانبه.
لم أفرّط في القميص المزركش الذي ساقني الحظ لأعثر عليه بين الشّيفون: ”عندي زهر كبير فالشّفون ـ هيه ـ “، وأخذتُ أقلّب السّراويل، ووقع بصري على سروال من القَدِيْفَةْ أو القطيفة رمادي اللّون.
وأخذتُ ”كنزي“ معي وتوجّهتُ إلى البائع، وأعطيته بعض النقود من التي بقيت معي ثمن القطعتين. ولم تيبقّ سوى البحث عن حذاء مناسب، فعثرتُ على بالاديوم أبيض، أعجبني كثيرا. فدفعتُ ثمنه وحملته وعدتُ أدراجي أُسابق الرّيح ولم ألتفت ورائي؛ خوفا من أن يندم البائع و يرجع على رأيه.
عدتُ مسرعا ومتلهّفا للتخلّص من ”الكوستيمة“ المنيّلة، والقميص بطوقه الطويل كأنّه ”لسان بقرة“ ومن الحذاء الأسود الذي أرّقني تلميعه و انتعاله؛ غفر الله لوالدي فقد كان يحرص كل الحرص على أن أبدو شرطيّا مثله.
وألفيتني في النزل أو الفندق أمام موظّف الاستقبال، وأخذتُ منه المفتاح وصعدتُ السلالم بطريقة ينوء بصعودها أمهر العدّائين. وفتحتُ باب الغرفة فوجدتها شاغرة قد غادرها والدي. وكان ذلك مواتيّا مناسبا لكي أقيس اللّباس وبراحتي.
تخلّصتُ من المظهر القديم بلباس يبدو للنّاظر كأنّه جديد، وراقني مظهري وأنا داخل القميص المزركش، بدوتُ فيه كالنمر الذي رُسم عليه، وشعرتُ بنعومة القطيفة وهي تلاطف جلد فخذيّ، وانتعلتُ البلاديوم الأبيض وانتابني شعور بالخفّة والرّشاقة.
لم أقدر على المكوث في النّزل طويلا، وتركتُ الغرفة بعد غلقها ورائي، ونزلتُ السّلالم بنفس الكيفية التي صعدتُ فيها، وتوجّهتُ نحو موظّف الاستقبال وناولته المفتاح وخرجتُ مسرعا أنشدُ الحريّة أردّد أغنيّتي المفضّلة وكان عنوانها: (À moi la vie)
نسمة من نسمات الصيف العابرة، ونغمة نشاز لا تدرك جمال معانيها سوى النّفوس التي تمرّدت. كالطير؛ حرٌّ طليقٌ أنا. غفر الله لوالدي، ”الله يسامحك يا بابا لعزيز “ اليوم فقط عرفت قيمة الحريّة.
والدي يحب النّظام كثيرا، بل ويعشقه كما يحبّ ويعشق الأناقة. عاش والدي العزيز وترعرع وكبر في كنف النّظام و المحبّة والاحترام. والدي الذي أوكل إليه جدّي مهمّة تموين المجاهدين بجبل (بوسّسو) وهو في عمر الزّهور. غامر بحياته وتعرّض للخطر مرّات عديدة وهو يحمل الطعام للقائد ولد الچايد.
يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى