القضية الفلسطينية بين واقع التاريخ وخطاب الأنظمة العروبية

د. محمود عباس
عقدت الجامعة العربية قبل يومين جلسة خاصة في القاهرة لمناقشة قضية غزة، متأثرةً بتصريحات ترامب ومخططه حول المنطقة، ولربما للمرة الأولى، ساد خطاب أكثر واقعية، مغايرًا لما اعتادت عليه الجامعة منذ تأسيسها، حيث لطالما طُرحت القضية الفلسطينية ضمن شعارات شعبوية جوفاء، تخدم الأنظمة العروبية الدكتاتورية أكثر مما تخدم القضية ذاتها.
على مدى عقود، رفعت هذه الأنظمة، إلى جانب بعض القوى الإسلامية، شعار “مواجهة المشروع الصهيوني” لتبرير سياساتها، لكنها في الوقت ذاته تجاهلت الحقائق التاريخية والجغرافية التي تثبت أن اليهود، كالفلسطينيين، لهم جذور وحقوق في هذه الأرض، وأن إسرائيل ليست مجرد “مشروع سياسي” كما تروج له الدعاية العروبية، بل كيان قائم على أسس تاريخية موثقة.
فهل جاء هذا التحول في الخطاب خوفًا من تصريحات ترامب، أم أنه استجابة للمتغيرات الكبرى التي بدأت ملامحها تتشكل في الشرق الأوسط، سواء من خلال التصريحات أو عبر خطوات فعلية على الأرض؟
اليوم، ومع تغير موازين القوى، بات الخطاب العربي أكثر براغماتية، لكن التساؤل الأهم: هل هذه الصحوة تمثل تحولًا حقيقيًا في الموقف العربي، وهل ستغير مواقفها تجاه قضايا الشعوب الأخرى كالشعب الكوردي أيضا، أم أنها مجرد خطوة تكتيكية تفرضها الضرورات السياسية المؤقتة؟ فمن خطاب شعاراتي كان يدعو إلى إزالة إسرائيل وإلقاء اليهود في البحر، أصبحنا نشهد تهافتًا على تبني حل الدولتين كخيار منطقي وواقعي، فهل هذا التحول وليد القناعة، أم أنه مجرد قبول قسري بالواقع المفروض؟
فعلى مدار القرن الماضي، استغلت الأنظمة العروبية القضية الفلسطينية لتوحيد شعوبها خلف شعارات قومية زائفة، معتمدة على خطاب معادٍ لليهود يهدف إلى طمس الحقائق التاريخية:
إلغاء الحقائق التوراتية والتاريخية: رغم أن التوراة والإنجيل والقرآن تعترف جميعها بوجود بني إسرائيل في هذه الأرض، وأن القدس كانت مركزًا للحضارة اليهودية، إلا أن الأنظمة القومية سعت إلى محو هذه الحقيقة من الوعي الجماهيري.
الترويج لنظرية “المشروع الصهيوني”: بدلًا من الاعتراف بحق الشعب اليهودي في دولته، سعت الدعاية العروبية إلى تصوير إسرائيل ككيان “مصطنع” تم إنشاؤه بقرار دولي، متجاهلة الحقائق التاريخية الممتدة لآلاف السنين.
تشويه مصطلح الصهيونية: بدلاً من الاعتراف بها كحركة قومية تهدف إلى إعادة الشعب اليهودي إلى أرضه، تم تحويل “الصهيونية” إلى مصطلح مشحون بالكراهية، تُستخدم لتبرير السياسات القمعية ضد أي تواصل سلمي بين إسرائيل وجيرانها.
في ظل عجز الأنظمة العربية عن تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية، وجدت في القضية الفلسطينية وسيلة فعالة لصرف الأنظار عن إخفاقاتها الداخلية:
تبرير القمع السياسي: أي معارضة للحكومة كانت تُوصف بأنها “خيانة للقضية الفلسطينية”، وبالتالي، تم استخدام العداء لإسرائيل كأداة لسحق الحريات وإسكات الأصوات المعارضة.
إلهاء الشعوب عن الفساد والفشل: بدلاً من التركيز على الإصلاحات، استخدمت الأنظمة العربية فلسطين كقضية مركزية لإثارة المشاعر الوطنية، بينما كانت تمارس أبشع أنواع الفساد والتسلط في الداخل.
التحكم في الخطاب الديني: عبر تحويل الصراع من نزاع سياسي إلى صراع ديني بين “المسلمين واليهود”، أُجبر الناس على تبني موقف عدائي ضد إسرائيل دون إدراك الخلفيات الحقيقية للصراع كرفع شعار (زوال اليهود) و(الموت لليهود) و (سنرمي اليهود في البحر) وغيرها.
انتقل الصراع الفلسطيني – اليهودي، إلى مواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، مع تصاعد التحشيد العربي والإسلامي ضد إسرائيل، وخاصة بعد حرب 1973، بدأ الغرب ينظر إلى إسرائيل كحليف استراتيجي لا يمكن التخلي عنه، ليس فقط كدولة ذات حق تاريخي، ولكن أيضًا كحصن أمام التطرف الذي بدأ يهدد الاستقرار الدولي.
الولايات المتحدة وأوروبا عززتا دعمهما لإسرائيل: نتيجة للتحريض العربي والإسلامي، أصبح الدفاع عن إسرائيل جزءًا من استراتيجية الغرب للحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط ومنع انتشار الحركات المتطرفة.
روسيا استخدمت القضية الفلسطينية كأداة ضغط: رغم علاقتها بإسرائيل، حاولت موسكو استغلال الدعم العربي للقضية الفلسطينية لمناكفة الغرب، مما أدى إلى تعقيد المشهد أكثر.
إسرائيل أصبحت محور الصراع الدولي: بدلاً من أن يبقى الصراع محصورًا بين إسرائيل والفلسطينيين، أصبح جزءًا من المواجهة بين الغرب والدول العربية وبعض الإسلامية، مما أدى إلى تشويه القضية الفلسطينية وإدخال حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته إلى جانب إسرائيل في متاهات كارثية، وإدخالها في صراع عالمي غير متكافئ.
نتيجة لتحويل القضية الفلسطينية إلى أداة للصراع العربي-الإسلامي ضد الغرب، كان الفلسطينيون أنفسهم أكبر الخاسرين:
فقدان التأييد الدولي: بعدما كان العالم ينظر إلى الفلسطينيين كشعب يسعى للحصول على حقوقه، تحولوا إلى جزء من تحالفات سياسية ودينية، مما أفقدهم التعاطف والدعم.
الانقسامات الداخلية الفلسطينية: بسبب التدخلات الخارجية، انقسم الفلسطينيون بين تيارات مختلفة، من فتح المدعومة عربيًا إلى حماس المدعومة إسلاميًا، مما أضعف القضية أكثر.
استمرار الاحتلال بدلًا من البحث عن حلول سياسية: لو أن الفلسطينيين ركزوا على بناء دولتهم بدلاً من الدخول في صراعات إقليمية، لكان الوضع مختلفًا اليوم، لكن التحريض المستمر ضد إسرائيل جعل الوصول إلى حل دائم أكثر صعوبة.
كيف يمكن تصحيح المسار؟
إعادة القضية إلى إطارها الحقيقي كصراع سياسي: يجب فصل القضية الفلسطينية عن الصراعات الإقليمية والدينية، والتركيز على الحلول الواقعية التي تحقق الأمن والاستقرار لجميع الأطراف.
الاعتراف بالحق التاريخي لليهود في أرضهم: بدلاً من الاستمرار في إنكار حقائق التاريخ، يجب الاعتراف بأن الشعب اليهودي له جذور تاريخية عميقة في هذه الأرض، وأن السلام القائم على الاعتراف المتبادل هو الحل الوحيد.
التخلي عن الشعارات العاطفية والدعاية التحريضية: آن الأوان لأن يدرك الفلسطينيون أن استغلالهم في أجندات الدول العربية والإسلامية لم يخدم قضيتهم، بل جعلهم وقودًا لحروب لم تجلب لهم سوى المزيد من المعاناة.
إن استمرار تصوير إسرائيل كـ “مشروع صهيوني” بدلاً من دولة ذات شرعية تاريخية، هو تزييف للواقع يخدم الأنظمة القمعية أكثر مما يخدم الفلسطينيين. لا يمكن للقضية الفلسطينية أن تجد حلًا حقيقيًا ما دامت تُستخدم كأداة سياسية في صراعات إقليمية ودولية، وما لم يدرك الفلسطينيون واليهود أن الحل يكمن في الحوار والتعايش، وليس في الشعارات الفارغة التي أثبتت فشلها على مدى العقود الماضية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية