تعاليقرأي

الاستبداد بالرّأي.. ظاهرة صحيّة أم عقدة نفسيّة ؟

رشيد مصباح (فوزي)
الجزائر
*
”فولي طياب“؛ عبارة لطالما سمعنا بها، وقد يُراد بها المدح على سبيل المثال، بينما هي في حقيقتها تعني شيئا غير الذي يتم تداوله؛ وهو إن الشخص لا يمتدح نفسه فحسب، إنّما يمتلك الحقيقة المطلقة، مستبدّا برأيه.
برغم توفّر الوسائل التكنولوجية والمعرفية الحديثة التي تنشر المعرفة وتضمن تعميمها ووصولها إلى جميع الناس، إلّـا أن بعضا منهم يعتقدون أن المعرفة حكرٌ على أمثالهم، وليس لغيرهم معرفة الكثير مما يعرفونه. وهي نظرة استعلاء، كنظرة إبليس لنفسه وفرعون من بعده. وفيها من العُجب والغرور، و الاستخفاف بالآخرين وازدرائهم.
قبل هذا التعميم لهذه الوسائل الحديثة، كانت المصادر شحيحة وشبه موحّدة، لكن كان هناك شغف كبير بحب العلوم والمعرفة؛ وذلك من أجل تنميّة المواهب والقدرات الذّاتية أوّلا وقبل كل شيء. ثم تأتي الفائدة بعدها، و”الشهيّة تأتي بعد الأكل“ -كما جاء في المثل- لا للتباهي، ولا بغرض نيل أكبر قسط و قدر من الإعجاب؛ مثلما هو سائد الآن وفي ظلّ هذا الزّخم الكبير والاستخدام الواسع للوسائط الاجتماعية.
إن من بين الأشياء الإيجابية لهذا التعميم الواسع للوسائل المعرفية هو إنّه لم يعد هناك احتكار للمعلومات، ولا لمصادر العلم والمعرفة. وبالتالي لا وجود لمن يمتلك الحقيقة المطلقة.
وقبل أن نغوص في الأعماق لدراسة هذه الظاهرة؛ فإن هناك مثلا يقول: ” الإنسان ابن بيئته“. بمعنى إنه يتأثّر بما يتلقّاه من الأبوين سواء داخل الأسرة وهو طفل، أو المجتمع الواسع والعريض حين يكبر. إذ إن الانسان يولد صفحة بيضاء والآخرون ينسخون فيه ما يشاؤون: ((كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه)). الحديث الشّيف.
ثم تأتي المدرسة بعد ذلك، ويتأثّر الطفل كثيرا بزملائه وأصحابه؛ و”الصاحب ساحب“ -كما جاء في المثل-، وفي الحديث الشريف: ((المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ)). ومع هذا، يبقى دور الأبوين في هذه التنشئة هو الأساس والحصن الحصين؛ وبعض من الآباء نجحوا في تلقين ابنائهم المبادئ الصحيحة، وأمّا آخرون فكان نصيبهم من ذلك هو الفشل.
ومن الأبناء من هم ضحايا أحد أمرين:

  • إمّا الغنج وكثرة الدلال.
  • وإمّا التهميش والازدراء.
    و الغنج والدلال المبالغ فيه؛ وهو أمر شائع بين الأسر، كأن يكون الابن مثلا هو الوحيد في الأسرة، يحظى بمكانة خاصّة لدى أحد الأبوين أو كليهما. فيكبر وفي نفسه شيء من العُجب والغرور، لا ينفع معه نصحٌ بعدها أبدا.
  • وإمّا أن الولد؛ ولسبب من الأسباب المعروفة وهي كثيرة ومتنوّعة يطول ذكرها، يتعرّض للازدراء من طرف أحد الأبوين أو كليهما، أو من المعلم مثلا، أو من أحد الأصدقاء المتسلّطين عليه. وفي جميع الحالات، فيبدأ مع هذا النّموّ تتشكّل لديه بعض العقد النفسية؛ مثل الرّهاب وانفصام الشخصية وغيره، وفي الواقع ليس بهذا الابن ”مسٌّ“ ولا ”عين“، بل هو ضحية ازدراء و”سوء معاملة“ من أحد الأطراف المذكورين.
    وقد تجد من بين هؤلاء صاحبا وصديقا ما، يجعلونك تراجع العلاقة الطويلة التي بينك وبينهم، وليتبيّن لك فيما بعد أن صاحبك أو صديقك هذا لا تعرفه حق المعرفة. فنحن كثيرا ما ندّعي امتلاكنا للحقيقة المطلقة، بينما في الواقع أن ما نعرفه لا يمثّل سوى نسبة ضئيلة، وضئيلة جدّا ممّا هو موجود. وفي ذلك يقول الحكيم (أبو نواس) – رحمه الله برحمته الواسعة وطيّب ثراه-:
    فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
    حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى