أحوال عربيةأخبارأخبار العالم

غزة.. 8 مايو 1945 وأورادور سور غلان: المفهوم الانتقائي للمجازر

غزة.. 8 مايو 1945 وأورادور سور غلان: المفهوم الانتقائي للمجازر

زكرياء حبيبي

عرت الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة بشكل كامل عن تزوير وتحريف المفاهيم لدى الغرب، الحليف الوطيد للمعتدي والمحتل الصهيوني؛ واليوم، فإن مُقاوم الحصار التعسفي، الذي يدافع عن أرضه المحتلة بشكل غير قانوني منذ عام 1947، والذي يدافع عن حقه في دولة ذات سيادة ومستقلة، يوصف بأنه إرهابي من قبل المستعمر وحلفائه الغربيين، القوى الاستعمارية القديمة والجديدة. مثل فرنسا أو المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه المقاربة ليس جديدة عليهم وليست وليدة اليوم، لأنه خلال العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر، كان الإرهابي قاطع الرؤوس وذابح الرقاب في الجماعة الإسلامية المسلحة، جهادياً ومروجاً للديمقراطية. وهو الوضع الذي تغير خلال الهجمات الإرهابية التي ضربت فرنسا، حيث أصبح نفس الجهادي في الجزائر إرهابيا لنفس الأعمال الإجرامية في فرنسا. ولا تزال ازدواجية المعايير هذه، من حيث المفاهيم، سارية في مناطق الصراع التي اختلقتها القوى الاستعمارية، بحكم الأمر الواقع في الشرق الأوسط، وفي منطقة جنوب الصحراء الكبرى في الساحل.

ولتوضيح هذا الاحتيال الفكري، الذي خطط له الغرب وينفذه، بشكل أفضل، ارتأينا أنه من المفيد التطرق لمذبحة أورادور-سور-غلان التي ارتكبها النازيون في يونيو 1944.
فخلال مقابلة أجراها مع مجلة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 5 نوفمبر 2021، تطرق الرئيس الجزائري عبـد المجـيد تبـون لمذبحة قرية أورادور سور غلان، التي ارتكبها النازيون عام 1944، ولتوضيح فظائع وهمجية الاستعمار بشكل أفضل (اقرأ: الرئيس تبون لمجلة دير شبيغل: الجزائريون لا يحتاجون إلى أعذار ماكرون، بل بحاجة إلى الاعتراف بكل جرائم فرنسا في الجزائر.
https://algerie54.dz/2021/11/05/der-spiegel-tebboune-2/

وقال الرئـيس تبـون: “إن بلادنا لا تحتاج إلى اعتذار من ماكرون عما حدث سنة 1830 أو 1840، لكننا نريد الاعتراف الكامل وبدون تحفظ، بالجرائم التي ارتكبها الفرنسيون”. وقد فعل ماكرون ذلك بالفعل. وأعلن علانية أن الاستعمار جريمة ضد الإنسانية.

وكما يعلم الجميع، دمر الألمان قرية بأكملها في أورادور سور غلان. وحتى اليوم، يتم إحياء ذكرى هذه المذبحة على سبيل المثال. لكن في الجزائر، كان هناك العشرات من أورادور سور غلان. حيث أخذ الفرنسيون سكان العديد من القرى إلى الكهوف، وأضافوا الحطب وأضرموا فيها النيران. أين كان الناس يموتون خنقا بطريقة مأساوية.

“لقد كان لدينا عشرات المجازر التي أبيدت فيها القرى، مثل أورادور سور غلان، وتم حرق سكانها أحياء وأبيدوا”. تصريح ثقيل يشهد على فظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حيث يتم تقديم مرتكبي الإبادة الجماعية مثل بيليسييه وكافينياك وبوجو، كمحررين. كما تعتبر المؤسسة الفرنسية بوجو وغيره أبطال حرب.

قبل قرن من مذبحة قرية أورادور سور غلان، لقد تم إبادة الشعب الجزائري على يد رعاة وجلادي المحارق، وهي تقنيات إبادة استخدمتها القوة الغاشمة الفرنسية أثناء غزو الجزائر عامي 1844 و1845. وفي الفترة من 18 إلى 20 يونيو 1845، تسبب المقدم بيليسييه في هلاك قبيلة جزائرية بأكملها تقريبًا اختناقًا، وقد وجدت هذه القبيلة ملجأً في كهوف كتلة الظهرة.

وتنضاف مجزرة الظهرة إلى ما ارتكبه مُجرمو الإبادة الفرنسية في منطقة الدبوسة الواقعة بين بلديتي الصبحة وعين مران (شمال غرب الشلف)، والتي تعد من أكبر المجازر والجرائم ضد الإنسانية التي ستظل محفورة في الذاكرة الجماعية. والتي تُلطخ بشكل لا يمكن محوه ماضي فرنسا الاستعمارية في الجزائر، خاصة خلال فترة المقاومة الشعبية.

في يونيو 1944، قُتل ما يقرب من 700 قروي من الرجال والنساء والأطفال في قرية أورادور سور غلان الفرنسية على يد جيش الاحتلال النازي. وخلال هذه الفترة من احتلال فرنسا، قامت المقاومة الفرنسية، وأبرزها المقاومة الداخلية بقيادة جان مولان، وبالنسبة للفرنسيين فإن الذين حاربوا النازيين هم من المقاومة. وبعد أقل من عام، قُتل 45 ألف مدني جزائري على يد الجيش الاستعماري، الذي أطلق على نفسه اسم جيش المقاومة ضد النازيين.

كان يوم 8 مايو 1945، يوم الحرية في جميع أنحاء العالم، يوم حداد، عندما تم اغتيال آلاف الجزائريين الذين جاءوا للاحتفال بهذا الحدث والمطالبة بالاستقلال، على يد الجيش الفرنسي، والذي يصف قادته اليوم المقاومة الفلسطينية بـ”الإرهابيين”، ومرتكبي مجازر “دير ياسين”، و”صبرا وشاتيلا”، و”قانا” بـ”الضحايا”.

إن الجزائريين لم ولن يتفاجأوا بأي حال من الأحوال، لأن فرنسا الاستعمارية سبق وأن وصفت شهدائنا الأبرار ومجاهدينا البواسل بأنهم “فلاقة وإرهابيون”. لقد عاش الجزائريون سياسة الأرض المحروقة وقصف القرى بالنابالم، دون أن ننسى التجارب النووية التي أوقعت آلاف الضحايا وما زالت تقتل بعد أكثر من ستين عاما، مع العلم أن أولئك الذين تغنوا لنا بمخاطر الاحتباس الحراري ومن خلال مؤتمرات القمة المناخية المختلفة (COP) هم أولئك الذين ارتكبوا هذه المجزرة البيئية والذين يواصلون تجاهل موضوع تطهير المواقع الذي لا تزال السلطات الجزائرية تطالب به.

وهذه فرنسا نفسها، التي استلهمت الأساليب الهمجية لمحتلها النازي خلال حرب الجزائر، والتي وصفت الشهداء الأبرار والمجاهدين البواسل من جيش التحرير الوطني بـ “الإرهابيين”، تنصب نفسها اليوم كحليف للمعتدي الصهيوني، الذي يقصف المستشفيات والمدارس بشكل عشوائي في غزة، بهدف الأرض المحروقة وإبادة شعب بأكمله يعاني من الظلم منذ ما يقرب من 80 عاما.

وفي عام 1942، أصبحت ستالينغراد مجزرة حقيقية حيث بلغت الخسائر البشرية حوالي مليوني قتيل. ففي عام 1944 كان الضحايا الفرنسيون من المقاومين، وفي عام 1954 في الجزائر كان المناضلون من أجل حرية واستقلال البلاد “إرهابيين”، وفي عام 2023 في غزة، يعتبر المقاومون الفلسطينيون الذين يحاربون الاحتلال والحصار التعسفي الذي يفرضه الكيان الصهيوني على أكثر من 2 مليون فلسطيني “إرهابيين” لسبب بسيط، هو أنهم يرفضون الأمر الواقع ومحاكم التفتيش والإملاءات الصهيونية والغربية، فمنذ 7 أكتوبر ونحن نشهد مجازر بحق المدنيين والأطفال والنساء على يد الجيش الصهيوني المدعوم من الغرب، والذي أساليبه وحشية وهمجية…

في الختام، السخط والاستنكار والإدانة، انتقائي ومتغير، بين أورادور سور غلان، و8 مايو 1945، وساقية سيدي يوسف وغزة. ومن الواضح أن موقف الجزائر الذي عبر عنه رئيسها برفض أي وصف آخر يُلصق بالمقاومة الفلسطينية، يدعو إلى اختراق جدران تردد بعض الأنظمة العربية، التي تواصل طعن القضية الفلسطينية، مخيبة بذلك آمال شعوبهم. والفاهم يفهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى