تعاليقرأي

رحيل مقدّر وأجل محتوم.

**

رشيد مصباح (فوزي)


يتمنى الإنسان شيئا ما، لكن ما إن يتحقّق له ذلك يندم. لأنّ ذلك الشيء تسبب له في ضررٍ ماديٍّ أو معنويٍّ ما، أو الاثنين معاً. وفي المقابل، قد لا يرغب الإنسان في شيء ما أو بعض أشياء. وتسوقها له الأقدار من لا يدري ولا يحتسب فيعيش معها أحلى اللحظات. فتتغيّر نظرته لهذا أو هذه الأشياء التي لم يكن راغبا فيها، ويراجع حساباته؛ وكأنه لم يكن يعرف ما يجب عليه اختياره. ونقول نحن بالعامية الدّارجة” ما يعرفش صلاحه”. بمعنى أنّه لا يعرف ما يفيده مما لا يفيده. وللأمر علاقة وطيدة بتجارب الحياة، وقد وردت أمثلة كثيرة في هذا الأمر، وفي المستطرف: «سَلِ المُجَرِّبْ ولا تَنْسَ الطبيب.»”.

يتمنّى الإنسان الغنى ويخشى الفقر، وقد يتحقّق له ذلك وهو يعتقد جازما أن المال كل شيء ويحقّق السّعادة. لكنه بمجرّد أن يتعرّض لمحنة أو ابتلاء ما، ينتكس، ويتلاشى ويضعف.

وبعض منّا يستكثر على الفقير صبره ورضاه. يبني أحكامه على المظاهر المزيّفة وينسى الجوهر، ويعلم جيّدا أن مفتاح السّعادة في الصّبر والرّضا، وأن النعيم الحقيقي يكمن في القناعة والرضا بالقليل اليسير. وليس في مظاهر البذخ والترف، ولا بالإسراف في الشهوات والنّشوات العابرة.

وكما أنّ العالم يشهد انتشارا رهيبا للفقر والغنى في هذا العصر، فإن الفؤوس لا تكاد تهدأ و القبور لا تكاد تخلو من المشيّعين، في هذه الأيّام. ولأسباب كثيرة ومتعدّدة: الأمراض واحدة منها والحروب، وكذلك الانتحار بشتّى الوسائل لسبب ما، وبلا أسباب…؛ وقديما قال الشاعر:

ويصطدم الجمعان والنقع ثائر

فيسلم مقدام ويهلك حائد

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والداء واحد

و قال الشاعر في الجاهلية الأولى:

لعمرُكَ إن الموتَ ما أخطأ الفتى

لكالطِّولِ المُرخى وثِنياه في اليد

وفي الذّكر الحكيم: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾

لا مُشاحّة “أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضّعيف” كما جاء في الحديث. وأن الغنيّ الذي يغدق بماله وبما حباه الله به من خيره على غيره، أفضل بكثير من الفقير الذي لا يجد قوت يومه.

لكن هذا لا يعني أن السّعادة مقرونة حتما بالقوّة والمال والجاه؛ وصاحب هذا الاعتقاد يعتبر إمّا جاهلا وإمّا جاحدا. ولا داعي لسرد قصص؛ عن بعض الملوك والأثرياء من الذين ختموا حياتهم بالنّدم على ما اعتقدوه في قدرة المال والجاه والسلطان على توفير السّعادة. ليدركوا بعدها ويتأكّد لهم أن الدنيا ليست بمقام لأحد، وأن السّعادة الحقيقية لا تكمن في مظاهر البذخ والترف الزّائفة، وإنّما في القلوب المؤمنة المطمئنّة: [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ].

الدّنيا نشوات عابرة، و العبرة فيما يتركه الإنسان بعد رحيله.

وفي الحديث: – أتاني جبريلُ عليه السَّلامُ فقال : يا محمَّدُ ! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه ، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به ، ثمَّ قال : يا محمَّدُ ! شرفُ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ ، وعِزُّه استغناؤُه عن النَّاسِ.

بعض الناس يجد صعوبة في التأقلم مع مواسم العمر المتقدّمة، يصعب عليه رؤية شيبة في ذقنه وشعر رأسه.. يقضي جلّ أوقاته أمام المرآة محاولا نتف شعرة هنا وأخرى هناك كي يبدو شابا في نظر الآخرين، وهو يعلم أشدّ العلم أنه مهما حاول فإنّه لا ولن يستطيع إيقاف عجلة الزّمن. أولى بهذا الإنسان أن يفكّر في الموت، وفيما يترك بعد رحيله. خليق بهذا الانسي الفاني أن يسارع إلى ترك أثر جميل قبل حضور أجله المقدّر، وبعد رحيله المحتوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى