اسراراقتصادتقارير

رؤية 2030 العربية السعودية .. التحول الكبير

رؤية 2030 الاقتصادية… نقطة تحول في تاريخ المملكة العربية السعودية

كاظم الحناوي

ربما يكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بإقرار أعدائه قبل أتباعه، بأنه من أهم رجال الدين في العصر الحديث إطلاقا الذين ينبغي الرجوع إليهم عند الرغبة في تحليل وتفكيك وفهم آليات عمل الحركة الوهابية، تلك الحركة التي أنتجها بعد مروره على كافة المدارس الإسلامية في محيطه السنية والشيعية، ونجح بفرضها على معظم الجزيرة العربية إلى اليوم، وإن في أشكال أكثر تعقيدا من أيام نشأتها الأولى، مجاريا ما آل إليه الوضع السياسي، (كما يمكنك الوقوف عليه من تاريخ الحركة الوهابية. لكن «كتاب التوحيد»، كتاب محمد بن عبد الوهاب الأهم، رغم أنه ب 66 بابا لا يساعد القارئ كثيرا إن هو أراد استكشاف آليات عمل ذلك النظام السياسي، عندما يتعلق الأمر بال (السعود) تحديدا، وطبيعة الدور الذي لعبوه تجاه صياغة وتموضع الوهابية في مجتمع الجزيرة العربية، إذ يكتفي الشيخ بتقديم مبادئ وتعميمات جافة بهذا الشأن، دون أن يتسنى له رسم صور دقيقة. هنا تماما تأتي أهمية الفكرة من مراجعة الكتب عن تاريخ الحركة الوهابية والسعود، التي نجدها في سلسلة من النصوص والأعمال المفصلية نشرت عبر ما يقرب من المئة عاما الأخيرة قدمت ما يمكن اعتباره الدليل المرافق لـ«الحركة الوهابية» لكنها لم تتحدث حول تفكيك الوهابية والسعود باعتبارهما صنوان لا يفترقان في ظل ما تمر به الحركات الدينية، والجذور التاريخية للعلاقات الاجتماعية والثقافية التي تحكم العائلتين السياسية والدينية.

الدين والدولة

الدين والدولة في المملكة العربية السعودية للكاتب أيمن الياسيني يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي تبحث في الشأن السعودي، فهناك تفصيل وتحليل للكيفية التي تم من خلالها إنشاء المملكة السعودية، واستطاع الكاتب أن يفصل عملية الربط بين فكرة النظام السياسي والحركة الوهابية، والطرق التي اتبعها كل من قبلية آل سعود والمرشد الديني محمد عبد الوهاب، فمن خلال هذا التزاوج بين فكرة القبلية والحركة نجح كل من الطرفين على تحقيق أهدافه، فآل سعود استـأثروا بالسلطة السياسية المدعومة بفكرة الدين، ومحمد عبد الوهاب بنشر فكره الديني، ففتواه تعتبر المرجع الوحيد للحكم السعودي، وما جاء قبله وبعده من كتب يمثل مدخلا موجزا وتحديثاً لمجمل الأفكار الرئيسة التي أوجزناها أعلاه، لا سيما إن فكرة تفكيك الوهابية كما يعتقد البعض جاء في القرن الأخير لتفرد أمريكا بقيادة العالم، وقد قام (ترامب) في فترة حكمه الأولى بمنع المظاهر الوهابية حيث أصبح يعلن الآن إن السعودية تتحول للمذهب الحنفي، ومن بعدها ستسير نحو العلمانية حيث فكك ولي العهد محمد بن سلمان ظاهرة صيد النساء بالشوارع بحجة التبرج من قبل الشرطة الدينية، كما شهدها المجتمع السعودي منذ بدايات صعود السعود، بوصف السيطرة على المرأة أداة لإعادة قولبة نصف المجتمع الناعم لمصلحة النظام الديني والسياسي، خدمة لأغراض حكم المنظومة المتحالفة. هذه القولبة المستجدة أتت بعد عقود طويلة من التعايش بين الرجل والمرأة كان يتسم في سواد المجتمع البدوي والفلاحي الطابع وخارج إطار الأسر الحاكمة الدينية والسياسية بالعلاقات المتوازنة، ومشاركة اقتصاديّة مشهودة للنساء، قبل ظهور مبدأ أن المرأة لا يمكنها نزع الخمار إلا أمام زوجها، بغرض سحب الذكور إلى العمل خارج المنزل، بينما تتفرغ النساء للإنجاب وإنجاز الأعمال المنزلية.

حتمية تاريخية

ترافق ذلك مع استخدام وصمة الخروج عن الدين والفجور لإرهاب كل من تسول لها نفسها التمرد على تلك الصيغة المستجدة للأحكام الدينية، وللتخلص ممن ليس لها قيمة اقتصادية وغير القادرات على إنجاب الأطفال، ويكتفين بإثارة المتاعب للنظام السياسي، عبر تأثيرهن (غير المستحب) على النساء الخاضعات. هنا حُوِّل الإنجاب إلى مهمة اقتصادية محضة، وممر إجباري لاكتساب رضا المجتمع. لقد تحولت المرأة إلى عورة في مجتمع الجزيرة العربية، تماما كما تحول الذكور إلى أخذ دور الأمراء في محيطهم العائلي، ولذا فإن الشرف والناموس الاجتماعي أيضا كان مكانهما حرمان المرأة.
ويمكننا تسجيل الانعطاف التاريخي من خلال قراءتي للمجتمع السعودي عند لقائي مع عدد من الطلبة السعوديين الذين يدرسون الدكتوراه في جامعة اسكس بمدينة كولشستر البريطانية عام 2014 حيث أثبت لهم أن عالم ما بعد النفط يحتاج إلى قائد سعودي يقوم بتغييرات جوهرية لكي تسير دفة الحكم بالاتجاه الصحيح نتيجة تنبئي أن بإمكان المشايخ، ومن خلال النصوص الدينية أن يتيحوا للحكام السعوديين قبول التحولات (إذا ما أرادوا) من قبل المجتمع لذلك لا يمكن تحميل التحول فقط إلى رغبة الأمير محمد بن سلمان مثلا بالادعاء أن التغييرات بصفتها شروط أمريكية، إنما هي حتمية تاريخية، بينما تعاونت المؤسسة الرسمية الدينية بقيادة عائلة الشيخ والقوانين التي استحدثها الحاكم الجديد، بتشجيع المنتجات الثقافية من أدب ومسرحيات وسينما وغناء، مع العديد من برامج المواسم من آثار وتراث التي كانت محرمة، كما أصدرت تعليمات وقوانين تساعد على تحرير المرأة مثل السفر من دون محرم، لتخرج عن أوامر العائلة، بل وشرعت خلع النقاب من رؤوس النساء، والسماح لهن بتبوء مناصب لم يكن يحلم بها، وهذه القوانين تذكر بفك قيد العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية.

 في كتاب الدكتور عبدالرزاق السنهوري، قال إن الإسلام دين لا دولة؛ وقدّم منهجية لتطبيق الشريعة في البلاد الإسلامية، عبر إنشاء هيئة للشؤون الدينية، وهو يتبين حسب ما ذكر أن الجمع بين التخصصات الدينية والسياسية يؤدي في النهاية كما أثبتت الوقائع التاريخية إلى سيطرة الهيئات السياسية، ولكن السلطتين يجب أن تجتمع في القائد أو الملك، وكان يؤكد أن التقدم العربي لا يحتاج إلى فترة طويلة من الزمن كما استغرق التقدم الغربي إذا ما وجد القائد القادر على ذلك والواقع يثبت في (التجربة السعودية) أنه قد أصاب في توقعاته؛ إذ إن أهم وأكثر الحركات الإسلامية تطرفا قد تُرَوَّض الآن. ورغم أني قد توقعت قبل عشر سنوات من الآن في قراءتي لمستقبل السعودية أنها تنحو إلى حصر الالتزام الديني بالأماكن الدينية في مكة والمدينة المنورة بنقاشات لا يمكن إخفاؤها، فإن كثيرا من الاستنتاجات قابلة للاستخدام والتطبيق والعبرة في مختلف التجمعات البشرية خارج النسق الغربي، على نحو يؤهلها لتكون قراءة لازمة لكل من يتصدى لعالم ما بعد النفط في الجزيرة والخليج العربي.

الصدمة والإمتاع

 وبعكس الرؤية التي وضعها الأمير محمد بن سلمان الذي يصعب عبوره أحيانا على غير المتخصص وغير المطلع على المناخ التاريخي الذي وضع في إطار هذه الرؤية، فإنها حققت الصدمة والإمتاع معا. خذ مثلا موسم الرياض والمشاركين فيه. فإن لا أحد قادر على جمع هكذا عدد من النجوم في المجتمعات الغربية الأكثر تحضرا اليوم حيث يقول عنه المتضررون والمعادون لهذه الرؤية إنه نوع من هذر فارغ ذي مضمون سلبي، ومضيعة للوقت…
 لكن الرؤية تقول إن فكرة فك أسر النساء مسألة في غاية الأهمية لديمومة المجتمعات البشرية، إذ هن بما يصفه الوهابيون بالثرثرة يصغن ذاكرة المجتمع، وينقلن ثقافته الجمعية عبر الأجيال، ويسجلن التاريخ الذي غالبا ما يسهو التاريخ الرسمي عن تسجيله، ويشكلن بذلك هوية المجتمع وشخصيته وحكمته وخبراته المتوارثة.
أما على الصعيد العملي، فإن تلك الأحاديث تبقى وسيلة بقاء وتضامن بين النساء، يتبادلن فيها الأفكار، وتفسير السلوك الاجتماعي للآخرين، ومشاركة التجارب المشكلة لوعيهن، بعيدا عن أسماع المتلصصين، هذا دون عظم قيمتها بنقل خبرات الأجيال في العناية بالصحة والأطفال والمنازل.
وتستحضر كتابات المستشرقين بدايات الأحكام القاسية على النساء إلى بدايات الحركة الوهابية، وتورد أمثلة مذهلة من أحكام كانت يفرضها شيوخ الدين والعائلات الثرية، وتقدم صورا مبتذلة عن المرأة المستقلة التي لا تقبل الخضوع للرجل، وتظهرها شريرة سيئة الخلق، وأن الرجل الذي يحترم زوجته، ويتعامل معها بندية لا يستحق لقب الرجولة، وكثيرا ما صورته تلك خطب شيوخ الدين بأشكال مهينة تثير السخرية، بينما وضعت المرأة كعورة داخل إطار الشيطنة والإفساد وقلة الاهتمام بمصالح العائلة.
ولو راجعنا الضربات التي وجهت للأحكام الوهابية منذ تبني رؤية 2030، من خلال التخلي عن نصوص الحركة الأدبية والأهازيج والأحكام (الشرعية)، لتظهر كيف تحولت الكلمة التي تقال في المرأة من وصف سلبي حول منظومة تواصل أساسية إلى صفة إيجابية، مع نشوء الحاجة إلى تفتيت سيطرة الحركة الوهابية على المجتمع السعودي.

الاستثمار في عالم ما بعد النفط

كانت المطالبات النسائية سر المواجهة والتحرر الأخيرة التي دعا لها المجتمع الدولي لرفع الحيف عن نساء كن ضحايا مواجهة العبث الأخلاقي والجنسي في أحكام شيوخ الحركة، بينما أعدت الرؤية لهن اليوم بمستقبل أكثر عدالة.
ولتجنب تدمير التراث الثقافي والتاريخي للسعودية، اعتبرت الرؤية أن تدمير المقابر والأضرحة أمر غير ملزم وواجب على المسلمين، دائما عملية الاهتمام بالتاريخ تكون على حساب الفتاوى المتخلفة، من هنا نجد تركيز الدولة على محاربة الظواهر الوهابية في الشوارع، وجعلهم يطبقون فتاويهم في بيوتهم دون التعدي على القانون، ليرفعوا عنهم شغلهم الشاغل تحقيق وتطبيق الشريعة على الأحياء ومن في القبور، وتجنب بحث قضايا المرأة والجهاد في الخطب، فقد وضعت لهم خطوط حمراء، كما أن الملك أولى بحماية مواطنيه فهو حاكم عليهم والله وليهم في الدنيا ولآخرة.
القسوة التي تعاملت بها الوهابية كانت تثير التساؤل، لذا على الدولة أن تقوم بواجبها الديني والشرعي بإقامة الحد على هؤلاء الخارجين على القانون بغرض ضمان ديمومة الثروة والنفوذ، والاستجابة من الشارع السعودي إنما هي ردة فعل طبيعية للقهر الذي يتعرض له المواطن في مطحنة الأرواح التي تسمى الأحكام الشرعية.
بالطبع، توقعاتنا لنهاية الحركة قبل عشرة أعوام قد تكون لم تدر بخلد العقول التي تشربت بالأوضاع التي كانت قائمة، وتربت عليها، ولم تعتد النظر في أصول الأشياء، لكنه واقع لا بد منه إذا رغب المرء بالخروج من أوهام كهف الوهابية والفورة النفطية والاتجاه نحو الاستثمار في عالم ما بعد النفط والاقتراب خطوة خطوة من الدولة المدنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى