المعجزة الاقتصادية في كوريا الجنوبية

الطاهر المعز

نسمع أو نَقْرَأُ أحيانًا نقدًا لاذعا – مُبَرّرًا – للأنظمة العربية أو أنظمة الدّول “النّامية”، وهو نقد مشروع في معظم الحالات، خصوصًا نقد برامج التنمية ( أو غياب هذه البرامج)، لكن ما يُثِير الإنتباه هو الإدّعاء بأن الشعوب “كسولة” أو “غَبِيّة” بدليل نُهُوض الشُعوب “المُجتهدة” و “الذّكية” التي خَرّبت الحُرُوب بلدانها ثم نهضت وتطوّر اقتصادها بسرعة، ويُقدّمون دائمًا نفس الأمثلة: ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان… وجميعها أنظمة مُوالية للولايات المتحدة التي نصبت بها قواعد ضخمة وأشرفت على نظامها السياسي وعلى برامجها الإقتصادية ودعمتها الولايات المتحدة خدمةً لاستراتيجيتها…
تُقدّم الفقرات الموالية لمحة عن تطور اقتصاد كوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصًا بعد التقسيم، مع ذِكْرِ بعض الوقائع والتفاصيل التي تُفنّد حُصُول “مُعجزة اقتصادية” خارج إرادة الولايات المتحدة التي لا تزال تُشرف على جهاز الحكم في كوريا وتستخدم البلاد كقاعدة في مواجهة الصّين وروسيا، غير عابئة بمطامح شعب كوريا في السّلم والوِحْدَة.

لمحة تاريخية
تعرضت كوريا للاحتلال – مثل العديد من الدول الآسيوية – من قبل اليابان منذ العام 1905 وحتى هزيمة اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، حيث انقسمت كوريا بحكم الأمر الواقع إلى شمال حرّرته المقاومة بدعم من الإتحاد السوفييتي، وجنوب دخلته القوات الأمريكية وساهمت في تهميش مقاومة الحزب الشيوعي للإحتلال الياباني، ومنذ تحررها من الحكم الياباني (1905-1945)، ارتبطت كوريا الجنوبية بالولايات المتحدة من خلال العديد من اتفاقيات التعاون، وخاصة في المسائل العسكرية، ومارست الولايات المتحدة إلى رقابة مشددة على كوريا الجنوبية التي تسعى إلى زيادة التجارة مع الصين التي تريد واشنطن احتواؤها.
أما التعافي الاقتصادي لكوريا الجنوبية ( كما اليابان وألمانيا ) بعد عقود من الاحتلال الياباني (1905 – 1945) وبعد “الحرب الكورية” (1950 – 1953) هو خطة أمريكية تتطلب الولاء لواشنطن التي تضمن الأمن، واليوم تمتلك كوريا الجنوبية عاشر أكبر جيش في العالم، وتتمتع باقتصاد مزدهر ومكانة قوة إقليمية، لكنها لا تستطيع الخروج عن طاعة أمريكا التي قامت بإنزال قواتها بنهاية الحرب العالمية الثانية، في منطقة “إنتشون” يوم السابع من أيلول/سبتمبر 1945 وقامت على الفور بنزع سلاح القوات اليابانية ثم إعادتها إلى وطنها، ونصّبت “هيئة الأركان العامة الأمريكية” لتضع النصف الجنوبي من كوريا تحت المراقبة، من خلال تنصيب حكومة عسكرية أمريكية (الحكومة العسكرية للجيش الأمريكي في كوريا، USAMGIK)، “في انتظار تشكيل حكومة محلية مع قادة محليين أكفاء” وفق عبارات القيادة العسكرية الأمريكية، وكان العمال أو الموظفون وذوو الخبرات والمهارات في في الجزء الجنوبي من كوريا، من اليابانيين في الغالب، بينما عانى العمال الكوريون الجنوبيون من البطالة والتضخم، وتم نفي أكثر من مليون كوري أثناء الإحتلال الياباني، طالبوا بعد الحرب بإعادتهم إلى وطنهم…
ثَبَّتَت الحرب الباردة التي بدأت سنة 1946 وجود القوى الأجنبية في شبه الجزيرة الكورية، وكان من المفترض أن يكون وجودها مؤقتا، لكن الولايات المتحدة كانت تُصمّم وتنظم وتُنفّذ مخطط الوصاية وتحويل النصف الجنوبي من كوريا إلى جبهة عسكرية أمريكية متقدّمة من خلال القواعد العسكرية والمساعدات المادية والمالية التي عززت قبضة الولايات المتحدة على المنطقة، وقامت الولايات المتحدة بتنصيب ودعم “ري سينغمان”، الذي كان أثناء الإحتلال الياباني يُناضل في المنفى من أجل الاستقلال، وحصل منذ تنصيبه في السلطة على دعم غير مشروط من الولايات المتحدة، مما منحه الوسائل اللازمة للحكم – تحت إشراف أمريكي – لمواجهة شعبية الحزب الشيوعي الكوري، ولنشر الإيديولوجية الرأسمالية المحافظة لدى الرأي العام، وترافق الدّعم الأمريكي ل”ري سينغمان” بحَظْر العمل النقابي، منذ صَيْف 1946، وتم مَنْع الصحف اليسارية، وتعرض مناضلو وقيادات الفرع الجنوبي للحزب الشيوعي الكوري إلى قمع رهيب، لِتَخْلُوَ السّاحة السياسية من المُعارضين للإحتلال الأمريكي (الذي عَوّضَ الإحتلال الياباني) خلال انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 1946، حيث عينت الحكومة العسكرية الأمريكية بشكل مباشر نصف البرلمانيين الموجودين في مجلس النواب، وتمكنت من الحصول على أغلبية محافظة صوتت لصالح دستور جديد بنهاية شهر تموز/يوليو 1948، وأصبح “ري سينغمان”، بفضل الدّعم الأمريكي، أول رئيس لجمهورية كوريا (الجنوبية) يوم 15 آب/أغسطس 1948، وشاركت الولايات المتحدة بفعالية في بناء الدولة الكورية الجنوبية إلى غاية اندلاع الحرب الكورية، حيث قاتل الجيش الأمريكي رسميًا تحت راية الأمم المتحدة، لكن تلك الحرب كانت صراعًا أثارته الولايات المتحدة، في إطار “محاربة الشيوعية” ودامت الحرب من 25 حزيران/يونيو 1950 إلى 27 تموز/يوليو 1953، وخلفت دمارًا كبيرًا وملايين الضحايا، لكن عجزت الولايات المتحدة عن احتلال النصف الشمالي من كوريا، الذي حرره الحزب الشيوعي الكوري من الاحتلال الياباني، بمساعدة الاتحاد السوفيتي. وثبّتَت الحرب الانقسام الذي لا يزال ساريًا، وأسفرت الحرب عن توقيع حكومة كوريا الجنوبية، التي نصّبها الجيش الأمريكي، معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 1953، وتَنُصُّ هذه المعاهدة على “التزام الولايات المتحدة بحماية كوريا الجنوبية من هجوم محتمل من قبل الشمال”، وفي المقابل، يتعين على كوريا الجنوبية أن توافق على مواءمة سياستها الخارجية مع سياسة “الكتلة الغربية”، ومنذ سنة 1954، يتمركز حوالي 60 ألف جندي أمريكي في أربع قواعد ضخمة في كوريا الجنوبية ( فضلا عن القواعد الضخمة في اليابان ودول جنوب وجنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ) وتتلقى كوريا الجنوبية، مقابل القواعد، المساعدات المادية والتكنولوجية الأمريكية، وأوكِلت قيادة القوات الكورية للأمم المتحدة (بإشراف جنرال أمريكي) طيلة أربعة عُقُود، قبل أن يتولى الجيش الأمريكي الإشراف المباشر على الجيش الكوري الجنوبي.
تتضمّن “الحماية” الأميركية قُيُودًا وثمنًا مرتفعًا جدًّا، إذ تُسدّد كوريا الجنوبية (كما اليابان وألمانيا وإيطاليا وغيرها) قسطًا كبيرًا من تكاليف الوجود العسكري الأمريكي على أراضيها، وتكلفة رعاية القوات وصيانة المعدات وتحديث أنظمة الأسلحة، وبلغت هذه التكاليف 866 مليون دولار سنويًا بين سَنَتَيْ 2014 و2020، وطالب دونالد ترامب بزيادة المشاركة الكورية بنحو 400%، ومنذ سنة 2021، تُسدّد كوريا الجنوبية ما يزيد قليلاً عن مليار دولار سنويًا كتكاليف تتعلق بالوجود العسكري الأمريكي…
أدّت هذه النفقات وعربدة الجنود والضّبّاط الأمريكيين وإفلاتهم من العقاب بفعل تمتعهم بالحصانة المُطْلَقَة، إلى نمو موجة من العداء ورفض الوجود العسكري الأمريكي، ومنذ 2010، ارتفعت وتيرة الإحتجاجات الشعبية، ولكن الولايات المتحدة تتشبث بالقواعد وبشروطها، ولما حاولت رئيسة كوريا الجنوبية “بارك جيون هاي” الحصول على بعض الهامش حَذّرَها نائب الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن في عهد باراك أوباما في عقر دارها، في سيول يوم السادس من كانون الأول/ديسمبر 2013، وهدّدها بِرفْع الحماية عنها وعدم دعم حكومتها، في إشارة إلى احتمال إزاحتها…
على الصعيد الدبلوماسي، أثر التحالف مع الولايات المتحدة سلباً على العلاقات الصينية الكورية، خصوصًا بعد قيام الولايات المتحدة، سنة 2017، بتثبيت نظام الدفاع الأمريكي “ثاد” المضاد للصواريخ، وبالتالي تكثيف عسكرة شبه الجزيرة، وتعتبر الصين نظام ثاد تهديدا لأمنها، وأصبحت كوريا الجنوبية بين المطرقة والسّندان، حيث لا يُمكنها أن تدير ظهرها للصين، شريكتها التجارية الرئيسية لعدة سنوات، إذ بلغت صادرات كوريا الجنوبية إلى الصين ما يقرب من 174 مليار دولار في عام 2019، وينفق السائحون الصينيون ما يعادل عشر مليارات دولارا سنويا في كوريا الجنوبية…

حقيقة “مُعجزات” الإقتصاد الرأسمالي
قامت الولايات المتحدة، بنهاية الحرب العالمية الثانية، ببناء إمبراطورية جمعت المهزومين – ألمانيا وإيطاليا واليابان ومستعمراتها – لتقيم في بلادهم قواعد عسكرية عملاقة، ولتحويل هذه الدول إلى واجهةً للاقتصاد الرأسمالي والدعاية الأيديولوجية، وتشكل كوريا الجنوبية جزءاً لا يتجزأ من هذه الخطة، بسبب قربها من روسيا والصين.
إن إعادة البناء المذهلة لاقتصاد كوريا الجنوبية بعد نهاية الحرب الكورية سنة1953، والتي وصفت بأنها “معجزة” ( كما الحال في اليابان وألمانيا)، هي إرادة أمريكية لخلق نموذج ناجح للإقتصاد الرأسمالي، بدعم من الدّولة الكورية التي تخلصت من الإنفاق العسكري (بفعل “الحماية” الأمريكية) ووجهت الإنفاق نحو المشاركة القوية للدولة في الاقتصاد، لصالح الشركات الكبيرة، والتخطيط والإشراف على برامج التنمية الاقتصادية من قِبَل الدّولة التي تمنح قُرُوضًا بشروط مُيَسّرة، ووضعت الدولة نفسها بالكامل في خدمة المجموعات الإقتصادية الضخمة ( الشِّيبولز)، مثل سامسونغ وهيونداي وإل. جي وغيرها، والتي ازدهرت بفضل الإستثمار الحكومي والقُرُوض المُيسّرة، وكذلك بفعل القمع السياسي والنقابي العنيف الذي مكّنها من خفض تكاليف الإنتاج لتضخيم حصتها من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الصلب والتجهيزات الميكانيكية وبناء السّفن والإلكترونيات ومقاولات البناء، لكن لَقِيَ هذا النّموذج معارضة تم سحقها، أثناء سحق حزب العُمّال (فرع الحزب الشيوعي في الجنوب)، ثم عادت المعارضة منذ سنة 2010، ولكن وخلافًا لاتجاهات الرّأي العام، تعزّز التحالف العسكري بين حكومة كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، في ظل رئاسة “للي ميونغ باك” (2008-2013) و “بارك جيون هاي” (2013-2017)، على نحو لا يخلو من المفارقة بالنسبة لنمو التجارة مع الصين، ما جعل اعتماد كوريا الجنوبية على الولايات المتحدة يتعارض مع مصالحها الاقتصادية، ومع مصلحة ومشاعر المواطنين الذين ضاقوا ذَرْعًا بوجود القواعد الأمريكية وبسلوك الجنود (الاغتصاب والجرائم التي لا يعاقب عليها القانون) المُحَصَّنين…

الدّوْر الإقتصادي لجهاز الدّولة
أصبحت المجموعات الاقتصادية الكورية الجنوبية، تدريجيا – بفضل مساعدات الدولة والدعم الأمريكي، في إطار التقسيم الدولي للعمل – تكتلات اقتصادية كبيرة عابرة للحدود الوطنية، تسيطر على سلسلة الإنتاج بأكملها وترْفُدُها بهياكل تجارية قوية، غير إن “المُساعدات” الأمريكية تندرج ضمن مخطط يجعلها مرتبطة بشكل مباشر بالأهداف السياسية التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها في نطاق مُخَطّطات سياستها الخارجية…
خلافًا لدعاية وسائل الإعلام المهيمنة والاقتصاديين الليبراليين، فإن ازدهار الإقتصاد الرأسمالي الكُورِي لا يُعَدُّ “معجزة على نهر الهان”، فهذا “النموذج من النجاح” ليس نتيجة “آليات السوق والمنافسة الحرة وغير المُشَوَّهَة”، بل إن الصعود الصاروخي للشركات الكورية الكبرى هو في الواقع نتيجة للتدخل المباشر والمستمر للدولة في النشاط الاقتصادي، والتي توزع الامتيازات والمزايا على الشركات الكبرى، وتَرَافَقَ التوسع الاقتصادي في كوريا الجنوبية مع اتجاه نحو تركيز رأس المال في القطاعات الصناعية الرئيسية التي تقود النمو، وبالعودة إلى سنة 1968، كانت 12,5% من الشركات تخلق 65% من القيمة المضافة الوطنية، وأدى نمو رأس المال وتركيزه إلى هيمنة فئة قليلة من الإحتكارات على اقتصاد البلاد، وأصبح ذلك من ميزات الإقتصاد الكوري، وكانت دكتاتورية الدولة وإرث الفترة الاستعمارية والتراكم البدائي لرأس المال الذي ميّز فترة ما بعد الحرب وقمع الحركة العمالية في عهد بارك تشونغ هيي من العوامل التي ساهمت في بناء الإمبراطوريات الصناعية والتجارية وظهور التكتلات…

الديكتاتورية مُرادِف لولادة دولة كوريا الجنوبية
لم تختف الديكتاتورية مع نهاية رئاسة بارك تشونغ هيه التي استمرت 17 عامًا، من عام 1962 إلى عام 1979، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ألغت قناة KBS بشكل نهائي برنامجًا ينتقد الحكومة، بينما قام مديرها السيد بارك مين بطرد الصحفيين وتعيين صحفيين جدد. إنها عودة إلى الفترة الاستبدادية التي سبقت “التحول الديمقراطي” – بإشراف أمريكي – سنة 1987 وإلى فترة الإرهاب “المناهض للشيوعية” ووحشية فترة حكم ديكتاتورية ري سينغمان، مؤسس نظام ما بعد الحرب الكورية الجنوبية الذي أطاحت به حشود الطلاب الغاضبين في نيسان/أبريل 1960، وكان قد فَرَضَ حالة الطوارئ التي بررها “بخطر الشيوعية” لتسهيل وتبرير الاعتقالات الجماعية للمعارضين السياسيين، والقمع القاتل للإضرابات والحركات الاجتماعية، والرقابة. جمعت الولايات المتحدة التي دعمته كل مقومات الاستبداد، وأنشأ “ري سينغمان” وبمساعدة الولايات المتحدة ( كان موظّفًا ساميا في الإدارة الأمريكية لما كان لاجئًا)، واحدة من أكثر الديكتاتوريات قمعية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في فترة ما بعد الحرب مباشرة.
انهال القمع، منذ سنة 1946، على حزب العمال الكوري الجنوبي (شقيق الحزب الشيوعي الذي حَرَّرَ المنطقة الشمالية)، الذي تمكن من تعبئة سُكان الريف ضد “المحتل” الأمريكي الجديد وعملائه المحليين، واستمر الاحتجاج الشعبي في شكل مظاهرات وإضرابات أعقبت الانتفاضة العفوية في دايجو (تشرين الأول/أكتوبر 1946)، والتي أخمدتها القوات الأمريكية – التابعة لقواعد الجيش الأمريكي في كوريا الجنوبية – بوحشية، وسرعان ما ساد مناخ من حرب العصابات في جميع أنحاء البلاد، وقام قادة حزب العمال وأعضاؤه وأنصاره بتسليح المناضلين والأنصار سرًا بهدف مواجهة السلطات، وكانت هذه الظروف، ظروف مقاومة باسلة للإحتلال الأمريكي، هي الدّافع الأساسي الذي جعل الولايات المتحدة تدعم ترشيح مُوظّفها “ري سينغمان” لانتخابات أيار/مايو 1948 بهدف أساسي يتمثل في “إعادة النظام إلى البلاد وتفكيك اللجان الشعبية وتدمير الشبكات النضالية وخلايا حزب العُمّال من أجل وضع حد للاحتجاجات الشعبية”، ورَدَّ “ري سيغمان” الجميل، بعد فَوْزِهِ، منذ الأشهر الأولى لرئاسته، وأصدر مراسيم تمنع الإضرابات والمظاهرات، وتخنق الصحافة اليسارية من خلال الرقابة، وحصلت قواة الشرطة والدّرك على المزيد من الموارد البشرية والمادية والقانونية، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1948، أقرت الحكومة – التي تسيطر عليها الولايات المتحدة – قانون الأمن القومي الذي لا يزال ساريًا حتى سنة2024، وهو نص قانوني شبيه بقانون الاستثناء، حيث أعطى الشرطة والمحاكم حرية أكبر في اعتقال ومحاكمة وسجن “الأفراد المتورطين في أنشطة مناهضة للدولة”، والتي لم يتم تحديدها بوضوح، من أجل قمع جميع أشكال المعارضة، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة لسنة 1949, الذي أحصى 90 ألف شخص اعتقلتهم حكومة ري سينغمان بين أيلول/سبتمبر 1948 ونيسان/أبريل 1949 (من بينهم 6 نواب بالبرلمان ) بينما تم – بموجب هذا المرسوم – سجن 80% من السجناء الكوريين البالغ عددهم 60 ألف سجين سنة 1950، بدعم ومشاركة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية المادية والتقنية والمالية، و تقوم الولايات المتحدة بتدريب وتجهيز وإمداد وكالات إنفاذ القانون في كوريا الجنوبية، كما شاركت القوات الأمريكية المتمركزة في قواعد كوريا الجنوبية، بشكل مباشر في قمع وإعدام أكثر من 100 ألف سجين سياسي ومتعاطف مع الشيوعيين خلال صَيْف 1950، في بداية الحرب المعروفة باسم “الحرب الكورية”، وفي نهاية حزيران/يوليو، وبداية شهر تموز/يوليو 1950، بعد نحو شهر واحد من انطلاق الحرب، قامت القوات الأمريكية بذبح 300 مدني كوري جنوبي لجأوا è بسبب الحرب è إلى مكان قريب من قرية نو-غون ري – بحجة أنه “من المحتمل أن يكون بينهم متسللون كوريون شماليون”.
تُعْتَبَر انتفاضة سُكّان جزيرة تشيجو-دو من أكثر الأحداث القمعية دموية في فترة رئاسة ري سينغمان، فقد كانت جزيرة تشيجو (أو تشيجو-دو باللغة الكورية) ذات موقع استراتيجي لمقاتلي حزب العمال الكوري الجنوبي، بمساعدة السكان المحليين، وهي تقع في جنوب كوريا وهي أيضاً نقطة عبور للمهربين اليابانيين الذين يزودون الفدائيين بالأسلحة، وفي بداية شهر نيسان/أبريل 1948، اشتبك مناضلو حزب العمال الكوري الجنوبي (المدعومون من قبل جزء كبير من سكان تشيجو دو) مع “قوات حفظ النظام والقانون” واقتحم المنضلون الشيوعيون مراكز الشرطة في المدن الساحلية واستولوا على السلاح، ثم حاصروا عاصمة الجزيرة، وسرعان ما وصلت الاشتباكات إلى مستوى من العنف لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب، وانهارت قوات الشرطة المحلية، أمام جموع المناضلين والسّكّان الدّاعمين لهم، وأخلت قوات الدرك والشرطة والجيش التابعين للحكومة الكورية القرى الواقعة على المرتفعات من سكانها الذين تم نقلهم إلى معسكرات على الساحل، وفي نهاية الصيف، ألقت القوات الكورية القبض على حوالي 600 مشتبه به من المناضلين والسّكّان، لكن القتال استمر، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1948، أطلق الدرك العنان لعنف قوات الدرك بشكل عشوائي على سكان الجزيرة، سواء أكانوا مقاتلين أم لا، وأعلنت قُوات الدّرك، في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1948، عن قَتْل 1625 شخصًا وأَسْرِ 1383 شخصًا، وفي 25 كانون الثاني/يناير 1949، اكتشف الجنود الأميركيون في قرية أورا-ري 97 جثة لرجال ونساء وأطفال، قُتلوا ببنادق من طراز M-1، أي أسلحة الشرطة المحلية، وبعد أقل من شهر، أي في 20 شباط/فبراير 1949، شهد أربعة مستشارين عسكريين أميركيين إعدام 76 من سكان تودو-ري على يد رجال الميليشيات اليمينية المتطرفة الموالية للحكومة، واستمر القمع حتى تم اعتقال العديد من القادة المحليين لحزب العمال الكوري الجنوبي خلال ربيع 1949، وقطعت الشرطة رأس أحدهم، وهو كيم مين-سيونغ، عُرضت رأسه على الملأ في وسط مدينة سيوغويبو، كرمز لانتصارها المروع ولترْويع وإرهاب سكان الجزيرة،.
أثناء الحرب الكورية، اقترحت حكومة ري سينغمان، خلال خريف سنة 1951، تعديلًا دستوريًا على البرلمان لتحويل جمهورية كوريا إلى نظام رئاسي، ولكن رفض النواب نص القانون في كانون الثاني/يناير 1952، وردّ الرئيس “ري سينغمان” – الموظف السامي الأمريكي السابق – بفَرْضِ الأحكام العُرفية بداية من 25 أيار/مايو 1952، ما أدى إلى اعتقال 44 نائبًا، واستسلم النواب أخيرًا وعدّلوا الدستور يوم السابع من تموز/يوليو 1952، وألغوا تحديد فترات الرئاسة.
لم يتردد ري سينغمان في التخلص من خصومه السياسيين الرئيسيين للبقاء في السلطة، وخلال الانتخابات الرئاسية لعام 1956، كان تشو بونغ-آم، الزعيم السابق للحزب الشيوعي الكوري أثناء الاحتلال ومؤسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعد هدنة بانمونجوم، العضو الوحيد من المعارضة الذي وقف ضد ري سينغمان، ورغم الدعاية والقمع وتزييف الإنتخابات، تمكن من الفوز بحوالي 30% من الأصوات التي تم الإدلاء بها، مما يكشف عن التحول التدريجي في الرأي العام الكوري الجنوبي ضد الرئيس ري سينغمان الذي أمَرَ بإلقاء القبض على تشو بونغ آم في كانون الثاني/يناير 1958، وحوكم مرتين، وحُكم عليه في النهاية بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، وقد لعبتعملية إعدام تشو بونغ آم شَنْقًا، دورًا في اندلاع الغضب خلال آذار/مارس و نيسان/أبريل 1960، عندما تم الكشف عن تزوير الانتخابات الرئاسية، وتخلت الولايات المتحدة عن عميلها ري سينغمان بعد تأدية الدّور المطلوب منه، وأُجْبِرَ على التنحي يوم 26 نيسان/أبريل 1960، وكان رحيله إيذانًا بنهاية مرحلة نظام استبدادي حافظَ على تماسُكِهِ، منذ نهاية الحرب الكورية، بالخوف والعنف والدعم الأمريكي، وهو إرث استبدادي لا يزال مُستمرًا حاليًا في كوريا الجنوبية.

نشأة المجموعات الصناعية الكُبرى في كوريا الجنوبية
كانت فترة ما بعد الحرب في ظل رئاسة ري سينغمان (1948-1960) فترة قمع وإثراء للرأسماليين المقربين من الحكومة الفاسدة، حيث كان هناك تراكم بدائي لرأس المال، وبعبارة أخرى كان هناك استحواذ غير رأسمالي وأحيانًا غير اقتصادي لرأس المال. واستفادت البرجوازية المحلية – التي تعاونت مع اليابانيين ثم الاحتلال الأمريكي – من سياسة الحماية والمزايا التي منحتها الدولة والولايات المتحدة لمواصلة التصنيع الذي بدأ قبل الحرب ولإعادة تأهيل البُنَى التحتية الإنتاجية التي دُمِّرَتْ خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية (1950-1953)، ومنحت الدولة بعضَ شرائح البرجوازية وبعض الشركات الكبرى مساعدات وقروضًا بأسعار فائدة مواتية وإعفاءات ضريبية وحقوق حَصْرِيّة للتصدير أو الإستيراد، وشجّعت الدّولة – تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية – حفنة من الصناعيين المُقَرّبين ليتمكّنوا من خلق احتكارات ضخمة في قطاعات استراتيجية، وعززت الدولة ( وليس “اليد الخفية للسوق” أو “المنافسة الحُرّة”) – منذ بداية رئاسة ري سينغمان في عام 1948 – أوجه عدم المساواة بين الشركات الكبيرة المقربة من الحكومة، والتي كانت قادرة على شراء مرافق الإنتاج اليابانية بتكلفة منخفضة، والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ثم تمكنت المجموعات العملاقة ( الكارتلات )، مثل رابطة المنسوجات الكورية، من تشكيل تكتّلات، وتغلغلت في أسواق المنسوجات والأغذية الزراعية، وفي نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين، أصبح 19% من منتجي المنسوجات يستحوذون على 90% من السوق، وفي صناعة السكر، استحوذ 2% من المنتجين وأصحاب المصافي على 92% من السوق، وخلقت السياسات الاقتصادية التفضيلية التي اتبعها “ري سينغمان” تكتلات قليلة من الشركات الجديدة، بل إنها في الواقع أعادت ببساطة تنشيط الشركات التي كانت تتعاون مع الإحتلال الياباني والتي تزعزع استقرارها بسبب اختفاء المستعمر الذي ترك إرثًا اقتصاديًا بعد رحيل المستعمرين المتسرع بعد الحرب العالمية الثانية، واستفادت البرجوازية المحلية التي تعاونت مع الرأسماليين اليابانيين (مثل عائلة كيم أو عائلة لي بيونغ تشول، مالكي شركة سامسونغ) من الصناعات التي خلفها اليابانيون، وقد فضّل الديكتاتور بارك تشونغ هي (الذي حكم من 1962 إلى 1979) هذه الفئة من البرجوازية الكورية التي ازدادت ثراءً من خلال التخصيص الانتقائي للائتمان والحصول على قروض أجنبية مضمونة من الدولة وإعانات التصدير والإعفاءات الضريبية للاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، وقد أدت هذه السياسة إلى ظهور مجموعات كبرى تمكنت من فرض نفسها في الأسواق الخارجية في قطاعات رئيسية مثل البتروكيماويات وبناء السفن وصناعة الصلب والإلكترونيات. وتستهدف المساعدات والإعانات التي تمنحها الدولة تلك الشركات الأكثر قدرة على الإنتاج بكميات كبيرة وبتكلفة منخفضة من أجل تلبية متطلبات التصدير وغزو الأسواق الدولية.

ذهب “سينغمان” واستمر الإستغلال والقمع، بإشراف أمريكي
على صعيد الديمقراطية، قام الرئيس بارك تشونغ هيه – بدعم من الولايات المتحدة – بوضع دستور جديد في أكتوبر 1972، والذي سمح له بتركيز جميع السلطات وحظر المنظمات المهنية غير اتحاد النقابات الكورية (الناطق الرسمي باسم السلطة التنفيذية وأرباب العمل داخل أوساط الطبقة العاملة) وتصعيد القمع السياسي من قبل الشرطة وكذلك من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الكورية (KCIA) التي عملت بشكل وثيق مع المجموعات الصناعية الكبرى لاختراق التجمعات العمالية وتحديد المُعارضين للنظام، وكانت النتيجة قمع العمال وانخفاض الأجور وزيادة ساعات العمل، وبفضل الترسانة القمعية التي نشرها بارك تشونغ هي منذ العام 1972، كان لدى التكتلات مناخ سياسي واجتماعي مواتٍ لتعزيز استغلال العمال وزيادة الأرباح والتوسع الاقتصادي.
إن الضراوة التي هاجمت بها البرجوازية الكورية الحركة العمالية خلال عقْدَيْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين أغرقت العمال في حالة من الوهن الذي استمر لفترة طويلة من الزمن، مما منعهم من إعادة بناء النقابات القوية، ولكن للقمع وللخوف حدودهما فقد أطلق 28 ألف عامل بشركة سامسونغ إضرابًا عن العمل، يوم 28 أيار/مايو 2024، أظْهَر إرادةً فولاذية وتنظيمًا مُحْكَمًا، ما قد يُعيد الأمل إلى الطبقة العاملة التي عانت عُقُودًا من القمع السّافر، بإرادة وبإشراف أمريكيّيْن… أما الحديث عن المُعجزات في المجال الإقتصادي فهو طلاء خارجي للتغطية على حقيقة التّدخّل الإمبريالي الأمريكي المُباشر في حياة ومستقبل الشعوب، خدمة لمصالح الإمبريالية الأمريكية واحتكاراتها، بشكل حَصْرِي…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى