تعاليقرأي

ضائعٌ بين أقرانه الجزء الثّاني (2)

رشيد مصباح (فوزي)
الجزائر
**
سرق صبي فتم توقيفه وإحضاره إلى القاضي الذي أمر بقطع يده. وصرخ الطفل باكيّا و بأعلى صوته متأثّرا بالحكم وهو يرد على القاضي يقول: ”اقطعوا لسان أمّي قبل أن تقطعوا يدي“.
استغرب القاضي موقف هذا الولد، وسأله عن السّبب؟
فجاءه الردّ من الولد: ”سيدي القاضي! حين كنتُ طفلا سرقتُ بيضة، وعوضا من أن تعاقبني والدتي خرجت تتبجّح مبدية فخرها وسرورها، لأنّي في نظرها قد كبرتُ. فلولا لسان أمّي الذي شجّعني على السّرقة في صغري لما كنتُ اليوم سارقا تُقطع يده“.
أعرف أشخاصا مارسوا كل المهن الحقيرة؛ ”من التي يعافها النّاس“ لأجل إعالة أسرهم الفقيرة، ولم يكن الفقر أبدا عائقا أمامهم وأمام تحقيق طموحاتهم الكبيرة.
-(ز). واحد من بين هؤلاء، منذ كان طفلا وهو يغسل فناجين القهوة في مقهى معروف، حتى صار شابا ناجحا، واليوم هو طبيب جرّاح.

  • نفس الشيء بالنسبة للمدعو (ف). كان يعمل؛ من بداية النّهار إلى نهايته، عند (فوّال) صاحب دكّان معروف، ينظّف الموائد، ويحمل ما تبقى من فضلات يقوّت بها إخوته في آخر اليوم. اليوم هو من أكبر المهندسين المخترعين.
    لذلك، لا يمكن أن نعلّق فشلنا على مشجب الظروف وحدها، ونتّهم الفقر وحده بأنّه وراء هذا الفشل في الدراسة. فقد يكون ”الغنج“ مثلا، أو ”الدلال“ والرفاهية الزّائدة التي هي من بين أسباب تميّع الأبناء، وراء هذا الفشل.
    فالتنشئة إذن من أهم العوامل التي تحدّد مصير الإنسان. والأم هي المصدر الرّئيس والملهم لهذه التنشئة؛ الأم كما قال عنها الشّاعر:
    الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها..أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراق.
    وكلام الأمّ له تأثير قويّ على الأبناء، ومثل تأثيره كمثل الغيث للأرض القاحلة.
    والعكس بالعكس؛ فإذا كانت الأم ”لاهية“ في غيّها ”لاغية“، فكبّر على الأبناء ثلاثا وسلّم. وهذا ليس انتقاصا من مهمّة الرّجل، بل إن الأب هو المسئول في الأوّل والأخير عن نفسه وعن غيره من أفراد الأسرة؛ والزوجة والأبناء.
    لكن لغة الأب ليست كلغة الأم، فالأم لديها مخزون هائل من المشاعر، و الحب والحنان الضّروريان للأبناء؛ والعلم الحديث يقرّ بأن النقص في هذه المشاعر يتسببّ في برودة عاطفية، وقد يؤدّي النقص في هذا ”الهرمون“ إلى اضطراب الشخصية أو الكآبة.
    وعلى الرّغم من خطورة الأمر، فإن بعض ”الحموات“ -غفر الله لنا ولهن-، لا يرغبن كثيرا في سماع مثل هذا الكلام، ويفضّلن اتّهام اصهارهن بالتهرّب من المسئولية والتقصير في الواجبات، دفاعا عن بناتهن.
    لذلك أعود وأعترف؛ و”الاعتراف سيّد الأدلّة“ -كما هو معروف في الضّبطية القضائيّة -، وهو كذلك ”فضيلة وليس رذيلة“ – كما في الأعراف والأخلاق -. بأنّ الظروف التي ذكرناها سابقا؛ والمتمثّلة في سياسة البذخ التي أدّت إلى التسيّب والإسراف وفي مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، كما أن لها تأثير سلبيّ على حياتنا كأفراد، فكذلك بالنسبة لمسئولية الآباء والأولياء داخل الأسر.
    من الأباء والأولياء من لا يتفقّد أبناءه سوى عند الدّخول المدرسي؛ لتلبية طلباته المتمثّلة في اقتناء الكتب والكراريس والمحفظة والمئزر والأقلام…، أو في نهاية العام أو الموسم؛ لمحاسبتهم.
    وهناك قاعدة ”عدلية“ في الحياة، وهو إنّ”الجزاء من جنس العمل“. فكل واحد مسئول عن أفعاله في الأخير. ومن الأمثلة الشعبية كذلك، المثل الذي يقول: ”كل شاة معلَّقة بعُرْقُوبها“، أو “كل شاة برجلها معلَّقة“. كما هو متداول عندنا. وكذلك المثل: ”ضرْبَتْ يدَّكْ ما توجْعَكْ“. مصداقا لقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وكذلك قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. صدق الله العظيم.
    يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى