رأي

ضائعٌ بين أقرانه (الجزء الثاني)

ضائعٌ بين أقرانه (الجزء الثاني)

رشيد مصباح (فوزي)

توافد الأساتذة المتعاونين إلى مؤسّسة (محمد السعيد الورتلاني) في ثمانينيّات القرن الماضي، من البلدان العربية خاصّة؛ مثل مصر وتونس وفلسطين وسوريا والعراق… وقدومهم كان بسبب النّقص الذي عانت منه مؤسّساتنا التربوية بعد الاستقلال، وكنتيجة حتميّة لسيّاسة الجزأرة التي انتهجها الرّئيس الرّاحل (هواري بومدين) خلال فترة حكمه.
بعض المتعاونين العرب خاصّة؛ لم يشعروا بالرّاحة أثناء تعيينهم بهذه الملحقة الصّغيرة التّابعة آنذاك لثانوية (محمود بن محمود) بمدينة قالمة، كونها تفتقر لكثير من الأشياء الضّرورية والمرافق الخاصّة بالإطارات والأساتذة. وصعُب على بعض المتعاونين الأجانب و العرب خاصّة، التعامل مع النّظام الدّاخلي والاختلاط بالتلاميذ.
كانت (سدراته) يومها بلدة صغيرة تعاني من نقائص عدّة، وانعكس هذا النقص في الوسائل والإمكانيات سلبا على الجانب البيداغوجي، وكنّا نحن ”أكباش فداء“ طبعا، ومن سدّد الثّمن. وظهر ذلك بصورة واضحة على مستوى النتائج المتدنيّة، سواء في الامتحانات العادية، أم في البكالوريا، حيث النتائج العامّة كانت جدّ مخيّبة.
جاءت مخيّبة لنا، و ذوينا الذين لم يكونوا على علم بالظروف والأسباب الحقيقيّة من وراء هذا الإخفاق. وكذلك بالنسبة للمسئولين على رأس المؤسّسة التي لم تعرف استقرارا على المستويين الإداري و البيداغوجي. وفي بعض الأقسام كانت نسبة النجاح في البكالوريا شبه منعدمة، و منعدمة تماما. لكن، هناك تلاميذ لم يتأثّروا بالظّروف التي عشناها. وهؤلاء قليلون لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
هناك أسباب وراثية معروفة من وراء تفوّق بعض الأبناء، وهذا ما لا يمكن إنكاره. فهي فطرة وجينات يورّثها الآباء للأبناء جيلا بعد جيل. لكن ذلك لا يعدّ كافيا، الموهبة يجب أن تصقل وتلقى العناية اللاّزمة حتى لا تتعرّض للضّمور. وأنا شخصيّا أعرف أشخاصا مميّزين و لديهم ذكاء فطريّ، لكن ظروفهم الماديّة والاجتماعية لم تسمح لهم بمواصلة التعليم، فوجدوا أنفسهم في الأزقّة و الشوارع، ومنهم من تخلّى عن الدّراسة و ذهب يبحث عن العمل.
العامل الوراثي وحده لا يكفي، فكم من صاحب موهبة لم تنفعه موهبته لأنّه ينتمي لأسرة فقيرة ومعدومة، فوجد نفسه في الشّارع يقارع الطريق. كذلك الأمر بالنسبة للذين لم يحالفهم الحظ، فمنهم من كان الانحراف نتيجة حتمية ومنطقية ختم بها مساره التعليمي، ومنهم من أجبرته ظروفه الماديّة والاجتماعية على اختيار الحياة المهنية لإعالة أسرته.
وأذكر أنّه في تلك السنة لم ينجح من القسم الذي كنتُ فيه؛ وكان عدد التلاميذ فيه بالعشرات، سوى ثلاثة أو أربعة مرشّحين. والباقي منهم رسب، ومنهم من رفض إعادة السنة، ومنهم من تم طرده.
والحقّ يُقال: إن الذين كُتب لهم النجاح في البكالوريا لم يكونوا بأولئك المتميّزين المتفوّقين دائما، بل إن الحظ لعب دوره، وكذلك عوامل أخرى كان لها كلمتها في رسم هذا النجاح.
وكنتُ أنا من بين الرّاسبين؛ لصغر سنّي، أو ربّما لأسباب أخرى لها علاقة برأي الأساتذة. وأمّا الظروف التي مرّت علينا في تلك الفترة فلم تكن في صالحنا، ولا في صالح الاساتذة الذين كانت تهمّهم النّتائج أكثر من أيّ شيء آخر.
أمّا أنا فلم تكن تهمّني النتيجة بقدر ما كنتُ أبحث عن اللّهو وتغييب الوعي بشتى الطرق، أتغيّب كثيرا من القسم ومن البيت، ولا من يسأل. وما شجّعني على المضي في هذا الطريق، وزاد في انحرافي عن جادّة الصواب: هو الجو العام الذي غلب على البلاد في تلك الفترة من حكم الرئيس (الشادلي) الذي منح الشعب حريّة مطلقة بلغت حد التسيّب. وفتح له أبواب الرفاهية على مصراعيها متجاوزا حدود الإسراف.
وتداول بعض المغرضين كلاما لا يليق برئيس، عن بعض الأسماء والوجوه النافذة ومدى تأثيرهم في القرارات الرسمية وتدخّلهم في شؤون البلاد، من بينهم زوجة الرّئيس ومدير ديوانه.
وحاول النّظام عندها امتصاص غضب الشّارع بانتهاج سياسة ”شعبوية“، تمثّلت في فتح أبواب الحزينة والحدود ”على مصراعيها“، وتقديم كل التسهيلات للمواطنين الرّاغبين في الذهاب إلى الخارج للسياحة والاستجمام. وحتى إن بعضا من المواطنين لم يجدوا ما يستحق الاستيراد، فقاموا باقتناء أنواع اللّحوم بما في ذلك ”الكرشة“ وأنواع البطّيخ؛ الأحمر والأصفر والمشموم… من بلد شقيق، وحملوها معهم إلى الجزائر.
كانت هذه صورة حقيقية ومؤلمة تعكس حالة التسيّب الذي عرفته البلاد في تلك الفترة من ثمانينيّات القرن الماضي، و مدى تأثُّر الشعب بتلك السياسة المنتهجة، وفي ظلّ حكم تم التّلاعب به من طرف أشخاص نافذين تسبّبوا في إفلاس الجزائر وشعبها ماديّا وأخلاقيّا، ممّا أدّى إلى انفجار الأوضاع بعد ذلك ببضع سنين.
يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى