كيف أحبَّ جدّي سميرة توفيق؟
عبد الرزاق دحنون
ما زلتُ أرى جدّي عثمان دحنون -رحمه الله- يجلس على كرسيّ صغير من خشب
وقشّ مجدول ويسند ظهره إلى جدار بيته في حيّ المنطرة جنوبيّ مدينة إدلب.
ونحن في الشمال السوريّ نقلب الثّاء في عثمان، فنقول: عتمان بالتّاء، وهي في
الحقيقة أيسر في اللّفظ. تعوّد جدّي بعد أن بلغ من العمر عتيّاً، ولم يسأم، أن يُخرج
كرسيّه ويضعه قريباً من باب بيته على الرصيف ويجلس مستقبلاً شمس فصل
الخريف الواهنة، يُرافقه معظم الأحيان مذياع ترانزستور متوسط الحجم ماركة
ناشيونال مفتوح على إذاعة لندن. يعمل الراديو على بطاريتين جافتين من الحجم
الكبير، وإلى اليوم مازلنا نستعمل هذه البطاريات، وكانت في أيامنا ثلاثة أحجام
صغيرة ووسط وكبيرة، ولكنهم زادوا عليها فيما بعد بطاريات أصغر من الصغيرة
للريمونت كونترول-لم تكن في أيامنا تلك- وكأنّهم يقلدون ما نسميه في الأدب:
رواية، قصة قصيرة، أقصوصة، قصة قصيرة جداً.
هل نتحدّث عن فترة سبعينيات القرن العشرين؟ عافاك الله، نعم نتحدّث عن تلك
الأيام، وكنّا ما نزال في سنّ المراهقة، ولهذه السنّ مهادها الطويل العريض، حيث
نظنّ بأنّ الدّنيا ملك يميننا، صحيح بأنّ عقولنا على قدر عمرنا، ولكن كنّا ننضج
بسرعة عجيبة وتستقيم المعارف في عقولنا وخاصة بعد أن دخل التلفاز حياتنا. كان
والدي راشد دحنون قد اشتراه -أي تلفاز سيرونكس- في أوائل سبعينيات القرن
العشرين وكان بالأبيض والأسود بصندوق من خشب مُلبّس بقشر الجوز، ويبث من
قناة واحدة في الفترة المسائيّة بضع ساعات يومياً. وقد تعلقنا تعلقاً عجيباً تلك الأيام
بمسلسل (الجرح القديم) الذي أدت الفنانة السورية منى واصف دور (أمونة)
وشاركتها البطولة النجمة السورية (إغراء) في دور (أسمى). قصة من منطقة
الجنوب السوريّ والتي تُعرف باسم حوران، ثأر بين عشيرتين، إذ تحصل علاقة
حب بين الدكتور كمال وأسمى ابنة الحجة أمونة ويهربان إلى الشام، فترسل عشيرة
الفتاة رجل اسمه عوض العموري يبحث عنهما في المدينة، وعندما يعثر عليهما
يطلق النار فيرديهما قتيلين، ثم يقوم حسين العموري بالتدخل ويقتل عوض، لتعود
الحرب بين العشيرتين. والمسلسل من إخراج سليم موسى، وأنتجه التلفزيون
السوري عام 1971، والموسيقى التصويرية للفنان السوري الملحن سهيل عرفة.
كانت جدّتي زينب تُحبُّ مشاهدة المسلسلات العربيّة، أما جدّي فكان لا يُطيق
مشاهدتها، والهاء هُنا عائدة على المسلسلات، حتى لا تظنّ أنها عائدة على جدّتي
زينب، لأن الله أمر بالستر. كان جدّي يحبّ أغاني سميرة توفيق. وكانت أغانيها
رائجة تلك الأيام في الإذاعات ومنها إذاعة لندن، فيسمعها وتُعجبه. كان بيته لصق
بيتنا، بناه، أغلب الظن، في خمسينيات القرن العشرين على قطعة أرض صخرية لا
تصلح للزراعة، اشتراها من عائلة آل حكيم المسيحة -وعلاقته بالعائلات المسيحيّة
في مدينة إدلب قديمة، وقد ورثها آل دحنون عنه- ظلَّ فترة طويلة من عمره يعمل
في أرض عائلة آل أسبر المسيحيّة. كان فلّاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ
حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعيّ في ستينيات القرن العشرين، مُدعياً أن هذه
الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث “لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة”، وقد كنتُ
قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في
شتل البندورة.
عندما سكن في حيّ المنطرة الضاحيّة الفقيرة من ضواحي إدلب وبعيدة عن
العمران، فكان أصدقاء جدّي من زقاق (حمام الميري) وسط المدينة مكان نشأته
يقولون له: يا عثمان، خذ حذرك حتى لا تأكلك الضباع. البيت يتألف من ثلاث
غرف وقبو وعنبر قمح وحديقة فيها أشجار وجبّ تجتمع فيه مياه الأمطار والثلوج.
شغلت جدّتي القبو مع مدفأة الحطب والساعة العربية التي تدور عقاربها على وقت
لا ندركه نحن الصغار، ونقول لجدّتي زينب دهنين أم محمد: كم السّاعة الآن؟ تنظر
في ساعتها المخبأة في بيت صغير من الخشب بباب مُعشَق من البلور والمعلقة
جميعًا في الجدار وتقول واثقة من وقتها: الرابعة. ونضحك من ساعتها تلك، لأن
الساعة الآن ليست الرابعة في ساعة يد جدّي ذات التوقيت الافرنجيّ، والفرق شاسع
بين التوقيتين العربيّ والافرنجيّ.
كان جدّي يعرف سميرة توفيق من صوتها في الإذاعات ولا يعرف صورتها، وفي
أحد الأيام كان يسهر عندنا، والتلفاز شغّال، انتبه فجأة لما تقوله المذيعة السوريّة
“ماريا ديب”: والآن مع وصلة غنائيّة مع المطربة المحبوبة سميرة توفيق. نظرتُ
إليه، فرأيتُ وجهه مشرقاً، منبسط الأسارير، باسم الثغر، وعلى شاشة التلفاز ظهرة
سميرة توفيق بثوب مزركش طويل يصل إلى أخمص القدمين، واللافت للنظر هو
جيب ثوبها، فقد كان واسعاً يظهر منه أعلى الصدر عارياً، عرماً، كأنّما قُدّ من
رخام أبيض، وكأني بأبي نواس يحضر هذا المشهد البديع فيقول:
إذا مـا بدتْ
أزْرَارُ جَـيْـبِ قميصـِـهِ
تَطَلَّعُ منْها
صورة القمرِ البدْرِ
الظاهر -والله أعلم- أن جدّي عشق سميرة توفيق، عن جدّ، من أول صورة لها
شاهدها في التلفاز، وهي تستحق ذلك على كل حال، وكلّما قالت المذيعة: والآن مع
وصلة غنائيّة مع سميرة توفيق. ينده أهلي: قم يا عبد الرزاق أخبر جدّك (طلعت
سميرة توفيق). فلا يتمهل في المجيء؛ بل يحضر حالاً. وحين يُقرّب المصور وجه
سميرة توفيق على الشاشة لتغمز تلك الغمزة القاتلة من عيون كعيون المها يصير
حال جدّي كحال عليّ بن الجهم حين قال:
عُيونُ المَها
بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى
مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ
القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ