نحن أبناء هذا الجيل.. ضحايا مسخ، وتمسّك بثقافة الغير.

رشيد مصباح (فوزي)

**

إن من أبناء هذا الجيل من لا يحبّذ الكلام كثيرا عن الاحتلال وما فعله في بلادنا. وقد لا يعلم هؤلاء أنّنا نحن أبناء هذا الجيل ضحايا ممارسات ذاك المحتل الغاشم.

فهذا الجيل يؤمن بالواقع المزركش، ووسائله البرّاقة الحديثة. ولا يؤمن كثيرا بالجغرافيا ولا بالتاّريخ، والتّاريخ طبيب الأمم والمجتمعات البشرية.

بحن أبناء جيل ما بعد الاستقلال نحصد الآن ما تعرّض له أسلافنا، في تلك الأيام الخوالي. فكل ما يحصل لنا الآن تقريبا أو جلّه، هو نتاج الظّلم والتهميش اللّذين مورسا على آبائنا وأجدادنا خلال فترة الاحتلال.

حينما تنشأ في بيئة يغذّيها التناقض؛ بين ما هو أصيل وما هو مخالف لكن تبنّاه، أو فُرض عنوة على المجتمع بطرق وأساليب وحشيّة. ومن خلال احتلال أو احتكاك بثقافة غريبة.. فإن ذلك سيورّث حتما عاهة أو مرضا اسمه الفصام.

ما حدث للمجتمع الجزائري، وغيره من المجتمعات البشرية التي تعرّضت لممارسات بشعة من طرف الاحتلال الصّليبي، بما في ذلك المجتمع العربي؛

كان المجتمع قبل الاحتلال متديّنا أو محافظا على عاداته وتقاليده.. ثمّ جاء الصّليبي وأوّل ما قام به هو محاولة مسخ المجتمع؛ إفساد الأنثى وتشجيعها على التمرّد والعصيان. فقام بعض منهن بخلع حجابهن وملاءتهن وخرجن على المجتمع المتديّن المحافظ متبرّجات و شبه عاريات يطلُبن الحياة غير آبهات ولا مكترثات بالمجتمع وأفراده. كما وقد فرض هذا الظّالم الغاشم الاختلاط الجنسي على الصغار والكبار في المدارس والمصانع.. وكان هذا الصّليبيّ المحتل ينظر إلى الدّين الإسلامي واللّغة العربية وإلى العادات والتقاليد التي كانت تميّز مجتمعاتنا العربية الاسلامية، بصورة خاصّة، نظرة ازدراء واستخفاف.

وتبنّي الجيل الذي سبقنا و عاصره نظرته هذه؛ معتقدا إنّ فيها ما يبرّر هذا التماهي مع موضة العصر. وسارع هذا الجيل؛ خوفا وطمعا، إلى خلع الشّاش والعباءة والعمامة، وارتدى القمصان الضيّقة والسراويل التي تبرز المحاشم. وقام إلى لحيته فلم يترك منها شعرة تشهد على رجولته.

وكذلك فعلت الأنثى، وتغيّر المجتمع من حال إلى حال؛ وانتشرت دور الملاهي ومحلاّت الموضة والخمّارات.. يراودها الجنسين.

ثم ذهب المحتل، لكنه ترك وراءه جيلا مستغربا بلا هويّة؛ بعد أن استنسخ فيه ثقافته الغريبة. وبذلك يكون هذا المحتل قد أكمل مهمّته التي جاء من أجلها، كما كان يزعم ذلك، وهو “إخراج الشعب الجاهل المتخلّف من دائرة الحرمان والتخلف”. ويكون بذلك قد أدّى بالفعل ما عليه؛ وإن كان الذي قام به خلال عقود من الزّمن لا يتماشى مع حرمة الأديان وكرامة الإنسان. وبذلك فرض المحتل الغاصب ثقافته الغربية الغريبة على المجتمع المحافظ المتديّن؛ بانتهاج سيّاسة قمعية، وسلب الإرادة من الشعب الأعزل.

ولم يغادر هذا المحتل الغاشم الأرض الطّاهرة حتى دنّسها بنشر الخمر والزنا تاركا وراءه العشرات من بيوت الدعارة والخمّارات.

ونشأ بعد ذلك جيل ما بعد الاستقلال، ليجد نفسه أمام واقع مشين، ومجتمع ليس فيه ما يدل على أنه يدين بالاسلام سوى القبب التي يُرفع فيه الآذان والتكبير.. مدارس مختلطة وملغّمة بالجنسين، ومعلّمة شبه عارية ترتدي “الميني جيب”… نشأ هذا الجيل “البريء” في ظل هذا التناقض المريع؛ بين ما يراه في الواقع، وما يقرأ عنه في الكتب الصفراء. وهو يرى الجيل الذي سبقه و تتلمذ على يد الآباء البيض “المبشّرين” يتكلّم بلغة المحتل، متمسّكا بثقافة الغير.

نشأ جيل ما بعد الاستقلال ولم يجد من يأخذ بيده؛ ولكن من بين هؤلاء من فضّل التماهى مع ثقافة الغير، مقتديا بالجيل المستغرب الذي تشبّع بثقافة المحتل. ومنه من حماه الله من ثقافة الغير؛ العبث والمجون والخلاعة، على قلّتهم يومئذ.

نشأ جيل ما بعد الاستقلال في مثل هذا الجو؛ بين الكبت والمجون والعبث، فتولّد لديه شعور بالكآبة وهو يرى ما يناقض الأقوال التي في الكتب.

ومرّت الأيّام والأعوام ولم يلتفت أحد، إلى هذا الجيل المغبون؛ سواء من النّخب، أم من رموز الأنظمة المتعاقبة. وكل التجارب التي مورست عليه باءت بالفشل: بدءا بثنائية اللّغة [Le Bilinguisme] وانتهاء بعملية “تعلو” ومحاولة تعريب المحيط تحت إشراف الدكتور المرحوم (مولود قاسم نايت بلقاسم).

والآن وقد ذهب ذاك الجيل الخائب، وأمّا من بقي فلم يعد له تأثير كبير على هذا الجيل. فنحن جيل ما بعد الاستقلال ورثنا هذا “الفصام”، فمنّا من اجتهد وبحث عن مخرج له من هذا النفق. ومنّا من لا يزال متأثّرا بالجيل المستغرب، متمسّكا بلغة وثقافة المحتل الغاصب: فهل بقي لهذه الفئة المخذولة ما يبرّر هذا “المسخ”؛ سيّما وقد ذهب هذا الصّليبي المحتل إلى غير رجعة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى