الثقافة السائبة
ناجي الغزي
عندما تسود أي ثقافة سياسية في الحياة السياسية بدون فلسفة سياسية وثقافية واجتماعية تفسر مواقفها واتجاهاتها وتغيراتها, فلابد من تفكيك تلك الثقافة ودراسة نشأتها و بواعثها وما تحمله من مدركات وسلوكيات، ولا يمكن الاعتماد عليها وعلى مخرجاتها لأنها مجرد حركة ثقافية برغماتية.
لكون الثقافة السياسية عامة تعكس مصالح وقيم وسلوك المجتمع وأفكار الطبقة السياسية السائرة في ركبها. وخلاف ذلك تتحول تلك الثقافة الى ثقافة سطحية سائبة ليس لها أية قيمة, تنتج من رحمها مجتمع فوضوي فاسد وجماعات مشوهة تعيش على الجريمة والانحراف القانوني والاخلاقي وشخصيات سياسية سائبة تتسول وتتسكع على المنصات الإعلامية المتعددة, كظواهر صوتية بأقنعة مزيفة من اجل البقاء في ذاكرة المشهد السياسي.
والحديث عن الثقافة السياسية وما تتضمنه من أفكار ونظريات وآراء، هو الحديث عن التكوين الفعلي للأيدولوجية السياسية ورمزية الرسالة ومعادلة الإصلاح التي تحملها النواظم السياسية شكلا ومضمونا، ويؤطرها الاتجاه الجاذب للمجتمع بدلا من ان يكون طاردا لها.
والمحتوى الثقافي الواعي للنواظم السياسية يساهم ويشارك في تقرير وصناعة القرار السياسي في البلد، باعتباره احد اهم العناصر الرئيسية في تشكيل الوعي, والمؤثرة في معادلة التكوين الاستراتيجي الداعم لبناء المجتمع السياسي, وتأثيره القوي على سلوك الأفراد وعلى أدوارهم السياسية والاجتماعية.
ومن أبرز المؤثرات والمؤشرات في صياغة وصيانة العمل السياسي للنواظم السياسية هو الفكر والسلوك، وهذا الأخير ينشأ داخل الاطار الحركي للنواظم السياسية الفاعلة, وذلك حسب تأثيره الضمني المكون من طبيعة حركة وحراك اعضاءه ودرجة تأثيرهم في المشهد السياسي واحداثه.
معتمدة على آليات العمل التي تحدد العناصر الداخلة والمتداخلة في تكوين انطباعات الرأي العام. وتمكين العمل السياسي كرافعة مدنية داخل المجتمع ضمن مناخات فاعلة ومتصلة غير منفصلة مع القوانين الناظمة للعلاقات والنشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحقق التناسق والانسجام بين النواظم السياسية والجماهير.
ومن الدراسات التي تناولت (الثقافة السياسية) من الناحية النظرية التي حددها المؤلفان (الموند و وفيربا) في كتابهما (الثقافة المدنية) بالتحليل السيكولوجي اربع مواضيع مهمة ترتكز عليها الثقافة السياسية وهي:
1- النظام السياسي بصفة عامة باعتباره الراعي لحركة المجتمع السياسية 2- والنشاط السياسي للمواطن كناخب أو مرشح 3- النشاط الحكومي المعني بتنظيم أمور البلاد والعباد ورعاية مصالحهم الإدارية والاقتصادية 4- قناعة الافراد وتصوراتهم حول المشاركة في العملية السياسية.
وقد اثبتت هذه الدراسة ان الثقافة السياسية عندما تكون ضيقة او تابعة تكون سائبة، تتصف بالشكلية او السطحية لعدم فاعلية الجمهور معها.
لأنها تعتمد على قوالب جاهزة وغير مهضومة، ولا تسمح بمشاركة الجماهير بمدخلاتها ومخرجاتها السياسية. عكس النواظم السياسية التي تؤمن بحركة قواعدها ودور افرادها في المشاركة..
والنواظم السياسية التي لا تؤمن بالثقافة السياسية كمحرك أساسي لوعي الجماهير غير قادرة على انتاج ثقافة مؤسساتية رصينة وفاعلة ومؤثرة في المجتمع وبالتالي تصبح غير قادرة على اقناع الجماهير في خطابها الاستهلاكي المكرر والغير منتج, الذي لا يحقق مصالح وقيم المجتمع، مما يترك أثار على قيم واخلاق الافراد بارتدادات عكسية واشكاليات معرفية تفقدها مصداقيتها الثقافية والسياسية في اي مشاركة سياسية.
باعتبار القيم التي تشكل كوابح المجتمع أسمى و أوسع من الاخلاق لأنها انعكاس لمنظومة ثقافية كبيرة استعمرتها الطبقة السياسية وأساءت تنظيمها وترتيبها، لكونها تمثل السلطة الهرمية والنسق الهرمي التي تنظم مجموعة من الثقافات السياسية والاخلاقية المترابطة, وقدرتها على التأثير بكيان المجتمع وتوجيه سلوك افراده وتغيير اتجاهاتهم وتوجهاتهم لغايات سياسية و وطنية.
ومن خلال هذه القراءة المختصرة نجد أن أغلب النواظم السياسية هي عبارة عن كيانات فاشلة وعاجزة عن بناء قيم المجتمع واعادة ترتيبها بما ينسجم مع المرحلة ومتغيراتها، وغير قادرة على ترميم الصدع الحاصل في بنية الدولة التي انهكتها الحروب والحصار والارهاب والصراعات السياسية. مما تركت انطباعات سيئة لدى الجماهير بأنها كيانات بعيدة عن الواقع وغير معنية بالخطاب الذي لا يمثل تطلعاتها.
وذلك بسبب ضعف قدرتها على تشكيل الحد الأدنى في التأثير على الأحداث. وغياب رؤيتها الاستراتيجية للواقع وانغلاقها على ذاتها