الحل الأمني على الطريقة الفرنسية

راتب شعبو

صادفت في الطريق ذات صباح سيدة فرنسية لها من العمر 85 عاماً، أو أربعة عشرينات وخمسة، كما يقول الفرنسيون. هذه السيدة متطوعة للتعليم في إحدى جمعيات تعليم اللغة الفرنسية للأجانب، وكنت من طلابها لبعض الوقت. أوقفتْ دراجتها الهوائية بجانبي كي تقول “صباح الخير”، وتضيف بسخريتها المعهودة إنها ذاهبة إلى مؤسسة البريد كي تخبرهم إنها لا تزال على قيد الحياة. يفترض أن هذه المرأة متقاعدة منذ حوالي ربع قرن. هؤلاء المتقاعدون هم الجسد الوظيفي لعشرات آلاف الجمعيات التي تغني المجتمع الفرنسي في كل المجالات. مع ذلك فإن الحكومة الفرنسية تجد في زيادة عدد أمثال هذه السيدة في فرنسا بحكم زيادة متوسط العمر، عبئاً على صندوق التقاعد، وتجد، مع طيف ضيق من اليمين الفرنسي، أن زيادة سن التقاعد هو الحل. ولا تبدي الحكومة انفتاحاً جدياً على الحلول الأخرى التي تقترحها النقابات والأحزاب المعارضة للإصلاح التقاعدي.
على هذا، تدور معركة حامية في فرنسا حول موضوع الإصلاح الحكومي الذي يجعل سن التقاعد 64 سنة بدلاً من 62، ويفرض على الموظف الفرنسي أن يقدم رسوم اشتراك أو مساهمات اجتماعية (cotisations sociales) من راتبه لمدة 43 سنة (بدلاً من 42 سنة) حتى يحق له التمتع بكامل راتبه التقاعدي. اختارت حكومة الزابيت بورن تمرير المشروع دون تصويت في البرلمان، وفق ما تخولها به الفقرة الثالثة من المادة 49 من الدستور، لأن مروره في البرلمان لم يكن مضموناً، وكان رفضه هو الاحتمال الأرجح.
يستغل ماكرون حقيقة أنه في ولايته الثانية، ولا يحق له المنافسة على ولاية ثالثة، فلا تعنيه بالتالي خسارة الشعبية التي سيتسبب بها تمرير هذا القانون. ولكن، في المقابل، خسر الرئيس في فترته الرئاسية الثانية الأغلبية البرلمانية الكافية لتمرير القانون، وهو ما جعله يلجأ إلى تمريره من فوق رأس البرلمان. يعتقد كثير من الفرنسيين أن “الوظيفة” الأساسية لماكرون خلال فترتي رئاسته لم تكن سوى تمرير هذا القانون.
غير أن البرلمان لا يشكل العقبة الوحيدة في وجه تمرير القوانين، هناك الوسائل الديموقراطية الأخرى (الإضرابات والمظاهرات والعرائض والاستفتاء المباشر … الخ) التي تحيل إرادة الناس إلى قوة مؤثرة في القرار الحكومي. وقد سبق للفرنسيين أن أحبطوا في 1995 محاولة لزيادة سن التقاعد بعد أن مررها البرلمان. عندما تجاوز عدد المحتجين في المظاهرات المليونين، تراجعت حكومة ألان جوبيه حينها عن القانون رغم مروره في البرلمان. أما اليوم فإن ما يزيد من حدة الاحتجاج، إضافة إلى محتوى القانون الذي يرفضه الفرنسيون، هو تمريره عبر وسيلة “ديكتاتورية” يتيحها الدستور، وقد لجأت حكومة اليزابيت بورن إلى هذه الوسيلة لتجاوز البرلمان الذي فشل، بعد ذلك، بحجب الثقة عن الحكومة بفارق تسعة أصوات فقط.
الحقيقة أن ميل الحكومات الفرنسية ينحو أكثر فأكثر، باتجاه التصدي للاحتجاجات بدلاً من أن ينحو إلى الحلول التفاوضية. هذا النزوع يضمر، بطبيعة الحال، الميل إلى القمع، وهو ما يظهر من خلال تزايد حدة المواجهات مع المحتجين، والأعداد الكبيرة من الإصابات والموقوفين، وإقدام الحكومات على زيادة عدد عناصر الشرطة، وتشكيل وحدات جديدة من الشرطة تقوم على مبدأ الردع أكثر مما تقوم على مبدأ حفظ النظام الذي يعني عدم التدخل إلا عند الضرورة، وتفادي الاحتكاك المباشر مع الحشد، والتساهل مع بعض التجاوزات لتفادي التصعيد.
في 2019، لمواجهة احتجاجات أصحاب السترات الصفر، تم تشكيل ما يسمى الوحدات الآلية لقمع أعمال العنف، المعروفة باسم (Brav-M)، هذه الوحدات، تشبه وحدات مكافحة الجريمة (BAC)، التي توسعت صلاحياتها ولاسيما في ظل نيكولا ساركوزي حين كان وزيراً للداخلية الفرنسية (2005 – 2007)، من حيث أن “تدريبها يقوم على الانقضاض والاعتقال السريع، مع هامش واسع للمبادرة الفردية وضعف الالتزام بمبدأ الهرمية”، بحسب أحد أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة لوزان.
لسان حال الحكومات الفرنسية يقول “ليس الشارع هو من يصنع القانون”، الشيء الذي عبر عنه ماكرون مؤخراً، في لقاء متلفز لم يتجاوز ثلاثين دقيقة، في قوله إن “الحشود، مهما كانت، لا تتمتع بشرعية، في مواجهة الشعب الذي يعبر عن إرادته من خلال المسؤولين المنتخبين”، مضيفاً إن “أعمال الشغب لا تطغى على ممثلي الشعب”. لا يخرج من هذا التوجه سوى المزيد من الطلب على القوة البوليسية لتقييد حركات الاحتجاج. وعلى اعتبار أن حركة الاحتجاج في فرنسا متقدمة نسبياً عما هي عليه في بقية الدول الديموقراطية الأوروبية، لا غرابة في أن يكون الردع البوليسي فيها أشد، وأن تكون الدولة الوحيدة، بين هذه الدول، التي تسمح للشرطة باستخدام قاذفات الكرات الدفاعية (LBD)، التي تسبب بإصابات شديدة الأذى بين المتظاهرين. خلال مظاهرات أصحاب السترات الصفراء مثلاً حصلت الخسارة الكاملة أو الجزئية للعين لدى (84) متظاهر، وتشويه اليد لدى خمسة، حسب أرقام منظمة العفو الدولية.
الحل الأمني الذي يمكن أن تلجأ إليه حكومة ما إزاء المظاهرات والاحتجاجات، لا يكون فقط على شكل رصاص حي ينهمر على المتظاهرين من أماكن مجهولة ومعلومة، مع فتح باب واسع يبتلع المحتجين إلى سجون ومنعزلات قد لا يعودون منها، كما خبرنا جيداً في سورية، بل قد يكون على شكل احترام الحق بالتظاهر والاضراب مع “تطنيش” كامل لما يطالب به المضربون والمحتجون، كما نشهد اليوم في فرنسا. وقد تصم الحكومة آذانها ليس فقط عن صوت الشارع ومطالبه، بل أيضاً عن مطالب “الشركاء الاجتماعيين” حين تجتمع بهم الحكومة ولكن دون أن تصغي إليهم أو تسعى إلى تسوية معهم، كما صرح قادة النقابات الفرنسية عقب الاجتماع الوحيد الذي تفضلت به عليهم رئيسة الوزراء اليزابيت بورن منذ كانون الثاني الماضي.
بطبيعة الحال، يقود صم الآذان من جانب الحكومة وعدم البحث عن تسويات، إلى زيادة منسوب العنف المتبادل بين الشرطة والمحتجين، وهو ميل ملحوظ خلال سنوات حكم ماكرون، ولاسيما مع وزير داخليته الأخير جيرار درمنان الذي يحلم، كما يبدو، بتكرار سيناريو ساركوزي بالقفز من وزارة الداخلية إلى كرسي الرئاسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى