بريطانيا ظاهرة تستحق الدراسة

قاسم المحبشي كاتب

تسأل المؤرخ العراقي تامر الزغاري بمناسبة مرور ذكرى تأسيس بريطانيا. كيف إستطاعت جزيرة مساحتها 120 ألف ميل مربع، أن تحتل أراضي مساحتها 11 مليون ميل مربع؟كيف إستطاع 200 ألف جندي التحكم في 570 مليون نسمة؟ وقد سبق لي أن توقفت عند تاريخ بريطانيا الحديث وصيرورتها امبراطورية لا تغيب عنها الشمس ولفت نظري قدرتها على الانتشار في العالم الحديث بما لا يناسب مع حجمها مساحة وسكانا. إذ تعد بريطانيا جزيرة صغيرة تقدر مساحتها ب 120 الف ميل وبلغ عدد سكانها عند التأسيس حوالي 10 مليون نسمة إذ تأسست المملكة المتحدة في 1 مايو 1707 م باتحاد سياسي بين اسكتلندا والانجليز وولز بالقياس الى تأثيرها وأثرها الكبير في تاريخ الحضارة الإنسانية الحديثة والمعاصرة تعد بريطانيا ظاهرة تاريخية مثيرة للتأمل. إذاستوقفتني الظاهرة البريطانية وأنا أتأمل في تاريخ الحضارة العالمي إذ لم أَجِد حضارة أخرى تضاهيها. والسؤال هو ما سر بريطانيا ومعجزتها الحضارية الهائلة؟. لقد تتبعت أثر بريطانيا في التاريخ الحدث والمعاصر فوجدتها فريدة من نوعها، إذ حيثما مرت تركت أثرا يحمل بصمتها، في مختلف زوايا العالم الأربع شرقاً وغرباً وجنوبا وشمالاً.ذهبت أمريكا بعد الإسبان والبرتغال والفرنسيين فإذا بها تشكل القارة الجديدة على صورتها، وذهبت أستراليا فكانت أستراليا نسخة بريطانية، واحتلت الهند الكبرى فصارت الهند دولة عظمى وباكستان دولة نووية، واحتل الإنجليز الصين العظيمة فنهضت الصين بعد التخدير أشد عزما وأمضى قوة، وهاهي اليوم تتصدر دول العالم بالنمو والتنمية والصناعة، ومرّ الإنجليز في وسط آسيا ومنحوها سر نهضتهم. واحتلت بريطانيا مصر وفلسطين والعراق والخليج وإيران وجنوب الجزيرة العربية فتركت أثراً يدل عليها، وربما كانت جنوب أفريقيا شاهدا عليها، وغير ذلك من الشواهد التي تروي حكاية روبسون كروزوا السندبادية.. فما هو سر تفوق بريطانيا عن غيرها؟ الجواب عندي، هو العلم الحديث التي كانت بريطانيا أول من امتلك ناصيته منذ فرنسيس بيكون في الاطلنطس الجديد في القرن الخامس عشر الميلادي.
بريطانيا التي لم تتميز بقوة العدد والعتاد أبدا امتلكت المعرفة العلمية، وأسست دولتها الحديثة على أسس علمية. ومن يتذكر منكم السلسلة الطويلة من العلماء والفلاسفة منذ كوبرنيكوس وهيوم ولوك ونوتن وبنتام وآدم سمث، وما كان لنظرياتهم العلمية من شأن في مختلف مجالات الحياة سيعرف السر في تفوق وازدهار النموذج الانجليزي في العالم الحديث والمعاصرة. ومنذ أن قال فرنسيس بيكون جملته المفيدة القصيرة: إذا لم تكن المعرفة قوة فلا قيمة لها ولا فائدة!، تلك العبارة التي التقطتها الجمعية الملكية البريطانية للعلوم وحولتها إلى قاعدة عمل وقيم وسلوك، وهي بالمناسبة أول مؤسسة رسمية للعلم الحديث تأسست قبل ستة قرون، ولازالت تنمو وتزدهر رغم انحسار نفوذ الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس!. وبالمقارنة مع كل الإمبراطوريات العالمية منذ الفراعنة وحتى أمبراطورية الشر الأمريكية المتغولة اليوم تعد بريطانيا أنموذجاً فريداً من نوعه، فليست هناك دولة أو أمبراطورية قديمة أو حديثة بما في ذلك الإمبرطورية الإسلامية في زمن الأوج تمكنت من فتح ثلاثة أرباع العالم دون جيوش وحروب دامية!. وتعد فرنسا نابليون شاهد حال على محدودية القوة العسكرية في فتح البلدان، وربما كانت ألمانيا النازية هي خير مثال. فمن ذا الذي يستطيع فتح الصين والهند في أقصى الشرق، ويتمكن من إخضاعها وتسويسها ببضعة سفن بحرية؟!، وأي قوة عسكرية يمكنها فتح وإخضاع ثلاث قارات (أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا) في حقبة واحدة؟! وإذا كانت فرنسا اشتهرت بنموذجها العسكري النابليوني ونموذجها الثوري الريبسبوري، وإذا كانت ألمانيا اشتهرت بنموذجها الحربي الهترلي الكاسح، فإن نموذج القوة البريطاني الذي مكنها من التفوق والتأثير المستديم هو النموذج البيكوني الروبنسونكروزي. إذ اعتمدت قوة الذكاء الإنساني المتمثل بالعلم ومناهجه وأدواته ومنتجاته التقنية بوصفه نموذجاً للتنظيم والسلوك القويم والإدارة الرشيدة والقيم الإيجابية الجاذبة للغرباء والمستغربين. إذ حيث ما حل الإنجليزي كان يلفت الأنظار والإعجاب بدقة التنظيم وصرامة تمثيل النظام والفعل والنشاط والانضباط ودقة الوعد والوفاء بالعهد والقدر على كسب ثقة الآخرين، وهذا هو الذي مكن لورانس الإنجليزي من قيادة الثورة العربية الكبرى في مطلع القرن العشرين ضد تركيا. حتى صار البريطاني مضرب الأمثال في الدقة والنظام والعهد والصدق والنزاهة والشفافية والتزام القانون والاخلاص وصيانة المؤسسات والعمل الملتزم في إطارها، والقيمة الأهم التي شكلت ولازالت تشكل منطلق وغاية النموذج البريطاني، وقوة ديمومته وتفوقه هي صيانة وحماية حقوق الإنسان وكرامته بأقل قدر من التمييز والعنصرية. وتبقى الإدارة البروقراطية البريطانية هي الأفضل على الإطلاق.ولم أجد أي شخص عاشر الإنجليز وعمل معهم في مستعمرة عدن إلا وهو يتذكرهم بمشاعر الإعجاب والاحترام ويتحسر على زمانهم الذي كان! ومنهم المرحوم عمر عبدالله الأصبحي الذي كان يعمل مهندساً في مطار عدن الدولي أيام الإنجليز، إذ التقيته قبل عشر سنوات، وقد بلغ الثمانين من العمر، وسألته عن الإنجليز في جلسة ودية، أطلق تنهيدة حارقة وقال: “يا ابني الإنجليز هم أفضل خلق الله، إنهم بالمقارنة مع سواهم ملائكة رحمة وأهل وفاء وثقة ويحترمون الإنسان، حتى وإن كان عدوهم!” وحينما زرت الجزائر قبل ثلاث سنوات واستمعت إلى الأصدقاء وهم يحكون الجرائم المروعة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي ببلادهم، وقلت لهم نحن كنا مستعمرة بريطانية، ردوا على على الفور: لا وجه للمقارنة بين الفرنسيين والإنجليز أبدا.. الإنجليز ملائكة رحمة!. وهكذا يمكن القول إن حاجة الناس إلى مثل أعلى في القيم والأخلاق والأفعال والسلوك هو ما أدركه الإنجليز وقدموه لغيرهم، فكانوا هم المثل الأعلى الجدير بالتقليد والاحتذاء عند الشعوب التي فتحوها وأخضعوها بقوة العقل والعلم والنظام والقانون والسلاح والقهر طبعاً. ومن هنا يمكن لنا فهم عبارة كارل ماركس في وصف ضرورة الاستعمار الانجليزي للشرق، إذ قال إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ينبغي أن يمثلوا!، يقصد الشرقيين..
فمثلهم الإنجليز في بداية عهدهم بهم وتركوا لهم الخبرة والعلم واللغة والنظام والمؤسسات المهنية الحديثة، التي منحتهم فيما بعد الخلاص من الانجليز القدرة على تمثيل أنفسهم بكفاءة واقتدار.
وتحضرني الذاكرة الآن عبارة الفرنسي كندرسيه المتأثر بـ “جون لوك” الانجليزي، إذ قال: لن تشرق شمس الحضارة في المستقبل إلا على تلك الشعوب التي يقودها العلم والعلماء، يقصد العلم الطبيعي والإنساني وليس المعنى الإسلامي العربي للعلم والعلوم.
وفِي ذات السياق نتذكر عبارة باني الهند العظيم جواهر لال نهر القائلة : العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجهل والفقر والمرض، ولا مستقبل لأحد بدون العلم والمعرفة العلمية. ولما كان العلم بطبيعته انسانيا وعابراً للثقافات والأديان واللغات، ويمكنه أن يتكيف ويستوطن في مختلف المجتمعات الإنسانية وسياقاتها المتنوعة، فقد غدا اليوم شاهد حال ومآل على المعجزة السكسونية. والعلم واحد والرأي كثير. من هنا مرت بريطانيا، هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنني أحن للاستعمار الإنجليزي البغيض فأنا ثوري ابن ثوري، وربما كان وضعنا العربي اليوم هو نتاج السياسية البريطانية التي شكلت المنطقة العربية والأقليم في اتفاقية سايس بيكو الكارثية وقد كتبت فصلا في كتابي عن مسؤلية بريطانيا لما حدث في فلسطين العربية المحتلة والقومية الكردية وغيرهما ومعروف دول المخبر الانجليزي لورانس العرب في قيادة الثورة العربية الكبرى وكتابه أعمدة الحكمة السبعة. وأنا أمقت كل الاستعمارات من كل شكل ولون. ولا يفهمني الإ الطير الذي أكل من قمحي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى