كم يساوي عمر مواطن فرنسي ؟
حسن مدن
حين يدور السؤال عن أن العالم أصبح تقانيًّا، جامدًا، جافًا على حساب العالم الروحي للإنسان السائر نحو المزيد من النضوب وفقر الدم، فضلا عن تلاشي “المناسبة الجماعية” كفرصة للقاء والتحاور والتفاعل، فما الحاجة لحضور محاضرة عن الفلسفة أو الاقتصاد أو الفن التشكيلي، إذا كان التّلفزيون يؤمن مثل هذه الخدمة، أو أن الاشتراك في خدمة “الانترنت” يؤمن الحصول على آخر وأحدث المعلومات في الحقل المطلوب، وهذه كلها أجهزة مصممة للفرد الواحد، الذي يستطيع التعامل معها بمفرده دونما حاجة لمساعدة أحد.
في هذا النطاق لا يمكن عدم ملاحظة جهود تهميش الثقافة، بما هي مغزى إنساني عميق يجسده الميراث البشريّ الثريّ منذ الحضارات القديمة في بابل ومصر والصين والهند واليونان، فالحضارة العربيّة الإسلاميّة وعصر التنوير الأوروبي وما تلاه من نهضة. هذا التهميش الذي يتم لحساب عالم منمط سطحي واستهلاكي، وتقديم التقانة كبديل للجمال الذي أبدعه الإنسان: اللوحات الخالدة والتّماثيل والرّوائع الموسيقيّة والملاحم والروايات والأشعار، وهذا التهميش للثّقافة لا ينحصر في النّطاقات الوطنيّة، إنما هو ظاهرة كونيّة يمليها التقسيم الدولي للعمل، الذي يهمش الجزء الأكبر من العالم لصالح ثراء نخب محدودة تتمركز في بلدان المركز الاقتصادي العالمي في الغرب.
حسب دراسة وضعها الباحث بدري يونس، فإن رجل أعمال إنجليزيًا احتسب ذلت مرة سعر الإنسان الفرنسي فوجد انه يساوي سعر 47 إنسانًا فيتناميًّا. إن بدا هذا النوع من الحساب مستفزًا، فعلينا شرحه أولاً قبل الإقرار به، فالقصد هو أن كلفة العامل آو الموظف الفرنسي تعادل كلفة 47 من نظرائه في فيتنام، ووفق هذا الحساب أيضا فإن سعر العامل الميكانيكي الأمريكي يساوي سعر 60 عاملا ميكانيكيًّا صينيًّا.
للمزيد من الشرح يمكن الاستشهاد بأقوال مستشار اقتصادي أمريكي، يدعى وردني جونز مفادها إن إنسانًا ابيض في بريطانيا مثلا يجب أن يحصل على دخل 15 دولارًا في الساعة مقابل 3 دولارات للإنسان الآسيوي، مع انه يفترض انه لا توجد فروقات جوهريّة بين مهارات الاثنين، فضلا عن أن طبيعة العمل التي يؤديانها واحدة.
المسالة ليست محصورة في التفاوت بين مرتبات العمال في الشرق والغرب، ذلك أن تمايزًا مشابهًا يوجد داخل أوروبا نفسها، ففي حين يحصل العامل الألماني الماهر على أجر يساوي 24 دولارًا في الساعة، يحصل نظيره في بلد من بلدان أوروبا الشّرقيّة، هنغاريا مثلا أو تشيكيا على دولارين أو ثلاثة في الساعة.
هذه وسواها من معطيات أوردها الباحث يونس في معرض التدليل على الفوارق الصّارخة في مستويات المعيشة لا بين الشرق والغرب فحسب، وهذه الفوارق محطّ الدّراسة عن غياب العدالة في النّظام الاقتصاديّ العالميّ السّائد، حيث تبلغ الفروقات مبلغًا مفزعًا، وإنما أيضًا بين أوروبا الرّأسماليّة، وأوروبا التي كانت اشتراكيّة وانخرطت في اقتصاد السّوق متبعة الآليات الرأسماليّة ذاتها، لكنها وجدت نفسها عرضة للتمييز الذي يمارسه العالم المتقدم عليها، فالفوارق لم تعد أمرًا داخليًّا منحصرًا في المجتمعات المنفردة بين أغنياء وفقراء، وإنما غدت أيضا مظهرًا من مظاهر التّناقض بين دول غنيّة وأخرى فقيرة، وكما يمارس الأغنياء استغلالهم لقوة العمل الفقيرة في بلدانهم جريًا وراء المزيد من الأرباح، فإن الدول الغنيّة تمارس استغلالًا مشابها للدول الأفقر منها.
جدل كبير يدور حول العولمة من مناحٍ ثقافيّة وفكريّة وسياسيّة، كأن مركز الثقل في النقاش انتقل إلى ما يوصف بالبنية الفوقيّة المتصلة بالفكر والثقافة، وليس في ذلك غضاضة، لكن العولمة تبقى في جوهرها الرئيس عمليّة اقتصاديّة بامتياز، تتصل بانسيابيّة رأس المال وانفتاح الأسواق على بعضها بصورة غير مسبوقة، والعولمة، في هذا، لم تبدل الطابع الاستغلالي للرأسمال، الذي غالبًا ما يكون أعمى حيال الماسي التي يخلفها حين يتصل الأمر بمصالحه وأرباحه، وصفة العمى هنا تأتي على سبيل المجاز ليس إلا، فالإفقار المتعمد لطبقات اجتماعيّة واسعة تشكل الغالبيّة في المجتمعات.
منذ نحو نصف قرن كتب فرانز فانون كتابه الشهير: “معذبو الأرض”. وخصص فيه فصلًا مهمًا لما ندعوه بالثّقافة القوميّة أو الوطنيّة. كان الرجل يحلل العلاقة المعقدة من أوجهها المختلفة بين الاستعمار والشعوب التي استعمرها. اليوم أيضًا تظلّ العودة إلى فانون ضروريّة، لأن هناك من يريد شطب الثّقافات الوطنيّة والقوميّة على مدار القارات المختلفة بما تختزنه من ثراء وخصوبة وتنوع لا متناهٍ، إمعانًا منه في التماهي مع ما بتنا نعرفه بالعولمة الثّقافيّة، التي لا تقدم للأسف سوى نموذج واحد. ومهما كان رأي المعجبين به فإنه يظل نموذجًا فقيرّا وشاحبًا بالقياس لذلك الكم الهائل من النماذج التي تدبّ فيها دماء الحياة في مناطق الكوكب المختلفة، ويريدون قطيع شرايينها كي تموت.