2023 عام التحرر من الأوهام واستعادة الثقة بالذات
إبراهيم ابراش
ولأنه جرت العادة مع نهاية كل عام وبداية عام جديد تقييم ومراجعة الماضي واستشراف للمستقبل وغالباً ما يُصاحب هذا التقييم والمراجعة تأس على ماضي نظن أنه كان أجمل وأفضل على كافة المستويات، متجاهلين أن الحياة لا تستقر على حال ولكل زمان ظروفه ومعطياته ورجالاته وما يصلح للماضي ليس بالضرورة يصلح اليوم.
فيما يخص القضية الفلسطينية يسارع الكُتاب والمحللون السياسيون لاستعراض أهم أحداث العام المنصرم وبناء عليها يحاولون استشراف آفاق المستقبل وما يبشر به العام الجديد، وغالباً ما تسيطر حالة من المبالغة في تجميل الماضي والزعم بأن حال القضية والشعب من كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان أفضل بكثير مما هو سائد اليوم مع ترديد جملة (ساق الله على أيام زمان) ، فهل بالفعل أن الأمور في السنوات السابقة كانت أفضل بكثير من أوضاعنا الراهنة إلى درجة تستوجب ما يسود من تشاؤم وإحباط وبكاء على الأطلال؟
لا نروم مما سبق التهوين مما يجري سواء على مستوى الإجرام الصهيوني وتوسع الاستيطان أو على مستوى تراجع حل الدولتين وتوقف العملية السلمية وخصوصاً مع حكومة نتنياهو الجديدة وأزمة النظام السياسي الفلسطيني والانقسام، كما لا نتجاهل تأثير المتغيرات الدولية كانهيار المعسكر الاشتراكي وقوى التحرر العربي والعالمي والتحولات في المحيط العربي، ولكن هدفنا التوقف عن جلد الذات وإظهار الأمر وكأن وضع القضية الفلسطينية قبل عام 2023 وما سبقها كان على ما يرام وما يجري اليوم من سياسات ومواقف، دولياً وعربياً ومحلياً وفي السياسات الصهيونية، شيء غير مسبوق وأنه في ظلها لا أمل في استنهاض الحالة الوطنية الخ.
لو نظرنا بواقعية وعقلانية لحال القضية في الماضي وحالها في الحاضر لاكتشفنا أن جزءاً كبيراً مما نتحسر عليه ونعتبر غيابه هزيمة وخسارة للقضية ما هي إلا مراهنات واعتقادات كانت تشكل حاجزاً وعائقاً أمام رؤيتنا للحقيقة وأن ما نتخوف منه اليوم ليس بالشيء الجديد بل كان موجوداً منذ بداية القضية، ودعونا نتناول كل قضية على حدة ونرى إن كنا خسرنا كثيراً فيما طرأ عليها من متغيرات أم أن الأمر ليس كما نعتقد، وهل التحديات التي تواجه القضية اليوم غير مسبوقة بالفعل أم كانت موجودة ولكن ليس بنفس الوضوح والمباشرة؟ وسنتطرق لثلاثة أوهام أو مبالغات، الأولى تخص الموقف العربي والثانية موقف الكيان الصهيوني والثالثة أوضاعنا الداخلية.
أولا: التحولات في الموقف العربي
نتأسى على تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية وانتهاء البعد القومي لها فهل كان استمرار الوضع العربي على ما كان عليه في العقود الأخيرة سيقربنا أكثر من تحقيق أهدافنا الوطنية؟
صحيح أن الالتفاف الشعبي حول القضية كان أوسع وأكثر مصداقية ولكن الشعوب في العالم العربي لا ترسم سياسات ولا تتخذ قرارات. ولو تمعنا في التعامل العربي الرسمي مع القضية منذ بدايتها لوجدنا أن ضياع غالبية أرض فلسطين وتشريد أهلها عام 1948 كان بسبب تدخل الجيوش العربية بتنسيق مع بريطانيا وبقيادة ضباط بريطانيين ليس لمنع قرار التقسيم كما يعتقد كثيرون وكما زعمت الحكومات العربية آنذاك بل لافتعال حرب تؤدي لتهجير الفلسطينيين وبالتالي تمكين الصهاينة من قيام دولتهم.
لو لم تتدخل الجيوش العربية ما كانت الهجرة ولكان كل الشعب إلى اليوم يعيش على أرضه حتى وإن كان في حرب مفتوحة مع الصهاينة ، وأن خسارة بقية فلسطين كان بسبب هزيمة العرب في حرب يونيو 1967، وحرب أكتوبر 1973 كانت محاولة من مصر وسوريا لاستعادة أراضيهم المحتلة، وبالتالي ليس صحيحاً أن العرب خاضوا عدة حروب من أجل الفلسطينيين، صحيح أن الشعوب العربية كانت عوناً وذخراً للشعب الفلسطيني ولكن الأنظمة لم تكن كذلك، ليس هذا فحسب فقد جرت محاولة تصفية الثورة الفلسطينية بأحداث أيلول الأسود في الأردن 1970 في ظل صمت عربي، وصمت العرب ووقفوا متفرجين عام 1982 أثناء غزو إسرائيل للبنان واحتلال عاصمتها وإخراج قوات الثورة الفلسطينية منها، كما شارك العرب في حصار منظمة التحرير والشعب بعد حرب الخليج الثانية بتهمة مناصرة صدام حسين، وما بعد سقوط نظام صدام تم اضطهاد فلسطينيي العراق بل وارتكاب مجازر بحقهم الخ. وعليه لم نخسر بالفعل الكثير من انهيار البعد القومي الرسمي المزعوم لفلسطين، بل ما جرى حررنا من وهم ومراهنة على سراب، ووضعنا أمام الواقع.
ثانيا: المتغيرات في الموقف الصهيوني
لا شك أن نتنياهو وحكومته الأكثر وضوحا في تطرفهم وارهابهم ولكن لم تكن الحكومات والقيادات السابقة أقل تطرفا وإرهابا، صحيح أن حكومات حزب العمل وحلفائه من المصنفين معتدلين بل وأحيانا يساريين و اشتراكيين كانوا يتحدثون عن السلام والتسوية السياسية ولكنهم على أرض الواقع كانوا مؤسسي دولة إسرائيل وهم الذين ارتكبوا مجازر دير ياسين وقبية والطنطورة وكفر قاسم وعشرات المجازر وهم الذين خاضوا حرب حزيران 1967 وبدأوا سياسة الاستيطان والتطهير العرقي.
المشكلة ليست في نتنياهو واليمين الجديد ولكن في الفكر والحركة الحركة الصهيونية بل علينا الاعتراف بأن المشكلة تكمن في بعض نصوص وتفسيرات العقيدة اليهودية التي منها يستمد المتطرفون العنصريون نهجهم ونظرتهم للفلسطينيين، مشكلتنا ليست مع أحزاب أو أشخاص يُصنفون يمينيين وعنصريين بل مع الدولة والكيان الصهيوني مجتمعا وعقيدة، وما يشهده هذا الكيان من تطرف يميني ديني وصراعات داخلية وإن كنا نعاني من نتائجه إلا أن له نتائج سلبية وخطيرة على المجتمع الإسرائيلي نفسه وعلى علاقة إسرائيل بالعالم الخارجي.
ثالثا: الانقسام والخلافات الداخلية
نعم الانقسام أساء للشعب الفلسطيني وخصوصا عندما استعملت حركة حماس السلاح للانقلاب على السلطة والمنظمة والسيطرة على قطاع غزة وفصله سياسيا عن السلطة في الضفة. لكن وحدة غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة أمر مستجد مرتبط باتفاقية أوسلو ومراهنات أن تشكل هاتين المنطقتين أراضي الدولة الموعودة ضمن رؤية حل الدولتين.
كانت غزة منفصلة عن الضفة طوال السنوات الممتدة ما بين 48 و 67 كما كانت المنطقتان منفصلتين عن فلسطينيي أراضي 48 وعن فلسطينيي الشتات ومع ذلك انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة التي وحدت الشعب بالرغم من الفصل الجغرافي وتباين أوضاع الفلسطينيين، ولم يتم التواصل بينهم إلا في ظل الاحتلال، كما أن حل الدولتين مشروع مرتبط بتسوية أوسلو الفاشلة وهو فشل حرر الشعب من أوهام تسوية سياسية لم تكن أمريكا والكيان الصهيوني صادقين في التعامل معها.
ما جرى مع الانقسام وأزمة الأحزاب والنظام السياسي الرسمي ليس مبررا للإصابة باليأس والإحباط بل يمكن مواصلة النضال وتجديد المشروع الوطني حتى في ظل التباعد والفصل بين التجمعات الفلسطينية، كما أن الأحزاب مجرد أدوات سياسية ولا يجوز رهن القضية الوطنية بها وبأزمتها، وربما ما أصابها يحرر الشعب من أوهام وأخطاء تقديس الأحزاب والأشخاص.
وخلاصة القول، الشعب الفلسطيني لم يخسر الكثير نتيجة التحولات والأحداث الماضية بل يمكن القول إنه تحرر من أوهام ومراهنات لم تكن في محلها، وهذا مدعاة لاستعادة الثقة بالنفس وتجديد الحياة السياسية كمشروع وطني تحرري أساسه الشعب ومقدراته وما يجري في الضفة من تصاعد العمليات الفدائية يبشر بالخير.