يقول الزناتي خليفة .. حكاية جازية بنت غانم و زياد بن غانم
السيرة الهلالية:
«يقول الزناتي والزناتي خليفة.. نفس الفتى لا بدها من زوالها، يقول وقلبه طار من مستقره.. الأيام والدنيا سريع زوالها، الأيام والدنيا كفى الله شرها.. تطوى عزيزا ثم تطوى أرذالها».
هذه الكلمات هي جزء من السيرة الهلالية التي تحكي فترة مهمة من تاريخ الصراع في المنطقة العربية، والتي يرى البعض أنها إلياذة العرب، بسبب مكانتها الكبيرة في نفوس الجماهير العربية، خاصة في شمال أفريقيا وفي دول الخليج العربي.
قامت السيرة الهلالية على حروب طويلة الأمد، برزت من خلالها شخصيات ملحمية ترسخت في الوعي العربي، يتعصب لها البعض ويتعصب ضدها البعض الآخر، ولكل من الفريقين أسبابه الأخلاقية والإنسانية.
رغم أن اليونسكو اعتبرت نصوص السيرة الهلالية ضمن التراث غير المادي للبشرية، إلا أنها تنتمي في الأساس إلى الأدب العجائبي، خاصة وأن نص السيرة الهلالية ظل طوال تاريخه قابلًا للدمج والتحوير والإضافة.
وتتفرع من السيرة الهلالية قصص كثيرة مثل قصة أبو زيد الهلالي والأمير دياب بن غانم الهلالي وكذلك الزناتي خليفة، «بطل المغارب» كما أطلقت عليه السيرة، وأحد أهم شخصيات تلك الملحمة على الإطلاق. فما هي حقيقة أحداث السيرة الهلالية؟ هذه هي القصة من بدايتها.
بداية الحكم الفاطمي في المغرب
خضعت بلاد المغرب لحكم الدولة العباسية عام 749 ميلادية، وبداية من عام 789 بدأ الأدارسة، الذين يُنسبون إلى إدريس الأول بن عبد الله الذي يعود نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، تأسيس أول دولة مستقلة من الفرع العلوي الهاشمي في منطقة المغرب الأقصى، وحذا حذوهم بعد ذلك أقاربهم من الزيدية في اليمن
وقتذاك، كان المغرب الأقصى يعاني من تهميش الدولة العباسية والضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم؛ يقول الدكتور عبد الله محمد جمال الدين في كتابه «الدولة الفاطمية»: «كانت إفريقية في حالة من السوء في الفترة التي عمل فيها الشيعة على نشر دعوتهم، فالحاكم كان مستبدًا والأسرة الحاكمة نفسها يمزقها الخلاف والشعب مستاء من الجوع جراء الحالة الاقتصادية في البلاد».
على الصعيد السياسي، كانت تلك البقعة الجغرافية مركزًا للصراع بين العباسيين والهاشميين على الزعامة السياسية والدينية، وهو الأمر الذي استثمره الإسماعيليون في نشر دعوتهم بأن المهدي سيخلصهم من ظلم العباسيين، بحسب ما ورد في كتاب الدكتور محمد علي الصلابي «الدولة العبيدية الفاطمية»، وشيئًا فشيئًا تمكن دعاة الإسماعيلية في المغرب من بسط سيطرتهم العسكرية والسياسية، وكان لوجود الأدارسة دور كبير في دعم وتقبل وجود دولة سياسية شيعية وليدة.
وفي خطاب تنصيبه على عرش دولته الجديدة، تحدث عُبيد الله المهدي، الخليفة الفاطمي الأول، عن عالمية المشروع الإسماعيلي الذي قام على مناهضة المشروع العباسي؛ فالدولة الفاطمية الجديدة قامت على أساس المذهب الإسماعيلي الذي يقضي بأحقية آل البيت في زعامة المسلمين، وهكذا أُقيمت الدولة الفاطمية في المغرب، بعد أن بنى المهدي عاصمته الجديدة على ساحل البحر المتوسط، وسُميت بالمهدية تيمنًا به.
الدولة الفاطمية تنتقل إلى مصر
منذ ترسيخ قوة دولته في المغرب، انطلق المهدي في عمليات التوسع الفاطمي شرقًا نحو الشام والحجاز والعراق ومصر، إذ كان الخليفة الفاطمي متعطشًا لقيادة العالم الإسلامي، ولكن قابلته بعض العقبات التي وقفت حجر عثرة في تحقيق أحلام الخلافة الجديدة؛ فأولًا مقاطعة علماء المذهب المالكي ومقاومتهم للمشروع الإسماعيلي، وثانيًا قلة الموارد المالية، وثالثًا الطبيعة الجغرافية الجبلية لمنطقة الشمال الأفريقي.
هنا، أدرك الفاطميون تمامًا أن الحل الوحيد هو التوجه إلى الشرق وتحديدًا إلى مصر، إذ كان العالم الإسلامي بحاجة إلى مركز قيادي متوسط وموقع مصر الاستراتيجي مناسب تمامًا لتحقيق الحلم الفاطمي.
وفي يوليو (تموز) من عام 969، استولى القائد العسكري جوهر الصقلي على مصر ودخل مسجد عمرو بن العاص، وأضاف إلى الأذان عبارة «حي على خير العمل»، ودعا على المنبر للمعز لدين الله الفاطمي، وأسقط حكم العباسيين في البلاد، ثم أنشأ مدينة القاهرة لتكون العاصمة الجديدة للدولة الفاطمية، ومقر إقامة حاكمها، المعز لدين الله، ليكُلّف بلكين بن زيري الصنهاجي بولاية المغرب، وذلك بسبب ولائه المطلق للدولة الفاطمية.
المعز بن باديس.. تقلد ولاية المغرب وانقلب على الدولة الفاطمية
تحولت المغرب من مقر للخلافة الفاطمية إلى ولاية تابعة للقاهرة، وتعاقب أمراء الصنهاجية على كرسي الحكم في القيروان، وخلال عام 1016 توفي الأميري الزيري باديس الصنهاجي ليحل محله في كرسي الحكم ابنه المعز بن باديس.
ولد المعز عام 1008 في مدينة المنصورية التي بناها الفاطميون بالقرب من مدينة القيروان، وتولى ابن باديس سدة الحكم في المغرب وهو في الثامنة فقط من عمره، وتلقى تعليمه وتوجيهه من الوزير أبو الحسن بن أبي الرجال، وعلى الرغم من أن إفريقية كانت وقتها شيعية تتبع المذهب الفاطمي، إلا أن ابن أبي الرجال علم بن باديس ورباه على مذهب الإمام مالك وأهل السنة والجماعة.
حين كبر ابن باديس وأصبح يافعًا، أرسل خطاب ود إلى القاهرة حتى يثبت ولاءه للدولة الفاطمية، وبعد عدة سنوات حصد ابن باديس لقب «شرف الدولة» من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وذلك تعبيرًا عن قوة العلاقات بين القيروان والقاهرة، ولكن الأمور لم تسر كثيرًا على هذه الشاكلة.
في عام 1043، حدثت واقعة غيرت مسار الأحداث كثيرًا، إذ وقع خلاف بين واحد من أهل القيروان وأحد أفراد الطبقة الأرستقراطية الإسماعيلية الشيعية، وسرعان ما تطور الخلاف وكبر بشدة، فقُتل الكثير من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي، كما نُهبت أراضيهم وأملاكهم، وأمام هذا الصراع الذي ولدته الخلافات المذهبية والاجتماعية، قرر ابن باديس الوقوف بجانب شعبه الثائر ضد أتباع المذهب الإسماعيلي.
حينها، أعلن ابن باديس مذهب الإمام مالك مذهبًا رسميًا للدولة، وخلع طاعة الفاطميين، وأمر أن يُخطب على المنابر للخليفة العباسي القائم بأمر الله، الذي أرسل له مرسومًا بتعيينه واليًا على إفريقية، بحسب ما ذكره المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه «خلاصة تاريخ تونس».
كيف كان موقف الدولة الفاطمية في القاهرة؟ هذا ما تحكيه السيرة الهلالية.
السيرة الهلالية الحقيقية.. الدولة الفاطمية ترد على تمرد ابن باديس
أمام كل هذه التغيرات المتسارعة، كان لا بد للدولة الفاطمية أن تبحث عن طريقة للحفاظ على دولتها في المغرب، وكان الحل على يد الوزير الحسن بن علي اليازوري، الذي قرر أن يعيد المغرب إلى كنف الدولة الفاطمية دون أي تدخل عسكري.
آنذاك، كانت تقطن قبائل بني هلال في ربوع مصر موزعة بين الصعيد والشرقية ووادي حوف. ويقول الدكتور الراضي دغفوس في كتابه «مراحل تاريخ الهلالية في المشرق» إن قبائل بني هلال كانت تسكن في الماضي في المناطق الواقعة بين المدينة المنورة ونجد وبين مكة والطائف، وقد عُرفت تلك القبائل بتنقلها المستمر في صحاري الحجاز بحثًا عن مراعٍ خضراء لأغنامها، وبكثرة مشكلاتها، من قطع طريق الحجاج ونهب المسافرين.
استمرت القبيلة في التنقل حتى وصلت إلى حدود الشام والعراق، ثم دفعهم العباسيون نحو الهجرة إلى مصر، فتدفقوا إلى أراضيها على هيئة جماعات كبيرة، واستوطن أغلبهم في صعيد مصر.
في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، انخفض مستوى نهر النيل، مما أدى إلى حدوث مشكلات اقتصادية كبرى في مصر، فعادت قبائل الهلالية إلى سيرتها الأولى في إحداث الفوضى والخروج على مركزية السلطة.
وحتى تتخلص الدولة الفاطمية من المعز بن باديس، اقترح اليازوري على الخليفة المستنصر تحريك قبائل الهلالية غربًا، وبالفعل أمرهم الخليفة الفاطمي بالتوجه ناحية المغرب ومنح كل رجل منهم أموالًا لتحفيزهم على التحرك من أجل قتال ابن باديس.
في بحثها «دور الوزير اليازوري وسياسته الداخلية والخارجية لمصر»، والمنشور في مجلة التراث العلمي العربي، تقول الدكتورة ريم هادي إن أكثر من نصف مليون شخص من قبائل الهلالية تحركوا باتجاه المغرب، فقاموا بالاستيلاء على مدينة برقة وحين خرج لهم المعز بن باديس على رأس جيشه هزموه، ثم دخلوا إلى إفريقية وحاصروا مدنها وخرج لهم ابن باديس مرة أخرى على جيش قوامه أكثر من 30 ألف مقاتل، ولكنهم تمكنوا من هزيمته للمرة الثانية.
في نهاية الأمر تحصن ابن باديس داخل أسوار عاصمته، ثم أعاد تنظيم جيشه مرة أخرى، وأعد هذه المرة أكثر من 80 ألف مقاتل لمحاربة قبائل بني هلال ولكنه هُزم للمرة الثالثة وقُتل الكثير من أبناء جيشه، حينها فقط أدرك ابن باديس أنه لن يتمكن من التصدي لهجوم الهلالية الشرس، ومن ثم قرر الاستسلام فترك مدينة القيروان واتجه إلى مدينة المهدية، وتنازل عن الحكم لابنه تميم وعاش بقية حياته في معزل عن الحياة السياسية حتى مات حزينًا ومقهورًا عام 1062.
ماذا تقول السيرة الهلالية؟
على مدى أكثر من مليون بيت شعري، تحكي السيرة الهلالية، التي تنقسم إلى أربعة أجزاء، عن تغريبة بني هلال؛ يبدأ القسم الأول بصراع أبي زيد الهلالي لإثبات وجوده، وفي الجزء الثاني يسافر أبو زيد بصحبة أولاده إلى منطقة المغرب العربي حيث يواجهون مغامرات جديدة، في هذا الجزء يظهر الزناتي خليفة بطلًا أسطوريًا رغم مواجهته للقبائل الهلالية التي ظلت 14 عامًا على أسوار المغرب محاربين للزناتي خليفة ومحاصرين له.
ورغم أن رواة السيرة الهلالية ينقلون الأحداث من وجهة نظر الهلالية، إلا أنهم أبدعوا في وصف الزناتي خليفة، فذكروا في ملحمتهم الشعبية أنه فارس نبيل وشجاع ونموذج حي للمقاومة الشعبية والبطل الذي رفض التخلي عن أبناء شعبه، ولم يقمع ثورتهم كي يحافظ على كرسي الحكم.
هذا النموذج على الرغم من أنه الخصم، إلا أنه ظل راسخًا في الخيال الشعبي العربي، إذ اعتبروه أيقونة للشجاعة ستظل عالقة على جدار التاريخ، يشاهدها جميع العابرين العرب، فالزناتي في الملحمة هو «فارس المغارب وأسدها الغالب».