يحكى أن … التعبيريون التجريديون

محمد عبد الكريم يوسف
لم توفر المخابرات المركزية الأمريكية جهدا في استخدام أدواتها المعرفية المتعددة لفرض وجودها
بعد الحرب العالمية الثانية ، وخاصة بعد وصول ستالين لقيادة الإتحاد السوفيتي واختلافه مع
الإدارة الأمريكية وتشكل قوى عالمية جديدة فقد عمدت إلى نشر الأفكار الجديدة واختراع مذاهب
ونزعات والترويج لكل جديد تحت مسميات عديدة يأتي في طليعتها الحرية والديمقراطية . وكان
من بين الأدوات المستحدثة التي ساهمت في اختلاقها جماعة من الفنانين سموا أنفسهم بالتعبيريين
التجريديين .
يحكى أنه في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ظهرت جماعة من الفنانين كانوا يعرفون
بالتعبيريين التجريديين وكان أبرزهم جاكسون بولوك. في الحقيقة لم يكن هناك قاسم مشترك بين
هؤلاء إذ كان لكلٍّ واحدٍ منهم ميولٌ مختلفة عن الآخر وكان ثمة شيءٌ واحد فقط يجمعهم ألا وهو
الميل إلى المغامرة الفنية وعدم التقيُّد بأطر  ومعايير معينة.
وعقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، شهدت الساحة الفنية في نيويورك تطوراً مثيراً، فقد سرت
في أوصالها طاقة غريبة لا تُقاوم ، بعدما اكتسب فنانون – طالما كافحوا لسنوات في ظل فقرٍ
وتجاهل الثقة في النفس، وحققوا النجاح على حين غرة في ميدان جديد من الفنون غير مقبول في
الأوساط العامة والرسمية والأرستقراطية . وشكل هؤلاء مجتمعين حركة فنية عُرفت في ذلك
الوقت باسم “التعبيرية التجريدية”. وعلى رأسهم فيليم دي كونينغ وجاكسون بولوك ومارك
روتكو.
وكان من بين أكثر الأمور اللافتة للنظر بشأن مذهب “التعبيرية التجريدية”، هو تلك السرعة التي
نال بها الشهرة والمكانة على الساحة الدولية. فمع أن الفنانين المرتبطين بهذه الحركة استغرقوا
الكثير من الوقت لبلورة أساليب فنية تميزهم، فإن الحركة نفسها لم تأخذ وقتاً طويلاً لتحظى بالقبول
بمجرد أن تبلورت ملامحها بحلول أواخر أربعينيات القرن العشرين.

وبحلول الخمسينيات من القرن نفسه، بات من المسلم به بوجه عام، أن نيويورك هي موطن أكثر
التطورات المثيرة التي يشهدها عالم الرسم والنحت وقتذاك.
وقد كان بهذه المجموعة من الرسامين شيءٌ جذَّاب حقًا تبحث عنه المخابرات المركزية الأمريكية
في أيّ فنان، فقد كانوا شيوعيين تائبين! ورأت النخبة في أمريكا الثقافية أن هذا الاتجاه الجديد
يمثِّل أيديولوجية مضادة للشيوعية، إذ إنَّه اتجاهٌ يحمل روح الفنّ المغامر الذي لا يصوِّرُ أشخاصًا
ولا أشكالًا ولا يحمل بصمة سياسية. ووجدوا في التعبيرية التجريدية نقيضًا للواقعية الاشتراكية،
لقد كانت التعبيرية التجريدية اتجاهًا ممتازًا لأنه ببساطة ذلك النوع من الفن الذي يكرهه السوفييت.
لقد عانت الولايات المتحدة طويلًا من كونها لا تمتلك فنًا خاصًا بها، فنًا يحمل الروح الأمريكية، إذ
ظل فنّها فترةً طويلةً عبارة عن مجرد مزج بين المدارس الأجنبية ومستودعًا للمؤثرات الأوروبية،
ولكن ها هم التعبيريون التجريديون يمنحون الولايات المتحدة فرصة لاقتحام المشهد الحداثي في
الفن . لقد شجع التعبيرية التجريدية للنمو أن روادها من الشيوعيين التائبين ودعم المخابرات
المركزية الأمريكية وتعطش أمريكا لمدرسة فنية خاصة بها .
كان جاكسون بولوك ممثلًا لذلك الكشف القومي الجديد فلقد كانت فيه جميع العوامل التي تؤهله
ليكون رائدًا لمدرسةٍ فنيّة تمثل الولايات المتحدة. فقد كان بولوك أمريكيًا حقيقيًا وُلد في مزرعة
للأغنام في كودي وكان خشنًا وعنيفًا و قليل الكلام والأهم أنه لم يخرج من عباءة بيكاسو الفنية ،
بل كان تأثره الأكبر بالمكسيكيين والهنود الأمريكيين.
جاء بولوك بأسلوبٍ جديد يُعرف بـرسم الحركة حيث كان يقوم بوضع قطعة كبيرة من القماش على
الأرض ثم يمطرها بالألوان والأصباغ فتتشابك الخطوط وتمتزج الألوان وتسري في تفاصيل
القماش. وحينها قال بعض النقاد إن بولوك قد أعاد اكتشاف أمريكا من جديد بلوحاته التي مثلت
انتصارًا للفن الأمريكي الذي يعبر عن أمريكا الطليقة القوية المليئة بالحيوية والحرية .
وهكذا أتاحت التعبيرية التجريدية لأمريكا الظهور بمظهر القوة العظمى إذ كان دائمًا ما ينقصها أن
يكون لها فنٌ ملائم، وبالتالي أصبحت التعبيرية التجريدية حاملة للثقافة الإمبريالية تروج لها أجهزة
المخابرات الأمريكية وتسوق لها وتقيم لها المعارض وتدعو إليها كبار الشخصيات . وعلى الرغم
من ذلك اعترض أعضاءٌ كثرٌ في الكونغرس على هذا الفنّ كسلاح في الدعاية إذ رأوه مجرد
خزعبلات وتفاهات تظهر الشعب الأمريكي في صورة شعب محطّم وبشع لدرجة أن أحدهم قال:
“أنا أحد الأمريكيين المغفلين الذين يدفعون الضرائب من أجل هذه القمامة، وإذا كان في هذا
المجلس أحد يرى أن هذا النوع من التفاهة يمكن أن يحقق فهما أفضل عن الحياة الأمريكية فلا بد
من إرساله إلى نفس المصحة العقلية التي جاء منها من قاموا برسم تلك الأشياء.”
إلا أن دونالد جيمسون ، رجل المخابرات المعروف ، حسم الجدل الشديد حول ما إذا كانت
التعبيرية التجريدية فنًا حقيقيًا أم مجرد هراء حينما قال إن المخابرات المركزية الأمريكية قد
اخترعت هذا الاتجاه الفنيّ برمته لأنها أدركت أن فنًا كهذا لا يمتُّ بصلةٍ لا من قريب ولا من بعيد
بالواقعية الاشتراكية مما يظهرها في صورة الفن الذي تحده معايير صارمة وقوية بينما يبدو الفن
الأمريكيّ فنًا يدعم الحرية والخروج على الأطر التقليدية . ولهذا السبب قدمت إدارة المخابرات
دعمًا كبيرًا ودعايةً لكلٍّ من جاكسون بولوك، وروبرت ماذرويل وويليام دي كوننغ، ومارك روثكو
لا لفنهم ولكن لكونهم سلاحًا فعالًا في مجابهة الفن الشيوعي أثناء فترة الحرب الباردة.
في الواقع، سواء كانت الفنون الجديدة المتمثلة في الخروج عن المألوف والذوق العام وعدم التقيد
بالأطر المتعارف عليها والتي دعت لها الولايات المتحدة فنونًا حقيقية تحمل رسالة ورؤية وهدف

حقيقيين أم لا، تبقى الحقيقة واضحة للعيان وهي أن هذه الدولة قد استطاعت فرض ثقافتها وفنها،
على العالم بأسره لأنها آمنت وأدركت باكرًا أن للثقافة والكلمة مفعولًا وتأثيرًا يفوق تأثير جيش
كبير قوي مدجج بالأسلحة.
ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى ما حدث عام 1957، أي بعد وفاة بولوك بعامٍ واحد إثر
حادث سيارة. ففي ذلك العام، اشترى متحف المتروبوليتان للفنون لوحة بولوك المعروفة باسم
“إيقاع الخريف” بـ 30 ألف دولار، وهو ما مثّل سابقةً من حيث كونه أعلى ثمن دُفع في ذلك
الوقت لشراء لوحة لرسام معاصر.
في العام التالي ، اكتمل انتصار الحركة “التعبيرية التجريدية”، بانطلاق جولةٍ استمرت عاماً
كاملاً وطافت مدناً أوروبية بينها لندن وباريس وبرلين وميلانو وبروكسل وبازل لأعمال معرض
ذي تأثيرٍ كبير في الحركة الفنية العالمية، حمل اسم “الرسم الأمريكي الجديد”، وهي الجولة التي
نُظمت من قبل متحف “الفن الحديث” بنيويورك.
في عام 1973، نشر الناقد الفني ماكس كوزلوف مقالاً في مجلة “آرت فورم”، تناول فيه بشكل
تحليلي التيارات التي شهدها فن الرسم في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، ولكن من
منظور الحرب الباردة وفي سياقها.
وقيل حينها إن هذا المقال كان بمثابة رد فعل من جانب كوزلوف، على مطبوعات نُشرت في ذلك
الوقت وسادها مزاجٌ احتفالي مفعمٌ بعبارات تهنئة الذات فيما يتعلق بوضع الرسم الأمريكي في تلك
الفترة، مثل كتابٍ صدر عام 1970 بعنوان “انتصار الرسم الأمريكي: أول تأريخ للحركة التعبيرية
التجريدية” لـ”إرفينغ سيندلر”.
وذهب كوزلوف في مقاله للقول إن مذهب “التعبيرية التجريدية” لم يكن “سوى شكلٍ من أشكال
الدعاية المفيدة للمخابرات الأمريكية ” و تناغم مع تطور الأيديولوجية السياسية التي تبنتها
الإدارات الأمريكية المتعاقبة في فترة ما بعد الحرب.
بدت الفكرة للوهلة الأولى منافيةً للعقل من أوجه عدة لأن غالبية المنتمين لهذه المدرسة كانوا في
الأساس من أصحاب الشخصيات المتقلبة الذين يتسمون بعدم انتمائهم للمؤسسة التقليدية في
الولايات المتحدة ولكن استغلتهم المخابرات الأمريكية استغلالا بشعا للترويج لفن لا طعم له ولا
رائحة ، وأشعرت أجهزة المخابرات أن كل من لا يتذوق هذا الفن لديه مشكلة في التفكير والذوق
والإحساس .
قال المؤسس بولوك يوماً إن جميع من كانوا معه في مدرسته العليا بلوس أنجليس كانوا يحسبون
أنه “متمردٌ عفنٌ من روسيا وعلى كل تقليد معروف في الكون “.
رسخت أفكار كوزلوف أقدامها ففي عام 1967 ، أي قبل نشرها ببضع سنوات ، كشفت مجلة
“نيويورك تايمز” النقاب عن أن مجلة “إنكاونتر” الليبرالية المناوئة للشيوعية مع عدد كبير من
المجلات في واشنطن العاصمة وبيروت وتونس ولندن وبون ، كانت تُمول من قبل وكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية بشكل غير مباشر. ونتيجة لذلك ثارت الشكوك والتساؤلات: فهل
كانت يد المخابرات المركزية الأمريكية هي الأخرى طائلة في الترويج للتعبيرية التجريدية على
الساحة الدولية؟ وهل كان فنانٌ مثل بولوك مروجاً لأفكار الولايات المتحدة سواء عامداً أو غير
متعمد؟

نشرت الصحفية والمؤرخة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز في عام 1999 كتاباً عن وكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية و”الحرب الثقافية الباردة”، أكدت فيه أن “التعبيرية التجريدية”
كانت تُوظف باعتبارها أحد أسلحة الحرب الباردة. وتوجد على شبكة الإنترنت خلاصةٌ لحججها
في هذا الشأن، وذلك في سياق مقالٍ نشرته في صحيفة الإندبندنت البريطانية عام 1995، وقالت
فيه : “كأي أمير من عصر النهضة تعهدت المخابرات المركزية الأمريكية سرا اللوحات
الأمريكية المنتمية للمدرسة التعبيرية التجريدية بالرعاية والعناية، وروجت لها في مختلف أنحاء
العالم لأكثر من 20 عاماً”.
وتمحورت براهين سوندرز على صحة هذا التصور حول أفكارٍ مثل إننا نعلم جميعا أن المخابرات
المركزية الأمريكية موّلت مبادرات وتحركات ثقافية في إطار حربها الدعائية ضد الاتحاد
السوفيتي وروجت لنشر الكتب والمجلات والصحف في أكثر من مكان من هذا العالم ، وهذه حقيقة
لا ينكرها أحد ، وتوقفت هذه المجلات بعد انهيار الإتحاد السوفيتي بحجة عدم توفر التمويل .
وقد جرى ذلك كله بصورة غير مباشرة، عبر مسار كان يُعرف باسم “الرَسَن الطويل”، جرى من
خلاله إيصال هذه الأموال باستخدام كيانات تحمل مسميات مختلفة مثل “منظمة الحرية الثقافية”،
وهي مؤسسة مناصرة للأفكار المناهضة للشيوعية عملت في 35 دولة، وساعدت الاستخبارات
الأمريكية في تأسيسها وتمويلها وتسهيل نشاطاتها .
وكانت هذه المنظمة وراء إصدار مجلة “إنكاونتر” عام 1953. كما أنها موّلت رحلة أوركسترا
بوسطن السيمفونية إلى باريس للمشاركة في مهرجانٍ للموسيقى الحديثة وفق المذهب الأمريكي
الذي تروج له المخابرات . وتقول سوندرز إن هذه المنظمة موّلت كذلك العديد من المعارض
الكبرى، التي نُظمت لأعمال “التعبيرية التجريدية” في خمسينيات القرن العشرين، بما في ذلك
“معرض الرسم الأمريكي الجديد”، الذي طاف دول أوروبا بين عامي 1958 و1959 لدرجة إنه
لم يكن بوسع معرض “تيت مودرن” في لندن، تحمل نفقات استقدام المعرض الأمريكي للعاصمة
البريطانية، فتدخل المليونير الأمريكي يوليوس فليشمان في الوقت المناسب ليتحمل هذه النفقات
حتى يتسنى إقامة المعرض في المملكة المتحدة. وكان فليشمان رئيساً لكيانٍ تموله المخابرات
المركزية الأمريكية ويحمل اسم “مؤسسة فارفيلد”. ويمكن الادعاء بأن أفكار فنانين تجريديين
بريطانيين مهمين مثل جون هويلاند الذي أثر المعرض الذي أُقيم في “تيت موردن” عميقاً في
أعماله قد تشكلت من جانب الاستخبارات المركزية الأمريكية.
كما بينت سوندرز الروابط التي كانت قائمة بين المخابرات المركزية الأمريكية ومتحف “الفن
الحديث” في نيويورك الذي لعب دوراً فعالاً في الترويج لمفاهيم ولوحات “التعبيرية التجريدية”.
أنا شخصيا أنتمي لمدرسة الطبيعة وصوت الطبيعة وما ينسجم معها ولم أتذوق في يوم من الأيام
الفن الحديث الذي يرسم على شكل خربشات عشوائية أو يضع الأنف في القدم أو الفم في
الخاصرة. قد أكون متخلفا وقليل الفهم وفق المعايير التعبيرية التجريدية .
من يدري ؟
ملاحظة : اللوحة في بداية المقال للفنان التعبيري جاكسون بولوك والتي بيعت بثلاثين ألف دولار
في عام 1957 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى