وقائعُ حربٍ مُعلَنَةِ
عثمان محمد حمدان
مقدمة:
وقائعُ حربٍ مُعلَنَةِ
في الفصلِ الثاني من كتابه “الحرب الشَّرَّ الأعظم”، يُناقشُ كريس هيدجز Chris Hedges الدور الذي لعبه توسُّعَ الناتو إلى حدودِ روسيا في التوترات بين روسيا والغرب والتي ساعدت على تأجيج الصراع الروسي الأوكراني. يشيرُ توسُّعُ الناتو إلى عمليةِ إضافةِ أعضاءِ جددِ إلى منظمةِ حلف شمال الأطلسي، وهو تحالف عسكري تم تشكيله في أعقاب الحرب العالمية الثانية كوسيلة لمواجهة الاتحاد السوفيتي. اعتبرت روسيا توسُّعَ الناتو تهديدًا مباشرًا لمصالحها الأمنية ومحاولة لتطويقها بقوات عسكرية معادية وانتهاكًا للوعود التي قطعها القادة الغربيون خلال المفاوضات حول إعادة توحيد ألمانيا. جادل المسؤولون الروس بأن تمدد الناتو من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة ويؤدي إلى حربٍ باردةٍ جديدةٍ. يشير الكاتب لدور المجمع الصناعي العسكري في تعزيز تَّوسُّعِ الناتو، وكيف يستفيد مقاولو الدفاع والموردون العسكريون من زيادة الإنفاق العسكري والطلبِ على الأسلحةِ والمعداتِ العسكرية التي يَمكُن أن تَنْتُج عن ذلك التَّوسُّعِ.
كُنْتُ في التسعيناتِ في وسطِ وشرقِ أوروبا، أنقلُ التقارير الصحفية عن الثورات التي أطاحت بالديكتاتوريات الشيوعية المُتحجَّرة وأدت، في خاتمةِ المطافِ، إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد كانت أيام مُفْعَمَةً بالأملِ. بتفكك الإمبراطورية السوفيتية أصبح حلف شمال الأطلسي (الناتو) حدثاً من الماضي السحيق. توافق الرئيس ميخائيل جورباتشوف مع واشنطن وأوروبا على أسس اتفاقية أمنية جديدة تشمل روسيا، وربما تقود في المستقبل إلى انضمام روسيا إلى الناتو. أكد وزير الخارجية في إدارة ريغان، جيمس بيكر، وكذا وزير خارجية ألمانيا الغربية هانز ديتريش جينشر، للزعيم السوفيتي أنه إذا توحدت ألمانيا، فلن يتمدد الناتو إلى ما وراء الحدود الجديدة. وبدا أن الالتزام بعدم توسيع حلف الناتو، الذي تعهدت به بريطانيا وفرنسا أيضا، يُبَشُّر بنظامٍ عالميّ جديدٍ. عوائد السلام بدأت تلوح في الأفق، واستبشرنا بالوعود بتحويل ميزانيات التسليح الضخمة خلال حقبة الحرب الباردة، إلى نفقاتٍ على البرامج الاجتماعية والبنى التحتية، التي تم اهمالها لفترة طويلة لإشباع شهية الجيوش التي لا تَشَبُّعُ.
كان هناك تفاهم شبه عالمي بين الدبلوماسيين والقادة السياسيين في ذلك الوقت على أن أي محاولة لتوسيع الناتو ستكون عملا طائشا، واستفزازا غير مبرر ضد روسيا من شأنه أن يَئِدَ في المهدِ العلاقات والروابط التي نشَّأت واِستقبلت بالترحيب في نهاية الحرب الباردة.
كم كنَّا ساذجين. لم تكن صناعة الحرب والسلاح تنوي تقليص قوتها أو أرباحها. شرعت على الفور في تجنيدِ دول الكتلة الشيوعية السَّابقة وضمها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. اِضَطرت البلدان التي انضمت إلى حلف الناتو، والتي شملت حتى الآن بولندا والمجر وجمهورية التشيك وبلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، إلى إعادة تشكيِّل جيوشها، غالبا من خلالِ قروضٍ ضخمةٍ، لتتلاءم مع الأجهزةِ العسكرية لحلف الناتو. وعلى الرَّغْمِ من الاحتجاجات الروسية، كانت الشِّحناتُ الثَّابتةُ من الأسلحةِ الأوروبية والأمريكية إلى أوكرانيا تَحَوُّل البلاد بصورة فعلية إلى عضوٍ في الحلف.
إذن لن يكون هناك عائد من السلام. سرعان ما أصبح توسيع حلف الناتو مصدر ثروة ملياريه للشركات التي استفادت من الحرب الباردة (على سبيل المثال، ستنفق بولندا 6 مليار دولار على دبابات MI Abrams وغيرها من المعدات العسكرية الأمريكية). عندما رفضت روسيا أن تكون عدوا مرة أخرى، تم الضغط عليها لتصبح ذلك العدو.
هناك الآن قاعدة صواريخ تابعة لحلف شمال الأطلسي في بولندا على بعد مئة ميل من الحدود الروسية. كانت عواقب توسيع الناتو إلى حدود روسيا معروفة جيدا لصانعي سياسات الحلف التوسعية. ومع ذلك فقد قاموا بتوسيع الحلف على أي حال. لم يكن هناك أي معنى جيوسياسي لذلك. لكن المنطق كان تجاريا. الحرب، قبل كل شيء، هي عمل تجاري مربح للغاية. هذا هو السبب في أننا [أمريكا والدول الحليفة] حاربنا لعقدين في أفغانستان على الرغم من وجود إجماع شبه عالمي في مستهل الحرب بعدم جدوى القتال الذي خضنا غماره في مستنقعٍ لم نتمكن من الفوز به أبدا.
في برقية دبلوماسية سرية حصلت عليها ونشرتها ويكيليكس بتاريخ 1 فبراير 2008، مرسلة من موسكو وموجهة إلى رؤساء الأركان المشتركة، وتعاونية الناتو والاتحاد الأوروبي “NATO-European –union– Cooperative”، ومجلس الأمن القومي National Security Council، وجماعة موسكو السياسية الروسية Russia Moscow Political Collective، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية، كان هناك وضوح لا لبس فيه بأن توسيع حلف شمال الأطلسي مخاطرة ستنتهي بصراع في نهاية المطاف مع روسيا، وخاصة على أوكرانيا. تقرأ البرقية:
“روسيا على إدراك تام بمساعي تطويقها [من قبل حلف الناتو] والجهود المبذولة لتقويض نفوذ روسيا في المنطقة، أكثر من ذلك تخشى روسيا أيضا من عواقب لا يمكن التنبؤ بها وغير خاضعة للرقابة من شأنها أن تؤثر بشكل خطير على مصالحها الأمنية. يخبرنا الخبراء أن روسيا قلقة بشكل خاص من أن الانقسامات القوية في أوكرانيا حول عضوية حلف الناتو، ومعارضة الكثير من أفراد الأقلية الروسية [داخل أوكرانيا] انضمام أوكرانيا للناتو، مما يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات، ويشجع على العنف أو في أسوأ الأحوال، ربما يقود إلى حربٍ أهليةٍ. في هذا الاحتمال، سيتعين على روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستتدخل؛ وهو قرار لا تريد روسيا أن تواجهه. . . . أعرب ديمتري ترينين، نائب مدير مركز كارنيجي موسكو، عن قلقه من أن أوكرانيا كانت، على المدى الطويل، العامل الأكثر احتمالا لزعزعة الاستقرار في العلاقات الأمريكية الروسية، نظرا لمشاعر الألم العاطفي والتوتر العصبي الناجم عن سعيها للحصول على عضوية حلف الناتو. … ولأن أمر الانضمام لعضوية الحلف ظل مثيرا للانقسام في السياسة الداخلية الأوكرانية، فقد خلق فرصة للتدخل الروسي. أعرب ترينين عن قلقه من أنه سيتم تشجيع العناصر داخل المؤسسة الروسية الحاكمة على التدخل في أوكرانيا، مما سيحفز الولايات المتحدة على تشجيع القوى السياسية المعارضة بشكل علني، الأمر الذي سيضع الولايات المتحدة وروسيا في مواجهة كلاسيكية.”
حظرت إدارة أوباما، التي لم ترغب في زيادة تأجيج التوترات مع روسيا، مبيعات الأسلحة إلى كييف. لكن هذا التصرف الحَذِرِ تمَّ التخلي عنه من قِبل إِدارتي ترامب وبايدن. تتدفقُ الأسلحة من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى إلى أوكرانيا، وهي جزء من المساعدات والمعدات العسكرية الموعودة البالغة 1.5 مليار دولار. تشمل المعدات المئات من الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات Javelins وNLAW، على الرغم من الاحتجاجات المتكررة من قبل موسكو.
ليس لدى الولايات المتحدة وحَلفاءِها في حلف الناتو أي نَيَّةٍ لإرسال قواتٍ إلى أوكرانيا. بدلا من ذلك، سَيُغْرِقُون أوكرانيا بالأسلحة، حذو ما فعلوه في صراع عام 2008 بين روسيا وجورجيا، إِعَاقَة تَقَدُّمِ القوات الروسية بالجثثِ الأوكرانية.
الصراعُ في أوكرانيا يردد أصداء رواية غابرييل غارسيا ماركيز “وقائع موت معلن”. في الرواية، اعترف الراوي بأنه “لم يكن هناك موت أكثر توقعًا” ومع ذلك لم يكُن أحدُ قادرًا أو راغبًا في مَنْعِهِ. كان جميع الذين قاموا بالتغطية الصحفية من أوروبا الوسطى والشرقية في عام 1989 يعلمون عواقب استفزاز روسيا، ومع ذلك فقد رفع عددُ قليلُ منهم أصواتهم لوقف هذا الجنون. اِتَّخَذتِ الخطواتُ المنهجيةُ نحو الحربِ حياةَ خاصةٍ بها، مما جعلنا مثل السائرين أثناء النوم نندفعُ نَحْوَ الكارثةِ.
بِمجرد تَمَدُّدِ حلف الناتو إلى أوروبا الوسطى والشرقية، وعدت إدارة كلينتون موسكو بأن قوات الناتو الَتالية لن تتمركز هناك، وهي القضية المحددة للقانون التأسيسي لعام 1997 بشأن العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن بين حلف الناتو والاتحاد الروسي. تبين مرة أخرى أن هذا الوعد كذبةً. ثم، في عام 2014، ساعدت الولايات المتحدة في الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، الذي سعى إلى بناء تحالف اقتصادي مع روسيا بدلا من الاتحاد الأوروبي. بالطبع، بعد الاندماج في الاتحاد الأوروبي، كما رأينا في بقية أوروبا الوسطى والشرقية، فإن الخطوة التالية هي الاندماج في حلف شمال الأطلسي. روسيا، التي أفزعها التدخل الأمريكي في أوكرانيا عام 2014، انزعجت من مبادرات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ثم ضمت شبه جزيرة القرم، التي يسكنها إلى حد كبير المتحدثون الروس. هكذا بدأ الصراع الجاري حاليا في أوكرانيا الذي قادنا إلى دوامةُ الموتِ التي لا يمكننا إيقافها.
تحتاجُ دولةُ الحربِ إلى أعداءٍ للحفاظ على نفسها. عندما لا يمكن العثورُ على عدوٍّ، يتم تصنيع العدوَّ. للاستيلاء على أوكرانيا وبقية أوروبا الوسطى والشرقية أصبح بوتين، على حدِ تعبيرِ السيناتور أنجوس كينغ، هتلرُ الجديد. يتمُّ تبرير الصيحات الكاملة للحرب، التي ترددُ الصحافة صداها بلا خجلٍ، من خلال إفراغ الصراع من سياقه التَّاريخيِّ، بتصوير أنفسنا كمُنقِذين ودمغ كل من نُعَارِضُهُ، من صدام حسين إلى بوتين، بِوصفهِ زعيمَ نازيَّ جديدٍ.