هل سيكون الاستثمار التركي في سوريا الآن مجديا ؟؟.
هل سيكون الاستثمار التركي في لحظة سوريا الراهنة مجديا ؟؟.
هاني الروسان
لو حاولنا ان نجمع فسيفساء التحليلات والتكهنات التي اعقبت هروب بشار الاسد المثير لمعرفة اسباب ذلك وتحديد صورة الجهة التي سلم لها هذا الرئيس بلاده طوعا والتي ما زال يعلو ملامحها الحقيقية غبار ذلك الهروب، لوجدنا فيها ميلا كبيرا الى تفعيل المقاربة المؤمراتية من هذه الجهة او تلك، فيما لا يبدو ان الواقع يؤيد ذلك بل كان يؤكد ان الاتجاه الذي سيأخذه مسار الاحداث كان شديد الوضوح بعد ردود الفعل الاسرائيلية التي اعقبت هجوم السابع من اكتوبر حيث اكد نتنياهو والقيادة العسكرية الاسرائيلية منذ اللحظة الاولى ان الحرب على غزة قد تمتد لعامين وربما اكثر، وان الرد الاسرائيلي عليه سيتجاوز اشكال الرد التأديبي او الانتقامي الى محاولة التغيير الشامل لواقع المنطقة القائم.
كما كانت واضحة منذ البداية مستويات الدعم الامريكي والاوروبي اللامحدود لقيام اسرائيل بذلك وتشجيعها على المضي به قدما وتوفير الغطاء الدبلوماسي والسياسي لها لانفاذ مراحل مشروع اعادة انتاج جغرافيا الاقليم.على الصورة التي تخدم الاستراتيجية الامريكية بعيدة المدى بالبقاء المنفرد على قمة هرم قيادة النظام الدولي من خلال اضعاف روسيا وتفكيكها الى مكونات ما قبل راهنها الاتحادي، واحتواء الصين ودفعها للانكفاء، وتوفر لاسرائيل مقومات القيام بدور القائد الاقليمي الذي يتطلب للقيام والنجاح به تحقق عدد من شروط وعناصر القوة الصلبة للدولة وعلى رأسها بالنسبة لكيان مثل اسرائيل شرط العمق الحيوي الذي يمنحها القدرة على المناورة في الصراعات الكبرى والمفتوحة والذي لا يمكن تحويله الى واقع الا بمراجعة جغرافيا الدولة التي قد ُتنجز من خلال مشروع اليمين الديني الصهيوني ببناء اسرائيل الكبرى، ولذلك اشرنا في اكثر من مرة ان هدف الحرب على غزة يتجاوز هدف القضاء على حماس او غيرها من المنظمات الفلسطينية المسلحة، او اعادة احتلال القطاع، وقلنا وكررنا ان هزيمة غزة ستكون هزيمة للجميع وانها الخطوة الاولى في مشروع الشرق الاوسط الجديد التي ستليها خطوات لاحقة لتغير الهوية السياسية لوحدات النظام العربي الذي انبثق في اعقاب الحرب العالمية الثانية وزرع اسرائيل في قلبه.
كما قلنا انه من الخطأ الفادح ان نعتبر اننا حتمًا أمام ثنائيات توصيفية مختزلة أو أحكام جاهزة تطلق على الفاعلين الاقليميين لأغراض التعبئة والحشد المضاد، بل اننا أمام ديناميات متداخلة تستثمر في اللحظة الراهنة وظروفها المتعلقة بالسياقين؛ الإقليمي والدولي ومتغيراتهما، لخلق مساحات جديدة للنفوذ من اجل الضغط والتفاوض على أرضية موازين القوى المستجدة على الأرض، من أجل تحديد ادوار التفاعل المستقبلي في الاقليم وعلى المستوى الدولي، وهذا على يبدو هو ما نعيشه في اللحظة الراهنة، اذ ادت تلك الديناميات ببعض الاطراف الاقليمية والدولية – والدولية موضوع اخر يحتاج لمساحة اوسع حيث يجري الان توريط امريكا اكثر في اوحال الشىرق الاوسط – لاستغلال حركة تلك المتغيرات في عوامل الصراع لاعادة التموضع في خارطة التفاعلات على امل اقتطاع تذكرة عبور الى مستقبل الاقليم، وعالم ما بعد احتواء روسيا والصين وفقا لاماني امريكا.
فبعد ما تبين لحزب اردوغان الحاكم في تركيا حجم الاخطاء التي ارتكبها زعيمه وخاصة على صعيد الصراع العربي او الفلسطيني الاسرائيلي اذ لم يكتف باعادة العلاقات مع اسرائيل والنأي بتركيا عن سياساتها السابقة بمناكفتها، بل والتمهيد لعلاقات تعاون اكثر عمقا، يعود اليوم لمحاولة تصحيح تلك الاخطاء ولكن بخطأ اكبر وربما خطيئة.
ففي اعقاب الهزيمة اللافتة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية الاخيرة، والتي كانت نتائجها وفقا لمراقبين تحذيرا ومقدمة لهزيمة مؤكدة في الانتخابات الرئاسية القادمة، وبعد تصاعد الدور الاقليمي لايران وتحولها لوكيل دولي يفاوض عنه ويحدد طبيغة تفاعلاته وطمسه لكافة الادوار الاخرى وخاصة التركي والسعودي، اذ باءت محاولات اردوغان للعودة الى مشهد تفاعلات الاقليم بالفشل حتى ان قطع علاقات تركيا باسرائيل مر مرور الكرام ولم يحتف به احد، امام ذلك وادراكه لعمق التغيرات التي تنوي رعايتها الولايات المتحدة في المنطقة، فانه لم يكن امامه من خيارات سوى محاولة اللعب على تلك المتغيرات وركوب بعضها لاعادة بناء الدور التركي التائه.
من المؤكد ان حسابات اردوغان كانت دقيقة وان كانت قصيرة نظر، حيث عمل على الاستثمار في الرغبة الاسرائيلية الامريكية لانهاء الدور الاقليمي لايران او تحجيمه، واستغلال حالة الفراغ في القوة الذي خلفته الهجمات الاسرائيلية على حزب الله وايران، فعمل على اعادة تفعيل دور ” هيئة تحرير الشام” لاصابة عصفورين بححر واحدة اذ من جهة يقوم بمحاولة بناء محور سني بديل عن المحور الشيعي على امل ان يعيد لتركيا بعضا من دورها ذاك ووتخلص من منافس شرس لها على الاقليم يثير ريبة وخوف دول الاقليم وتعمل هي الاخرى على التخلص منه، ولكن دون ان تكون هناك ضمانات بان ان يؤدي ذلك الى تغير بحسابات اي من تل ابيب او واشنطن، اللتان تدعمان بقوة وخاصة اسرائيل قيام دولة كردية في شمال وشمال شرق سوريا في منطقة تعج بالتعدد القومي الذي من شأن اقامة دولة كردية فيها ان يحرك سواكن وطموحات هذا الطيف القومي باكمله، عملت تركيا بكل حزم للحيلولة دون قيامها ودفعت اثمان مختلفة في سبيل ذلك، باعتبارها تهديدا جديا للامن القومي التركي وحاجزا امام تمددها في مجالها الحيوي.
والاكيد على هذا الصعيد ان لا فرق بالنسبة لاسرائيل بين اي من الدورين التركي او الايراني باعتبارهما منافسين لها في المجال الجيوسياسي نفسه، وان كانت هناك بعض التفاوتات في تقييم الدورين الا ان ذلك يبقى في اطار الحسابات التكتيكية، حيث ان اسرائيل لن تقبل على المدى البعيد باي دور ينافسها هذا المجال الا اضطرارا.
في كل الاحوال قد يكون من المبكر بعد اطلاق احكام نهائية لتحديد الجهة التي ستكون اكثر تقريرا في طبيعة سياسات من سيقود سوريا او الصورة التي ستكون عليها سوريا القادمة، لا سيما وان رمال الشرق الاوسط سريعة الحركة، غير ان ذلك لا يمنع من الاشارة وبغض النظر عن عمق المفاجأة التي اصابت ايران وروسيا بفعل انهيار جيش الاسد السريع على اعتبار ذلك هو حقيقة، فان تسليمهما بمنطقة النفوذ الوحيدة لهما في الشرق الاوسط ودخول تركيا الحاسم على دينانيات التغيير لا تخلو ولا يجب ان تخلو من اشارة استفهام قد تقود للتكهن بما يمكن ان نسميها صفقة ما تمت تحت الطاولة لمبادلة الشرق الاوسط على امل اغراق امريكا ومن يدور في فلكها به، بفقراء الشرق الاوروبي وتحديدا بعض من شرق اوكرانيا وحماية ايران ، وان كان ذلك ليس دقيقا ولا نهائي ولكنه خطوة في سياق خطوات لاحقه قد تحول الشرق الاوسط بغياب خطة العربية للمجابهة الى حقل تجارب قبل حسم الصراع الدولي واستقرار قواها بشكل نهائي.
هاني الروسان/ استاذ الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية في جامعة منوبة