هل تنجح أمريكا في وقف الصين ؟
آدم الحسن
قبل الدخول في بحث الأساليب المتاحة امام امريكا لوقف تطور الصين و امكانية نجاح هذه الأساليب في تحقيق أهدافها لابد من الإشارة الى الأمور التالية :
اولا : بسبب المتغيرات التي حصلت على الساحة الدولية اصبحت هيمنة أمريكا على الدول الأخرى و خصوصا على الدول الفقيرة لا تتم بثمن بسيط , فهذا الثمن أخذ يكبر يوما بعد يوم بسبب ظهور متنافسون جدد في الساحة الدولية مستعدون للدفع مقابل شراء المواقف السياسية لتلك الدول أو لإقامة علاقات تجارية على اساس المنافع المشتركة للطرفين , ليست الصين و روسيا هما المنافسين الوحيدين لأمريكا بل صار هنالك منافسين أخرين من اوربا كفرنسا و من الدول الخليجية كالسعودية و الأمارات , و عدد المتنافسين في تزايد , من المؤكد أن هذا التنافس يصب في مصلحة الدول الفقيرة , حتى اخذ البعض منها هو من يفرض شروطه على من يقدم له الدعم المالي أو الاقتصادي .
كي تكسب أمريكا مزيدا من الدول التابعة لسياستها , دول تسير تحت هيمنتها و كي تحافظ امريكا على علاقتها بهم و تتمكن من ادامة هذه العلاقة لابد من أن يكون الدعم الأمريكي في تصاعد مستمر , فالمنافسة اصبحت شديدة و هذا ما صار واضحا في القارة الأفريقية .
لا شك أن الدعم الذي تقدمه امريكا للدول لأغراض الكسب السياسي سيشكل مع مرور الزمن ثقل يقصم ظهر الاقتصاد الأمريكي لأنه في الغالب لا يتم وفق المصالح المشتركة بعكس الصين التي تبحث في جميع علاقتها على المصالح المشتركة من خلال أنشاء مشاريع تنموية أو لتنفيذ مشروعها الحزام و طريق الحرير و بالتالي لا تشكل هذه العلاقات على الصين أعباء اقتصادية و مالية .
ثانيا : ستواجه امريكا مشاكل اقتصادية حقيقية ما لم تُؤمنْ و تَتَصرفْ بواقعية و تَعتَرفْ بأن العالم اصبح عالما متعدد الأقطاب و إن لا جدوى من شرائها للولاء السياسي للدول فعصر الشراكة العادلة بين الدول قد بدأ بديلا عن عصر التابع و المتبوع .
لقد اصبح واضحا أن الميزانية الفدرالية الأمريكية و منذ سنين عديدة تعاني من عجز مستمر حيث وصل الدين العام الأمريكي الى رقم قياسي , بحدود 32 ترليون دولار , و إن نفوذ الدولار الأمريكي في النظام النقدي العالمي بدأ يتراجع , هذا العامل و عوامل أخرى ستؤدي بالتأكيد الى تلاشي الهيمنة الأمريكية على الدول الأخرى بشكل تدريجي .
هنالك حقيقة لابد لإدارة البيت الأبيض الأمريكي الحالية و الإدارات القادمة ادراكها و تَقَبُلها و هي أن امريكا ستبقى واحدة من الدول العظمى اقتصاديا و علميا و تكنولوجيا لكن دون أن تكون لها هيمنة سياسية على الدول الأخرى .
ثالثا : يوفر العالم متعدد الأقطاب إمكانيات كبيرة للكثير من الدول كي تتصرف وفق مصالحها الوطنية دون الخشية من سلطة أمريكا التي صارت القطب الأوحد بعد انهيار و تفكك الاتحاد السوفيتي .
رابعا : لقد اصبحت الصين الصاعدة هي صاحبة الاقتصاد الأكبر عالميا عند استخدام القيم الاستعمالية في حساب الناتج الوطني الإجمالي و ثاني اقتصاد في العالم بعد امريكا عند استخدام القيم التبادلية في حساب الناتج الوطني , و يتوقع الكثير من خبراء الاقتصاد أن الاقتصاد الصيني سيكون خلال السنين القليلة القادمة في المرتبة الأولى عالميا وفق استخدام الأسلوبين في حساب الناتج الوطني الإجمالي , اسلوب استخدام القيم التبادلية و اسلوب استخدام القيم الاستعمالية .
خامسا : مع التطور العلَمي و التكنولوجي السريع في الصين فأن معدل إنتاجية الفرد فيها يقترب من معدلات إنتاجية الفرد في الدول عالية التطور و مع استمرار هذا التطور سيزداد معدل إنتاجية الفرد في الصين على إنتاجية الفرد في كل البلدان المتقدمة عندها سيكون إجمالي الناتج المحلي الصيني بحدود خمسة أضعاف اجمالي الناتج المحلي الأمريكي إن لم يكن أكثر .
سادسا : تختلف التجربة الصينية عن كل التجارب التي مرت بها دول العالم و لهذه التجربة ميزات تم من خلالها تحقيق الإنجازات الهائلة في كافة المجالات حيث تمت اكبر عملية لنقل المعرفة في كافة صنوف العلوم و التكنولوجيا من الدول التي سبقت الصين في التقدم الى الداخل الصيني في فترة زمنية قصيرة لدرجة يمكن وصفها بالتجربة المعجزة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية .
اهم ما يجب الإشارة اليه بخصوص نقل المعرفة الى الداخل الصيني انه منذ نجاح الإصلاحيين في الصين من السيطرة على دفة الحكم في الصين بقيادة تنغ تسياو بنغ حصلت اكبر عملية في التاريخ الإنساني لنقل العلوم و التكنولوجيا من البلدان المتقدمة الى الصين حيث ارسلت الدولة الصينية بحدود مئة الف طالب سنويا للدراسة في البلدان المتقدمة و خصوصا في أمريكا , أي ما مجموعة خلال الفترة الماضية حوالي اربعة ملايين طالب , هؤلاء الطلبة إما كانوا يدرسون على حساب الدولة الصينية أو على حساب الشركات العاملة في الصين بضمنها الشركات الصينية أو على حسابهم الخاص , بالإضافة لدراسة الطلبة الصينيين في الدول المتقدمة تم الاستعانة بخبراء اجانب برواتب مغرية للعمل داخل الصين , هذه الطرق هي من بين طرق عددية اخرى استخدمتها قيادة للحزب الشيوعي الصيني الإصلاحية لنقل العلوم و التكنولوجيا الى الداخل الصيني .
إن تطور الصين هو نتاج لعمل جاد لملايين الصينيين من العلماء و الخبراء في إدارة الدولة و المهندسين و الفنيين بكافة الاختصاصات , لذا فإن وقف تطور الصين هو أمر مستحيل .
أن اهم سبب وراء ما حصل و يحصل في الصين من تطور هائل و سريع في التنمية الاقتصادية و البشرية هو المشاركة الواسعة المتاحة للشعب الصيني في صنع و بلورة سياسات الدولة في كافة المجالات حيث نجحت الصين في قطع شوط مهم على الطريق نحو تحقيق الديمقراطية الشعبية ” حكم الشعب الصيني لنفسه بنفسه ” .
الديمقراطية الشعبية نظام ديمقراطي متطور لكنه نظام معقد في بعض مفاصله , إذ إن تنفيذه يتطلب وضع برنامج عمل لجميع افراد الشعب الراغبين في المشاركة , من موقعهم و حسب امكانياتهم , في التخطيط و ادارة سياسة الدولة في المجالات الاقتصادية و المجتمعية , الأمر ليس بالسهل اطلاقا و يحتاج الى جهد كبير و عقود من الزمن لاستكمال المتطلبات الضرورية لمشاركة اكثر من مليار صيني في عمل اللجانْ الشعبية المحلية الأولية و صعود مقترحات هذه اللجآنْ الى مجلس الشعب الصيني و الى مجلس الدولة الصينية لتكون اساس لخطط الدولة الصينية في كافة المجالات .
حاليا يوجد تسعة أحزاب سياسية تعمل بنشاط في الصين إلا أن الحزب الشيوعي الصيني هو الأكثر شعبية و عدد اعضائه اكثر من 90 مليون عضو و قد اثبت نجاحه و صار صاحب افضل خبرة في تحقيق التطور و النمو و التقدم في كافة المجالات العلمية و التكنولوجية و الثقافية في الصين , أن الحزب الشيوعي الصيني لم يعد ذلك الحزب الذي يقوده العمال و الفلاحون بل صار للتكنوقراط المتقدم دور اساسي في قيادته و تحديد كافة مسارات نشاطه , حتى أن بعض المتابعين للشأن الصيني أخذ يصفه بحزب التكنوقراط .
لقد أوجد صعود العملاق الاقتصادي الصيني معادلات سياسية جديدة على الساحة الدولية حيث أنشأت الصين بالتنسيق مع عدد من الدول منها روسيا و الهند الأسس و البنية التحتية لعالم جديد ، عالم متعدد الأقطاب , من هذه الأسس منظمة شنغهاي للتعاون , بنك التنمية الجديد , مجموعة بريكس , و غيرها من الكيانات ذات العلاقة بالتعاون و التنسيق في الأمور الاقتصادية و السياسية و ألأمنية وفق مبدأ العدالة و المصالح المشتركة للدول الأعضاء , و كنتيجة لهذه المتغيرات على الساحة الدولية و خصوصا تنامي دور الصين الاقتصادي في العالم التي اصبحت الشريك التجاري الأول للعديد من الدول تَشَكلَ نموذجان للعلاقات بين الدول :
** النموذج الأول الذي يعتمد على التعاون الاقتصادي و الشراكة الشاملة بين الدول و بناء أسس نظام نقدي عالمي جديد يكون عادلا و منصفا لجميع الدول , اخذت الصين مكانا كبيرا و مميزا في هذا النموذج لدرجة يمكن وصفها بأنها هي الدولة القائدة و الراعية لتطور هذا النموذج .
** النموذج الثاني الذي تقوده أمريكا و يعتمد على الصراع و فرض نظام اقتصادي و نقدي عالمي غير عادل كونه يخدم دول الغرب على حساب مصالح باقي الدول و خصوصا على حساب الدول الفقيرة .
إن السبب الأساسي في وجود نموذجين هو الاختلاف في تكوين الدولة الأمريكية و الدولة الصينية , فالشركات في أمريكا هي التي كونت دولة الولايات المتحدة الأمريكية وفق قوانين و ضوابط و متطلبات الشركات , أما دولة الصين فهي التي كونت الشركات وفق مقاييس و ضوابط حددتها الدولة لها , لذا صارت أمريكا دولة شركات و الصين دولة مؤسسات .
حين تكون الدولة هي من تخطط و يكون نظامها نظاما شعبيا ديمقراطيا يكون تخطيطها وفق متطلبات شعبية اجتماعية , أما الشركات فخياراتها تجري وراء الربح مهما كان شكل التنافس حتى لو ادى ذلك الى الصراع و الحروب .
إن تطور و نجاح النموذج الذي تقوده الصين يسير أسرع بكثير من توقعات واضعي استراتيجيات الهيمنة الأمريكية .
لازال صانعي القرار السياسي الأمريكي يفكرون بعقلية الحرب الباردة إذ يمكن للمتتبع للنشاط الأمريكي المعادي للصين خلال العقود الماضية يجد أن في هذه النشاطات ملفات عديدة .
بالمقابل , تستطيع الصين ممارسة نفس اسلوب امريكا و تفتح ملفات عديدة لمحاربة امريكا , و الملفات التي يمكن فتحها ضد امريكا كثيرة إلا أن سياسة الصين تختلف جوهريا عن سياسة امريكا , فالصين تنصح و تدعو الدول الأخرى و منها امريكا للابتعاد عن اساليب الحرب الباردة , لذا ليس من المعقول قيام الصين بعمل هي تنصح بالابتعاد عنه .
تعتمد امريكا في تحريك نشاطها المعادي للصين على اقرب حلفائها و هي بريطانيا , فلبريطانيا خبرة طويلة و عميقة في خلق احداث ملائمة لسياستها بحكم كونها كانت امبراطورية لا تغيب الشمس عنها و تعرف تفاصل كثيرة عن الصراعات و التناقضات بين مكونات الشعوب المختلفة و خصوصا تلك الشعوب التي كانت خاضعة لها .
تندرج النشاطات الأمريكية المعادية للصين ضمن الملفات التالية :
اولا : قضية تايوان , تعمل امريكا على أضعاف مبدأ ” الصين الواحدة ” و افراغه من معناه الحقيقي مع عدم الاعتراف الرسمي و الصريح بتايوان كدولة مستقلة حيث تتبع امريكا تجاه تايوان سياسة ملتوية و غامضة تطلق عليها ” سياسة الغموض الاستراتيجي ” , فرغم أن امريكا قد وقعتْ مع الصين اتفاقية اعترفت فيها بمبدأ الصين الواحدة و إن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين إلا انها تتحايل على هذه الاتفاقية بواسطة سياسة الغموض الاستراتيجي , في المقابل تتبع الصين سياسة صريحة و واضحة تجاه تايوان باعتبارها قضيتها الأساسية .
ثانيا : تشجيع و دعم الحركة الانفصالية في منطقة الإيغور للمطالبة بالانفصال عن الصين و تأسيس دولة باسم ” تركستان الشرقية ” .
رغم ان أمريكا تعلم جيدا أن الحركة التي تدعو لانفصال منطقة الإيغور هي منظمة ارهابية مرتبطة بباقي المنظمات الإرهابية كداعش و القاعدة إلا إنها تغض النظر و لا تبالي من استخدام هذه الحركة للأراضي الأفغانية في فترة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان لممارسة نشاطها الإرهابي ضد الصين انطلاقا من المنطقة الحدودية بين افغانستان و الصين .
بعد الهروب الأمريكي من افغانستان و سيطرة حركة طالبان الأفغانية على افغانستان تَشكلتْ علاقة منافع تجارية و اقتصادية متبادلة بين الصين و أفغانستان , ادت هذه العلاقة الى قيام حكومة حركة طالبان بمنع و محاربة النشاطات المعادية للصين انطلاقا من الأراضي الأفغانية وفق مبدأ حسن الجوار و عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى .
ثالثا : احياء النزعة الانفصالية لدى سكان إقليم التبت لإعادة الحياة من جديد الى المشروع القديم المتمثل بانفصال اقليم التبت عن الصين و لأمريكا خبرة قديمة في هذا النشاط المعادي للصين حين كانت تدعم و ترعى الدالاي لاما الذي كان حتى سنة 1959 يمثل القيادتين الروحية و الدنيوية للبوذيين في اقليم التبت , فبعد استعادة الصين لإقليم التبت مارس الدالاي لاما نشاطه السياسي من خارج الصين و بدعم أمريكي و بريطاني مطالبا بانفصال اقليم التبت عن الصين .
كل المؤشرات تؤكد أن جهود امريكا في هذا الملف قد فشلت و لا امل لأمريكا في احيائه من جديد فتمسك سكان التبت بوطنهم التاريخي الصين افشل كل المخططات الأمريكية .
رابعا : دعم بعض التيارات السياسية التي تطالب بانفصال هونغ كونغ عن الصين خصوصا و أن هونغ كونغ لم تندمج بشكل كامل بالبر الصيني حيث ترتبط معه وفق مبدأ ” نظامان في دولة واحدة ” .
بعد مرور حوالي ربع قرن على عودة هونغ كونغ الى الوطن الأم الصين حققت تجربة ” نظامان في دولة واحدة ” نجاحا كبيرا و كافيا لإفشال المخطط الأمريكي في بث النزعة الانفصالية لدى شريحة من سكان هونغ كونغ بحجة الحصول على مزيد من الحريات الشخصية .
خامسا : تنمية الخلافات الحدودية بين الصين و الهند , لقد تطورت العلاقة بين الصين و الهند بشكل كبير حيث اصبحت الصين الشريك التجاري الأول للهند و توثقت العلاقة بين هاتين الدولتين بشكل كبير من خلال اشتراكهما في منظمة شنغهاي للتعاون و بنك التنمية الجديد و مجموعة بريكس التي جعلت علاقتهما اقوى من أي محاولة امريكية لخلق مبررات للصراع بينهما .
سادسا : تنمية الخلافات على الحدود البحرية بين الصين و الدول المطلة على بحر الصين , كل المؤشرات تؤكد أن تطور علاقة التعاون و الشراكة الشاملة بين الصين و جميع الدول المطلة على بحر الصين قد أفشل المخطط الأمريكي لتنمية هذه الخلافات , حيث إن بعض هذه الدول اعضاء في رابطة دول جنوب شرق اسيا ” اسيان ” و إن الصين هي الان الشريك التجاري الأول لهذه الرابطة حيث وصل حجم التبادل التجاري بين الصين و أسيان حوالي الف مليار دولار سنويا …!