هذا هو معاوية بن أبي سفيان


الصحابة رضي الله عنهم خط أحمر بالنسبة لمن يحرص على سلامة دينه خشية أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة، فهم الجيل القرآني الفريد والرعيل الذي لولاه ما وصلنا الإسلام، هم بشر لكن الله تعالى اصطفاهم لصحبة نبيه وتبليغ دينه فكانوا هم خير البشر كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وبما أنهم بشر فهم عرضة للخطأ لذلك أُمرنا أن نستغفر لهم: ” وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” – سورة الحشر 10، لكن قوما بدل أن يستغفروا لهم انقادوا خلف شبهات الشيعة والمستشرقين فراحوا يسيئون إلى بعضهم بذرائع شتى فلم ينج منهم الخلفاء الراشدون ولا أمهات المؤمنين ولا غيرهم ممن ماتوا والرسول صلى الله عليه وسلم راض عنهم، ومن هؤلاء معاوية رضي الله عنه فقد ناله قسط كبير من الإيذاء والظلم، وقد كثف الشيعة شبهاتهم حوله بالكتابة والصوت والصورة منذ أن ارتفع قرنُهم وأصبحت لهم دول وهيئات ثقافية تدميرية نافذة، وفي أهل السنة سماعون لهم لا يتورعون عن الوقوع فيه وكأنه مجرم مستباح العرض، وهذه لعمري طامة كبرى تعرض صاحبها للردى بين يدي الله تعالى، ويجب التفريق بين هذا الطعن المجاني وبين التحقيق العلمي التاريخي الذي يتولاه من يملك الأدوات اللازمة للبحث بمهنية وتجرد، أي يجب التمييز بين الموقف الانفعالي المتشنج وبين استخدام العقل والتسلح بأدب الاختلاف.
لفهم قضية معاوية – لأنها أصبحت قضية بفعل شيطنة الشيعة والمستشرقين له – لا بد من استحضار ظروف نشأتها وهي الفتنة الكبرى التي عصفت بالدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه وامتدت زمن علي رضي الله عنه فتسلل منها كل متربص بالإسلام وأهله، وقد كانت تلك الأحداث فتنة بالفعل ودليل ذلك أن الصحابة أنفسهم – ومنهم بعض العشرة المبشرين – تفرقوا فيها بحسب اجتهاداتهم فشارك بعضهم في الاقتتال مع هذا الصف أو ذاك، ولزم بعضهم بيوتهم أي أن الأمور لم تكن واضحة جلية كما أصبحت لنا اليوم، والصحابة بشر، والخلاف كان سياسيا وليس دينيا، ومعاوية لم يكن ملاكا ولا شيطانا، وإذا اختلط الأمر على أصحاب بدر فكيف به هو؟
نعم، لا يمكن دفع حقيقة أنه – باجتهاده الذي وجد له بعد مرور الزمن كثير من كبار علماء الأمة تأصيلا شرعيا قويا – حوّل الخلافة إلى ملك، كما أنه ولّى ابنه يزيدا والصحابة متوفرون بكثرة – وهذه هنة كبرى – على ثقة أنه كان يقصد الحق ولا يضيره بعد ذلك أن يكون أصاب الحق أم أخطأه، أما أنه كان يعرف أنه على باطل ويقاتل عليه فهذا كلام مرفوض، لكن يجب التنبيه إلى أن الملك العضوض الوارد في الحديث النبوي لم يكن في عهد معاوية لأن هذا الملك هو الذي يصيب فيه الناس الظلم والجور ولم يكن عهد معاوية كذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ومعاوية رضي الله عنه كان أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك، كان ملكه ملكا ورحمة كما جاء في الحديث: “يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض” ـ وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره، وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا ـ وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين”.
وقال شيخ الإسلام أيضا: جرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “سيكون نبوة ورحمة…”.
وقال الذهبي رحمه الله: “ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهَنَات، وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم ـ هو ثغرـ فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه”.
وقال ابن كثير رحمه الله “وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلا بالأمر، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو…وكان حليماً وقورا رئيسا سيدا في الناس كريما عادلا شهما”.
رضي الله عن معاوية وجميع الصحابة.
عبد العزيز كحيل