تعاليقرأي

نزيف (4)

نزيف (4)

ويطول الكلام عن الرجل الذي ادّعى أنّه جاء إلى المستشفى معافى ولم يكن يشكو من شيء، وأراد بذلك أن يحمّل الطبيب أو الطبيبة التي طلبت منه أن يرقد في المستشفى مسئولية تعفّن قدمه. وعن غرائب تصرّفاته؛ مع زوجته التي يصفها بالعدو اللّدود، متنكّرا لفضلها الكبير عليه وقيامها على خدمته ليل نهار. وكذلك مع أبنه الذي كان يقوم على حراسته بالليل والنّاس نيّام ويحاول الولد البار المسكين منع أبيه من التدخين، لكنه لا يستطيع. وطفح الكيل بكل الذين من حوله؛ من ممرضين وأطبّاء وحتى زملاؤه المرضى… كل هؤلاء لم يعودوا قادرين على تحمّل الرّجل و كثرة صراخه و ضجره.

وتذكّرتُ لماذا ذكر الفقر حين تم بتر أصابع قدمه واشتدّ به الألم؟

كنتُ لحظتها غير بعيد عنه منهمكا في قراءة ورقة تتضمّن إرشادات لأحد الأدوية التي منحنيها الطبيب وتسبّبت لي في ألم شديد، حين همس لي وبصوت ساخر محفوف بالحيطة والحذر كي لا يصل إلى أسماع الآخرين، وقال لي:

” ميات ألف هذيك آبو لحية“؟

وكان المسكين يمزح وليس يسخر منّي.

لأنّني كنتُ أحب ممازحته ومداعبته، و أهرع إلى مساعدته عند الحاجة، وأهوّن عليه الأمر كي ينسى الألم.

سألني إن كانت الورقة التي بين يديّ نقود من فئة ألف دينار جزائري؟

وهو ما جعلني ازداد يقينا أنّ الفقر هو من بين الأسباب والعوامل التي زادت في حدّة معاناة الرّجل. وتبيّن فيما بعد أنّه يعاني أيضا من مرض الأعصاب، ويتناول الأدوية المؤثّرة على العقل أو المهدئات. وكل ذلك كان سببا كافيا لإبطال مفعول البنج.

وصدق المثل الذي يقول: ”شرّ البليّة ما يُضحِك“.

فقلتُ في نفسي: ”أنّى لي بمخرج سينمائي أدعوه إلى سيناريو كهذا وعلى عجل، يكون بطله سي (عثمان) ”أيقونة“ المستشفى وبلا منازع“.

في المقابل يرقد (الحاج) صاحب التّسعين تقريبا، البطل الذي لم تؤثّر فيه وقائع وأحداث الحرب العالمية التي عاشها كجندي في صفوف الجيش الفرنسي، بقدر ما أثّرت فيه حكاية الصّوم هذه؛ فعلى الرّغم من أنّه يعاني من قلّة السّمع، بالإضافة إلى العقود التسعة وثقلها على البدن، إلاّ أنّ عمّي الحاج هذا لا يفتأ يذكر قصّته المؤثّرة مع ”العشر الأواخر من رمضان“، والتي دفع مقابلها مبلغ كذا.. كفّارة، على الرّغم من حصوله على رخصة من الطبيب.

وأمّا السّبتي صاحب الجميل، فهو يعاني من سعال جاد لا يتركه يهدأ لا بالليل ولا بالنهار، بسبب الرّبو. لكن وجوده بالمستشفى كان بسبب داء السكّري. وبرغم التحذيرات والنصائح الكثيرة والتهديدات أحيانا، إلّـا أن صاحب القلب الجميل لا يعبأ كثيرا بكل ما يقال له. والعجيب أنه بقدر إصرار صاحب ”الستّة عقود ونيف“ على تحلية الحليب والقهوة بكميّات كبيرة من السكّر، تأتي نتائج الفحص مبشّرة ومطمئنة!؟

وهو ما جعل الرجل يطلب من والدته العجوز أن تحضر له إناء مملوء عن آخره بمادّة السكّر الصناعي.

الصالة التي أرقد فيها تفضي إلى صالتين أخريين تتبعان نفس الجناح، يرقد فيهما عدد لابأس به من المرضى، ومن بينهم شخص أعرفه، بُترت أصابع إحدى قدميه عن آخرها بسبب التدخين. لكنه ومع ذلك بقي يصر على التدخين مستمرا في تناول السجائر.

يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى