نحو نظرية علمية للتنمية المستدامة

نحو نظرية علمية للتنمية المستدامة

سعيد مضيه

ازمة القروض الدولية تعطل قدرة الدول الفقيرة على التنمية

يراجع فيجاي براشاد، المؤرخ الماركسي هندي الأصل، مشاريع التنمية التي اقرتها الأمم المتحدة ووضع إصبعه على الأسباب الحقيقة لتعثرها وفشلها ؛ فما دفعته الدول الفقيرة خدمة للديون هذا العام، 2023، بلغ ال 400 مليار دولار،أكثر من ضعف المساعدات المقدمة للدول الفقيرة. تدفع الدول المدينة هذه المبالغ كل عام لترتفع المديونية – إجمالي الديون على بلدان الجنوب 11.5 تريليون دولار. يخلص براشاد ان “تري كونتيننتال:مؤسسة الأبحاث الاجتماعية”أتجرت أبحاثا ونقاشات بصدد المعضلة اوصلتها الى ’نظرية التنمية اللاراسمالية‘ ، التي طورتها المؤتمرات الأممية للأحزاب الشيوعية والعمالية”. وفي التحولات الدولية الجارية تتوفر ظروف تتيح إمكانية الفكاك من تبعية البلدان الفقيرة للعلاقات مع بلدان الرأسمال.
يختصر براشاد ازمة التنمية على الشكل التالي :
في شهر حزيران الماضي نشرت “شبكة الأمم المتحدة للحلول التنموية المستدامة” تقريرها حول التنمية المستدامة للعام 2023″، الذي تتبع سيرورات تقدم193 دولة أعضاء بالأمم المتحدة نحو تحقيق17 “هدفا للتنمية المستدامة ” [س دي جي)
ما بين العامين 2015 و2019 كتبت الشبكة ،” حقق العالم يعض التقدم في مضمار التنمية المستدامة (س دي جي)، على الرغم من ان ذلك يقصر بصورة شاسعة عن تحقيق الأهداف . ومنذ انتشار مرض كوفيد -19 عام 2020 وازمات اخرى ملازمة راوح هدف التنمية المستدامة في المكان على نطاق الكرة الأرضية.
بدأ تطبيق الأجندة التنموية عام 2015 بأهداف تقرر إنجازها عام 2030؛ وعلى كل حال ،مع اقتراب الموعد النهائي فقد لاحظ التقرير ان “جميع أهداف التنمية المستدامة تواجه خطر الفشل”.
أزمة الديون
لماذا تعجز الدول الأعضاء بالأمم المتحدةعن الوفاء بأهداف التنميةالمستدامة؟ في جواب الشبكة ان “اهداف التنمية المستدامة في الجوهر اجندة استثمارات: من الأهمية بمكان ان تتبنى الدول الأعضاء وتطبق حوافز اهداف التنمية المستدامة وتدعم عملية إصلاح شاملة لبنية النظام المالي العالمي”.
ومع هذا قلة من الدول تصدت لأوليغارشيتها المالية . حقا فلكي تنجز أهداف التنمية المستدامة تحتاج ادول الأفقر 4 تريليون دولار، على أقل تقدير تستثمرها كل عام.
[أنظر مقال كيف تستأصل الفقر]ليس ممكنا إحداث تنمية هذه الأيام ، حيث معظم البلدان الأفقر متورطة في أزمة مديونية دائمة. لذلك السبب يدعو تقرير التنمية المستدامة لعام 2023 الى إعادة النظر في نظام التصنيف الائتماني، الذي يشل قدرة البلدان على الاستدانة(وحين يكون بمقدورهم الاقتراض ، يتم ذلك بفوائد أعلى مما يتاح للدول الغنية).
علاوة على ما تقدم يدعو التقرير النظام البنكي الى “إعادة النظر في بنية السيولة للبلدان الأفقر”، خاصة فيما يتعلق بسندات الدين لمنع المصرفية الذاتية وأزمات ميزان المدفوعات”.
انظر : تحريض صندوق النقد الدولي على التقشف
من المهم للغاية وضع أزمة سندات الدين على رأس جدول أبحاث التنمية؛ يقدر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ( اونكتاد) أن “الدين العام على البلدان النامية ، باستثناء الصين قد بلغ العام 2021 ال 11.5 تريليون دولار”. في ذلك العام دفعت البلدان النامية مبلغ 400 مليار دولار خدمة ديون-اكثر من ضعف مساعدات التنمية الرسمية التي تلقتها . معظم البلدان لا تستدين الأموال كي تستثمرها في الانفاق على السكان ، إنما لدفع سندات الدين ، الأمر الذي يدعونا لاعتبار ذلك تمويلا من أجل خدمة الدين وليس تمويلا من أجل التنمية .
ان قراءة أدب الأمم المتحدة والأدب الأكاديمي حول التنمية يثير الامتعاض؛ فالحديث مقيد داخل مصيدة أزمة الدين الدائمة والتي يستحيل أيجاد حل لها. فسواء جرى إبراز قضية الديون او أغفلت فإن وجودها يغلق الطريق أمام احتمالية تحقيق تقدم حقيقي لشعوب العالم.
غالبا ما تنتهي استخلاصات التقرير بدعوة اخلاقية-” ذلك ما يتوجب حدوثه”- ولا يجري التطرق لتقييم الحالة على قاعدة حقائق البنية النيوكولنيالية للاقتصاد العالمي : بلدان نامية لديها موارد غنية لا تستطيع الحصول على أثمان عادلة لصادراتها ، الأمر الذي يعني انها لا تراكم ثروة تكفي للتصنيع، مع مراعاة رفاه شعبها ، ولا تستطيع تمويل المصالح الاجتماعية التي يتطلبها سكانها.
بناء على تشديد الخناق بأنشوطة الديون، ونظرا لغياب نظم التنمية الأكاديمية لا تتوفر توجهات نظرية فعالة وعامة لترشيد اجندات تنموية واقعية وشاملة، وما من خطوط عريضة متوفرة باليد لكسر حلقة الدين الدائم – التقشف، والخلاص منها .
العقبات وكيفية تجاوزها
تري كونتيننتال : مؤسسة أبحاث اجتماعية متحمسة لفتح نقاش بصدد الحاجة لنظرية تنمية اجتماعية جديدة – نظرية مبنية من خبرات المشاريع التي قامت بها حركات الشعوب والحكومات التقدمية. وإذ يشكل جزء من هذه النقاشات قضيتها الأخيرة ، “العالم بحاجة الى نظرية تنموية مجتمعية جديدة” تجري مسحا لمسار نظرية التنمية من عام 1945 حتى الوقت الراهن ، وتقدم بضع تلميحات باتجاه نموذج جديد. وكما لاحظنا في القضية:
” الشروع بالوقائع يتطلب الإقرار بمشاكل الدين وعدم التصنيع؛ الاعتماد على صادرت منتجات اولية؛ حقيقة تبديل التسعيرة وغير ذلك من أدوات توظفها الشركات عابرة القارات كي تعتصر العائدات من الدول المصدرة؛ صعوبات تطبيق استراتيجيات تصنيع جديدة وشاملة والحاجة لبناء قدرات السكان التقنية والعلمية والإدارية في معظم أقطار العالم”.
هذه الوقائع يصعب التغلب عليها من قبل الحكومات في الجنوب العالمي ، على الرغم من ان الفرص باتت متوفرة لهذه الحكومات في الزمن الراهن أكثر مما في العقود السابقة –مع بزوغ مؤسسات جنوب – جنوب ومبادرات الصين على المسرح العالمي –؛ لم تعد حكومات الجنوب تعتمد على مؤسسات تجارية ومالية تخضع للغرب؛ هذه الوقائع الجديدة تتطلب صياغة نظريات تنموية جديدة ، وتقييمات جديدة للإمكانات تنجاوز واقع اليأس الاجتماعي وتطرح سبل الخروج منه. بكلمات ما أعيد وضعه على الطاولة هو ضرورة التخطيط الوطني والتعاون الإقليمي ، الى جانب الكفاح من أجل إنتاج أفضل.
في نقاش جرى مؤخرا في برلين مع شركائنا بمركز الأبحاث الأممي (دي دي آر) توصلنا الى يقين بأن القضية( التتنمية المستدامة) قد فشلت في الاشتباك مع أبحاث ومناقشات جرت في الاتحاد السوفييتي والمانيا الديمقراطية ويوغوسلافيا والحركة الشيوعية الأممية الأوسع.
في وقت مبكر يعود الى موعد انعقاد المؤتمر الثاني في موسكو عام 1920 للأممية الشيوعية شرع الشيوعيون في صياعة نظرية ” التنمية اللارأسمالية” لمجتمعات خضعت للاستعمار الكولنيالي وتم دمجها في الاقتصاد الراسمالي العالمي ، بينما كانت لم تزل تحتفظ بأشكال إنتاج وعلاقات بطركية اجتماعية ما قبل رأسمالية .
يفيد الفهم العام للتنمية اللاراسمالية ان بمقدور مجتمعات ما بعد الكولنيالية التغلب على الرأسمالية والتقدم عبر سيرورة وطنية – ديمقراطية باتجاه الاشتراكية. نظرية التنمية اللاراسمالية ، التي طورتها المؤتمرات الأممية للأحزاب الشيوعية والعمالية وتعرضت لشروحات العلماء السوفييت من أمثال روزتيسلاف أوليانوفسكي وسيرجي تيولبانوف في صحف مثل وورلد ماركسيست ريفيو ، تمكزت على تحولات ثلاث :

  • إصلاح زراعي يرفع حياة المزارعين من ظروف الحرمان وكسر قوة ونفوذ كبار الملاك.
    -تأميم القطاعات الاقتصادية الأساس ، مثل الصناعة والتجارة للحد من سلطة وقوة
    الاحتكارات الأجنبية .
    -دمقرطة الهياكل السياسية والتعليم والرعاية الصحية من شانها ان ترسي الأسس السياسية –
    الاجتماعيىة للاشتراكية..
    بخلاف سياسة التصنيع لاستبدال الاستيراد التي طرحتها اللجنة الاقتصادية لاميركا اللاتينية التابعة للأمم المتحدة لبلدان أميركا اللاتينية يحظى مفهوم التنمية اللارأسمالية بتفهم اكثر حزما لضرورة دمقرطة المجتمع بدلا من مجرد الالتفاف على شروط التجارة.
    تُبرز سلسلة “صداقة” مركز الأبحاث الأممي (دي دي آر ) ملامح مؤسسات مثل اللجنة الاقتصادية التابعة للمم المتحدة الخاصة بأميركا اللاتينية، سردية قوية للتطبيق السياسي لنظرية التنمية اللارأسمالية في مالي خلال عقد الستينات في مقالة كتبها ماثيو ريد. ولسوف يشتغل كلا المؤسستين: (مركزالأبحاث الأممي -دي دي آر) و (تري كونتيننتال :مؤسسة الأبحاث الاجتماعية ) على دراسة شاملة لنظرية التنمية اللارأسمالية.
    قبل الكولنيالية شرع العلماء الأفارقة والعرب في غرب إفريقيا استنباط عناصر نظرية للتنمية .
    مثال ذلك عثمان بن محمد بن عثمان بن فوديو (1754- 1817) شيخ الفولاتي اسس خلافة سوكوتو(1804 – 1817) كتب “أصول العدل لولاة الأمة وأهل الفضل والسلاطين” ليرشد نفسه مع أتباعه في درب يرفع من شان شعبه .
    نص الرسالة ممتع للمبادئ التي عددَتها، لكن –في ضوء مستوى الإنتاج في ذلك الزمن- استند الخليفة الى نظام إنتاجية تقنية متخلفة وعمل أرقاء. قبل أن تنتزع شعوب غرب إفريقيا السلطة من الخلافة والمضي في طريق التقدم تم اغتيال آخر خليفة على أيدي البريطانيين ، الذين –مع الألمان والفرنسيين – استولوا على البلاد واخضعوا تاريخها لتاريخ أوروبا.
    انقضت خمسة عقود قاد موديبو كيتا ، مكافح شيوعي ، حركة استقلال مالي ، ساعيا لإعادة إخضاع البلاد لمشروع التنمية اللارأسمالية. لم يرسم كيتا خطا مباشرا نحو ابن فوديو – الذي امكن رؤية نفوذه عبر إفريقيا الغربية –لكننا ربما نتخيل المسارت المخفية ، والاستمرارية البارزة بين تلك الأفكار القديمة ( على الرغم من تشبعها بالسلالات الاجتماعية المتخلفة في زمنها) وبين الأفكار الجديدة التي طرحتها الأممية الثالثة.
    (يقدم التخطيط الفني لهذه المقالة واجب الاحترام للأشواق التنموية لقوميات وشعوب العالم الثالث، والى حد كبير ما بين خمسينات القرن الماضي وسبعيناته، وكل مشروع يمثل رؤية للمستقبل مبنية من انقاض قرون اللصوصية الكولنيالية ومراوحة التنمية في المكان بصورة منهجية.
    في كل كلية جمعنا صورا فوتوغرافية تاريخية ، عليها غطاء من خطوط متشابكة في مربعات – نمط من الكانافاه الهندسية، يمكن ان تشاد عليها هياكل جديدة لما يمكن تخيله مشروعا للتحرر الوطتي غير مكتمل).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى