أخبارتعاليقرأي

من الأولى بمحبّتنا؟

رشيد مصباح (فوزي)

تُوفّيّتْ والدتي، وتركتني أصارع الجفاء والحاجة وحيدا. ثم بعدها بخمسة أعوام، تُوفّيَ والدي فشعرتُ ببرودة تغمر كتفيّ. ومن يومها، لم أشعر بدفء الحنان إلّـا مع أختي.

هدية الله من السّماء؛ الوحيدة التي رزقنيها الله، وكنتُ حينها طفلا وحيدا لا أخ لك، ولا أنيس مؤنس ولا صديق. بينما للآخرين إخوة كثر، يلهون معهم ويلعبون.

وأذكرُ أنّني رجوتُ والدتي قبلها أن تنجب لي طفلة أحملها فوق ظهري وأركض بها: ”وكأنّ الأمر بيدها المسكينة“. ولكن الله استجاب لدعوتي، ورُزِقتْ والدتي بنتا أنارت بيتنا الصّغير.

لم انتظر كثيرا حتى تكبر، وترجّيتُ والدتي مرّة أخرى أن تضعها فوق ظهري، كما وعدتْ: ”نعم الجمل كنتُ لها“. ونزولا لدى رغبتي، وضعتْ والدتي أختي فوق ظهري وربطتها إليّ ببشكير مخافة أن تقع، ورحتُ أركض بها من شدّة الفرح.

اليوم؛ الطفلة الصغيرة صارت جدّة؛ ولا أقول ”عجوزا“ لأن ذلك قد يغضبها. فالأنثى عموما تخاف من الشيخوخة وتكره الموت، ولها كل الحق في ذلك. لم تنسَ الجدّة أخاها الوحيد، برغم المرض والألم، وبعض الحاقدين الحاسدين لنعم الله؛ لقد كانت ولاتزال هذه الأختُ نبراسا ينير دربي، فحين أكون بين يديها أشعر كأنّني طفلٌ، برغم فارق السن الذي بيننا.

ولكن، محبّة لوجه الله هي الأحق. و”ما كان لله دام واتّصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل“. هذا ما قاله الصّالحون قديما. فقد تظهر لك زوجتك محبّة لكن، بمجرّد التقصير في واجب من واجباتك تجاهها، تتنكّر . وكذلك الأبناء.

أكثر ما أعجبني بشأن المحبّة والوفاء، قول الرّسول الكريم لعائشة؛ الصدّيقة بنت الصدّيق التي نزلت في شأنها سورة كاملة تبرّؤها وتظهر براءتها ـ رضي الله عنها وعن أبيها ـ حين غارت على حبيبها (محمّد) ـ ويحقّ لها أن تغار ـ من (خديجة) بنت خويلد التي ما فتئ يذكرها رسول الله بشيء من الحسرة والألم على فراقها، ما ورد في صحيح مسلم والبخاري:

  • (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ).

محبّة الله أولى، تعلّمتُ ذلك من تجارب الحياة، وليس من مجرّد كلام؛ يذهب مع الرّيح ويميل حيث تميل. وحين تضيق الأمور وتتعقّد، أتذكّر أن الله استجاب ذات مرّة للعبد الفقير ورزقني طفلة رحتُ أحملها فوق ظهري وأركض بها؛ استجاب لي وللوالدة المسكينة بعد ما يزيد عن ستّة أعوام عجاف لم تحمل فيهم، ولم تترك عقارا ولا دواء نصحوها به، إلّـا وجرّبته.

لذلك يجبّ أن تكون محبّة الله فوق كل محبّة، لأن الرّحمان أولى بالشّكر والعرفان، أنظر إليه كيف يصبر علينا ونحن نعصيه وهو القادر من فوقنا!

﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾. [ النحل: 61]

ومحبّة رسوله؛ الرّحمة المهداة، طاعة من الطّاعات. ومع ذلك حين وافته المنيّة، وبلغ بعمر مبلغا وأنه شهر سيفه في وجه الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعا ـ لأنّهم قالوا إن رسول الله قد مات. وخرج (أبو بكر) على الناس يخبرهم بالحقيقة، ولم يمنعه حبّه ووفاؤه من التسليم بأمر الله. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري:

(أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه أقْبَلَ علَى فَرَسٍ مِن مَسْكَنِهِ بالسُّنْحِ، حتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمُ النَّاسَ حتَّى دَخَلَ علَى عَائِشَةَ، فَتَيَمَّمَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُغَشًّى بثَوْبِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عن وجْهِهِ ثُمَّ أكَبَّ عليه فَقَبَّلَهُ وبَكَى، ثُمَّ قالَ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، واللَّهِ لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أمَّا المَوْتَةُ الَّتي كُتِبَتْ عَلَيْكَ، فقَدْ مُتَّهَا. قالَ الزُّهْرِيُّ: وحدَّثَني أبو سَلَمَةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ، أنَّ أبَا بَكْرٍ خَرَجَ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقالَ: اجْلِسْ يا عُمَرُ، فأبَى عُمَرُ أنْ يَجْلِسَ، فأقْبَلَ النَّاسُ إلَيْهِ، وتَرَكُوا عُمَرَ، فَقالَ أبو بَكْرٍ: أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ: {وَما مُحَمَّدٌ إلَّا رَسولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قَوْلِهِ {الشَّاكِرِينَ}، وقالَ: واللَّهِ لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ هذِه الآيَةَ حتَّى تَلَاهَا أبو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَما أسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إلَّا يَتْلُوهَا فأخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ، أنَّ عُمَرَ قالَ: واللَّهِ ما هو إلَّا أنْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ، حتَّى ما تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وحتَّى أهْوَيْتُ إلى الأرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَات).

وفي الأخير إن الله هو من يؤلّف بين القوب والأخوّة في الدّين هي الأصل لأن الدين هو العروة الوثقى التي يجب أن نتمسّك بها، وأمّا غيره فهو معرّض لأمور الدنيا الفانية. وفي هذا يقول الله عزّ وجل:

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ربّنا اصلح لنا ما بيننا وبينك، وأصلح لنا ما بيننا وبين خلقك.

(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى