معركة النفط الأمريكية .. إلى أين
عمرو عبد العاطي
تحتل مصادر الطاقة عامة، والنفط خاصة؛ أهمية متعاظمة لدى المجتمعات الصناعية الكبرى، ليس لكونها شريان الحياة الاقتصادية فحسب، ولكن لأهميتها في تحديد قوة الدولة ووضعها العالمي، لا سيما مع وجود خلل بين هيكل وبنية النظام الدولي وتوزيع مصادر الطاقة. فالدول الكبرى المهيمنة في النظام الدولي -باستثناء روسيا- تُعاني من نقص في مصادر الطاقة الاستراتيجية (النفط والغاز الطبيعي)؛ مما يجعلها تعتمد على الخارج للإيفاء بمتطلبات الاستهلاك المحلي.
ولأهمية توافر مصادر الطاقة الكافية والآمنة بالدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بما لا يؤثر على وضعها الاقتصادي، ومكانتها الدولية، في ظل تنافس القوى الصاعدة، وفي مقدمتها الصين والهند، فضلا عن الدول الصناعية الكبرى الأخرى، للسيطرة على مصادر الطاقة التي تتسم بالندرة مع تزايد الاستهلاك العالمي – احتلت قضية “أمن الطاقة” للدول الصناعية الكبرى أهمية متعاظمة مع مرور الوقت.
وفي ظل استمرار الاعتماد الأمريكي على الخارج لتوفير احتياجاتها من مصادر الطاقة، يتزايد تأثير أمن الطاقة على السياسة الخارجية الأمريكية. فكلما زاد اعتماد الدولة على الخارج في تلبية احتياجاتها من الطاقة، زاد سعيها لتسخير سياساتها الخارجية واستخدام كافة الأدوات وتنويع مجالات التحرك في سياساتها الخارجية بما يضمن تحقيق أمن الطاقة بها، حتى لو تطلب الأمر تغيير بعض المبادئ الأساسية في سياستها الخارجية، وتطويعها بما يخدم هذا الهدف.
وفي هذا السياق، يأتي كتاب الباحث المشارك في المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية ومجلة السياسة الدولية “عمرو عبد العاطي” تحت عنوان “أمن الطاقة في السياسة الخارجية الأمريكية”. ويسعى الكتاب خلال فصوله الثلاثة لدراسة تأثير الحاجة الأمريكية المتزايدة إلى تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة التقليدية بصورة كافية وآمنة لمواكبة نموّها الاقتصادي الذي يُعدّ أحد مصادر قوّتها عالميًّا في السياسة الخارجية الأمريكية، وحدود هذا التأثير خلال إدارتَيْ الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن والفترة الأولى للرئيس باراك أوباما، مع التركيز على منطقة بحر قزوين كدراسة حالة لتوضيح مدى تأثير أمن الطاقة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إحدى مناطق الإنتاج الواعدة التي قال عنها نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني في عام 1998 عندما كان رئيسًا لشركة هاليبرتون: “إنّ منطقة بحر قزوين منطقة نفطية واعدة تنمو بسرعة كبيرة للتحوّل إلى منطقة استراتيجية لها أهمية كبرى للولايات المتحدة وللغرب بصفة عامة؛ لأنّ الغاز والنفط فيها لا يخضعان لسيطرة منظمة “أوبك”.
“أمن الطاقة” المفهوم والإشكاليات:
ركز الكتاب على مفهوم “أمن الطاقة” باعتباره المفهوم المركزي الذي ينطلق منه لمعرفة تأثير حاجة الولايات المتحدة من الطاقة على سياساتها الخارجية، فيشير إلى أن المفهوم أضحى مصطلحًا واسعًا متعدد الأبعاد، وينطوي على جملة من الدلالات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، لا سيما مع توقع كثير من التقارير والدراسات الاستشرافية أن الصراع الدولي خلال العقود القادمة سيكون محوره الطاقة لصعود قوى ناشئة على الساحة الدولية يكمن مصدر قوتها في نموها الاقتصادي الذي يحتاج إلى مصادر الطاقة لاستمرار هذا النمو، وتعزيز المكانة الدولية.
ويُشير عبد العاطي إلى أن المفهوم انتابته مجموعة من التطورات والتغييرات مواكبة للتطورات الدولية والتغييرات في وجهتي نظر الدول المستهلكة والمنتجة للطاقة للمفهوم. فقد كان المفهوم في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم معنيًّا فقط بضمان أمن إمدادات الطاقة من النفط، لا سيما بعد أزمتي 1973 و1979. فقد كان هذا المفهوم ذا نظرة ضيقة تركز على إمدادات الطاقة. ولكنه أضحى مع نهاية العقد الأخير من القرن المنصرم، ومع التطورات والتهديدات، مفهومًا ذا معنى أكثر شمولا لمصادر الطاقة المختلفة والتهديدات التي تعرقل إمداداتها، مثل: العمليات الإرهابية التي أصبحت إحدى المهددات لأمن الطاقة العالمي وللدول المستهلكة والمنتجة على حد سواء، وكذا البنى التحتية الخاصة بمصادر الطاقة وإمداداتها، وتنظيم سوق الطاقة العالمي، وتوفير الطاقة بأسعار معقولة ومناسبة.
بيد أن تركيز الجزء الأكبر لمفهوم “أمن الطاقة” في المخاوف بشأن إنتاج النفط والغاز الطبيعي والكمية المعروضة منهما في سوق الطاقة العالمي على الأبعاد الخارجية لسياسة الطاقة؛ لا يعني اختزال المفهوم في أمن إمدادات النفط والغاز الطبيعي؛ لأن استخدام مصادر الطاقة المتجددة لا يقل أهمية في تعزيز أمن الطاقة للدول، ويُثير هواجس تتعلق بالمفهوم أيضًا. وعلى الرغم من ذلك فإن أهمية موارد النفط والغاز الطبيعي بالنسبة للاقتصاد العالمي تجعل هاتين السلعتين المصدر الرئيسي للمنافسات والتوترات والأزمات السياسية، وحتى الصراعات المرتبطة بالطاقة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
أمن الطاقة والسياسة الخارجية الأمريكية بين “بوش” و”أوباما”
وعن رؤية إدارَتَيْ الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” و”باراك أوباما” لأمن الطاقة الأمريكية، أشار الكاتب إلى أن الإدارتين رأتا أن الافتقار إلى تبني خيارات متعددة ومختلفة لتحقيق أمن الطاقة الأمريكي سيجعلها خاضعة لشروط وإملاءات حكومات الدول ذات الثقل في إنتاج واحتياطيي الطاقة التي تعارض المصالح الأمريكية. ولذا تبنت إدارتا الرئيسين الأمريكيين “جورج دبليو بوش” و”باراك أوباما” هدف تحقيق أمن الطاقة الأمريكية اعتمادًا على شقين، الأول داخلي: يركز على الاستثمار في الطاقة البديلة المتجددة، والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي أمريكيًّا. والثاني خارجي: يركز على تقليل الاعتماد على الطاقة المستوردة خارجيًّا عامة ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، وتنويع مصادر الطاقة الأمريكية، وتأمين مصادر الطاقة الخارجية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة وطرق إمداداتها. لكن التطورات التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتولي مسئولين ذوي صلات قوية بكبرى شركات الطاقة الأمريكية بإدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش”؛ دفع الإدارة إلى إعطاء أهمية للبُعد الخارجي في أمن الطاقة الأمريكي. الأمر الذي يُظهر تأثير أمن الطاقة على السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترتَيْ الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش”.
ويتحدث الكتاب عن استغلال إدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما تبعها للدمج بين هدفي الحرب على الإرهاب وتحقيق أمن الطاقة الأمريكي؛ فكان كثير من التحركات الأمريكية لمحاربة التنظيمات الإرهابية تحمل في طياتها هدف الحفاظ على الإمدادات الخارجية من الطاقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فأصبح من الصعوبة بمكان التفريق بين التحركات الأمريكية لمحاربة الإرهاب وهدف تحقيق أمن الطاقة الأمريكية خارجيًّا. فالحرب الأمريكية على أفغانستان (أكتوبر 2001) لم تكن تستهدف فقط القضاء على حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ولكن لتدعيم الوجود العسكري الأمريكي في منطقة حيوية في مجال نقل الطاقة من القارة الآسيوية إلى السوق العالمية. فضلا عن أن الحرب الأمريكية على العراق (مارس 2003) كانت تهدف -وإن لم تعلن إدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” صراحة- إلى ضمان السيطرة الأمريكية على نفط العراق ومنطقة الخليج العربي، وتحكم السيطرة الأمريكية في احتياطياته.
وبجانب استخدام إدارة “بوش” الابن للقوة العسكرية كإحدى أدوات السياسة الخارجية الأمريكية لضمان أمن الدول المنتجة للطاقة، وكذا المنشآت وإمدادات الطاقة إلى السوق العالمي عامة، وإلى الأسواق الأمريكية خاصة؛ فإنها تبنت سياسة خارجية نشطة هدفت بصورة رئيسية إلى التوجه نحو مناطق جديدة ذات وفرة في مصادر الطاقة كبديل عن المناطق التقليدية كمنطقة الخليج العربي التي كانت تعتمد عليها الولايات المتحدة، لكثرة المشاكل التي تواجه تلك المنطقة، وارتفاع تكلفة الاعتماد الأمريكي على الطاقة المستخرجة من تلك المنطقة. ولذا توجهت الولايات المتحدة إلى الدول الإفريقية ذات الوفرة من الاحتياطيات النفطية، وكذا إلى منطقة بحر قزوين. وقامت أيضًا بتقديم المساعدات والمعونات الاقتصادية للدول المنتجة للطاقة، مع نشاط دبلوماسي لحل النزاعات والصراعات بالدول المنتجة للطاقة، والتي من شأنها تهديد إنتاج تلك الدول من الطاقة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة والدول المستهلكة للطاقة بصورة رئيسية.
ولكن الكاتب يرى أنه مع تولي الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، غاب تأثيرُ أمن الطاقة على السياسة الخارجية الأمريكية لأربعة أسباب مقارنة بفترتي الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج دبليو بوش”، وهذه الأسباب
الأربعة على النحو التالي:
السبب الأول: معارضة الرئيس الأمريكي “أوباما” لسياسات إدارة الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش” الخارجية، ومعارضته التدخلات العسكرية خارجيًّا، خاصةً الحرب الأمريكية على العراق، والتي تعتبرها “حربًا اختيارية” وليست “حرب ضرورة” كان على الولايات المتحدة الأمريكية خوضها، وأنه كان لها تأثير كبير على الوضع الاقتصادي والمالي الأمريكي؛ ولذا دعا إلى سحب القوات الأمريكية المقاتلة خارجيًّا من العراق وأفغانستان منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض.
السبب الثاني: أنه خلال فترة “باراك أوباما” الأولى (2008 – 2012) لم يحدث أن تعرضت مصادر وإمدادات الطاقة الأمريكية الخارجية لأي تهديد يفرض على الإدارة الأمريكية التدخل لحماية تلك الإمدادات في حال تهديدها أمن الطاقة الأمريكي.
السبب الثالث: تركيز إدارة “باراك أوباما” على الشق الداخلي لأمن الطاقة الأمريكي. فقد ركزت إدارته على زيادة الاستثمارات في الطاقة المتجددة، والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي داخل الأراضي والسواحل الأمريكية. وفي حقيقة الأمر، فقد حققت إدارته نجاحات في هذا الشأن، ليتراجع تأثير أمن الطاقة على السياسة الخارجية الأمريكية، مع تقليل الاعتماد الأمريكي على الطاقة المستوردة خارجيًّا لتزايد إنتاج واحتياطيات الولايات المتحدة من الغاز والنفط الصخريين خلال العقود القادمة، حسب توقعات تقرير آفاق الطاقة حتى عام 2030.
السبب الرابع: اعتماد إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” في تحقيق أمن الطاقة الأمريكية خارجيًّا على تحركات سلفه “بوش” الابن، حيث لم يَسْعَ “أوباما” إلى زيادتها، ولكن إدارته استفادت من تحركات إدارة “بوش” الخارجية خلال فترتيها لتحقيق أمن الطاقة الأمريكي.
هل نفط بحر قزوين بديل عن نفط الخليج العربي؟
يرى الكاتب أنه مع التوجه الأمريكي إلى منطقة بحر قزوين ثار تساؤل داخل الأوساط الأمريكية والعربية، مفاده: إلى أي مدى يُمكن أن تحلَّ منطقة بحر قزوين محلَّ منطقة الخليج العربي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في تلبية احتياجاتها من الطاقة؟.
وفي إطار دراسة توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة بحر قزوين، خَلُصَ الكاتب إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة بحر قزوين تأتي في إطار الاهتمام الأمريكي بتنويع إمدادات الولايات المتحدة من الطاقة، ولكنه لم يكن الهدف الوحيد؛ حيث كانت تسعى لاحتواء روسيا وإيران، وإضعاف الهيمنة والسيطرة الروسية على هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز الطبيعي، والتي كانت جزءًا منها لمدة طويلة. وأن فرضية أن تحل منطقة بحر قزوين -التي تحدث عنها عدد من المسئولين الأمريكيين خلال فترة بوش الابن على أنها خليجٌ ثانٍ- محل منطقة الخليج العربي بالنسبة للولايات المتحدة فرضية غير صحيحة، ويصعب تحقيقها، للعديد من الأسباب التي يأتي في مقدمتها: استقرار الوضع القانوني بمنطقة الخليج قياسًا بمنطقة حوض بحر قزوين، وسهولة نقل الإنتاج الخليجي من مصادر الطاقة (الإنتاج) إلى السوق الدولية قياسًا بمنطقة بحر قزوين المغلقة، وارتفاع تكلفة استخراج النفط من منطقة بحر قزوين مقارنةً بتكلفة استخراجه من منطقة الخليج العربي، وتعدد الجهود التي تبذلها الدول الخليجية لتحسين وضعها الاستراتيجي في أسواق الطاقة العالمية؛ حيث تسعى الدول الخليجية جاهدة إلى تحسين الأجواء الاستثمارية بمجال الطاقة، وفتح بعض قطاعاته أمام الاستثمارات الخارجية.
ورغم تفاوت التقديرات بشأن احتياطيات الطاقة بمنطقة بحر قزوين تفاوتًا كبيرًا لاختلاف المصادر المقدرة؛ فإن الكثير من تلك الأرقام توضح صعوبة توقع وجود منافسة بين المنطقتين في سوق الطاقة العالمي. وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تهتم الاهتمام الكافي بزيادة الإنتاج من منطقة بحر قزوين كوسيلة لتقليل تواجدها الأمني المكلف في منطقة الخليج، وأن أي التزامات أمنية في منطقة بحر قزوين للحصول على النفط منها للأسواق العالمية ستكون بمثابة إضافة وليس بديلا عن التزاماتها حيال دول الخليج العربي التي تُمثل ثقلا هامًّا جدًّا في سوق الطاقة العالمي، رغم المحاولات السياسية وفي أحيان أخرى الاقتصادية المطالبة بتحييد هذا الثقل.
ولذا، ستكون منطقة الخليج العربي المورد الرئيسي للنفط إلى الولايات المتحدة والسوق العالمية طوال عقود القرن الحالي على مستويي الإنتاج والاحتياطي العالمي، وأن أمن الطاقة الأمريكي بات أكثر ارتباطًا بمنطقة الخليج وليس بعيدًا عنها كما كان يتوقع البعض داخل وخارج الولايات المتحدة. ولذا فإن الحديثَ عن خليج عربي آخر في منطقة بحر قزوين ليس إلا فرضية غير صحيحة.
النفط الصخري واستقلالية الطاقة الأمريكية
مع التوقعات بزيادة احتياطيات وإنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري، بدأ يتصاعد الحديث داخل الولايات المتحدة الأمريكية عن أن يكون النفط الصخري بديلا للنفط التقليدي المستورد خارجيًّا. وانصبَّ جُل الاهتمام الأمريكي على إمكانية تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية استقلالية الطاقة الأمريكية، ومن ثم تحرير سياساتها في الشرق الأوسط من ابتزاز الدول النفطية، ما يعني إنهاء الحاجة إلى توفير غطاء أمني لهذه الدول، والحماية لناقلات النفط أثناء مرورها بمضيق هرمز، وكذا الوجود الأمريكي بمنطقة الخليج العربي، حيث يُجمع عدد ليس بقليل من الخبراء في مجال الطاقة أن اكتشافات الغاز والنفط الصخريين داخل الولايات المتحدة الأمريكية ستغير الوضع السائد حاليًّا في سوق الطاقة العالمي؛ لتوجه المستثمرين الباحثين عن الربح في مجال الطاقة إلى قطاع النفط والغاز الطبيعي في أمريكا الشمالية، ما ستكون له تأثيرات عالمية.
وأشار الكاتب في هذا السياق إلى أن التفاؤل “المفرط” داخل الولايات المتحدة الأمريكية بشأن إمكانية تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية استقلالية في أمن الطاقة الخاص بها، وتقليل “الإدمان” الأمريكي على النفط الخليجي، ووقف وارداتها النفطية من الخارج ومن منطقة الخليج العربي على وجه الخصوص – دفع العديد من الكتاب والباحثين إلى توقع أن السياسة الأمريكية الشرق أوسطية ستتحرر من عبء كبير، ومن غض الطرف الأمريكي عن سياسات دول وأنظمة سلطوية وديكتاتورية بالمنطقة في مقابل النفط الذي يخدم المصلحة والأمن القومي الأمريكيين.
لكنه أشار إلى أن هناك رأيًا داخل الولايات المتحدة يُقلل من تأثير الثروة الأمريكية من الوقود الصخري على مكانة الخليج العربي، وصعوبة تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية استقلالية أمن الطاقة الخاص بها عن منطقة الخليج العربي، حيث ستبقى الولايات المتحدة دولة مستوردة للنفط الخام، حيث لن يتمكن الإنتاج الأمريكي من تغطية الاحتياجات المتزايدة من الطاقة، مما يدفعها للاستيراد من الخارج لتغطية الفجوة بين الإنتاج المحلي والاحتياجات الأمريكية.
ويَخْلُصُ الكاتب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع تقليل اعتمادها على نفط منطقة الخليج العربي، وذلك باستنزاف احتياطياتها النفطية بسرعة، ولكنها كدولة كبرى تتبنى المحافظة على احتياطي وافٍ للمستقبل، خاصة أن تكلفة إنتاج النفط الأجنبي أقل، فضلا عن أن احتياطيات النفط الخليجي أكثر بكثير مما تتوافر لدى بلدان أخرى قد تعتمد عليها الولايات المتحدة كبديل عن النفط الخليجي، لا سيما في وقت الأزمات، لكون الدول الخليجية لديها طاقة إنتاجية لا تتوافر لدى الدول النفطية الأخرى التي تنتج بأقصى طاقتها كلما كان ذلك ممكنًا من أجل جني أي أرباح ممكنة.
معركة النفط الكبرى!
17/12/2014
د. عبد المنعم سعيد
رئيس مجلس الإدارة ومدير المركز الإقليمى للدراسات الإستراتيجية
كانت الحرب العالمية الثانية علامة فارقة في التاريخ المعاصر لأسباب كثيرة؛ ربما شاع منها أن العالم تحول من متعدد الأقطاب إلى القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي نتج عنها الحرب الباردة التي تحكمت في الدنيا لعقود تالية. ولكن النظام الدولي لم يكن وحده الذي تغير، وإنما أمور كثيرة ربما كان أهمها أن الاستخدام الواسع للمركبات بأنواعها المختلفة من سيارات إلى مدرعات إلى طائرات إلى سفن حربية، كلها اعتمدت على النفط في تحركاتها حتى أصبح حرمان ألمانيا منه أحد أسباب خسارتها للحرب. وهكذا لم يعد النفط سلعة عادية وإنما استراتيجية بالمعني الشامل للكلمة، خاصة بعد أن تغيرت حياة البشر في الصناعة والزراعة والحرب والسلام معتمدة على النفط في حركتها وتقدمها ورقيها.
حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 شكلت علامة فارقة أخرى في تأثير النفط على النظام الدولي والحياة الإنسانية، ومن وقتها باتت العلاقة بين المنتجين والمستهلكين، وبين قوى السوق والتطورات التكنولوجية، علاقة متوترة؛ فالغرب في عمومه تعود على النفط الرخيص طوال العقود الـ3 التي تلت الحرب العالمية، وكان انخفاض أسعاره معتمدا على الشركات المحتكرة لإنتاجه من ناحية، ولأن الدول المنتجة احتاجت وقتا بعد الاستقلال لكي تمسك بزمام أمورها. وهكذا بدأت العلاقة في التغير، فارتفعت أسعار النفط أضعاف ما كانت عليه خلال السبعينات من القرن الماضي، فظهرت قوة «الأوبك»، وفي قلبها الدول العربية ذات الاحتياطيات النفطية الكبيرة خاصة المملكة العربية السعودية.
وبالطبع فإن هذا المقال ليس مخصصا لتاريخ النفط وما طرأ عليه من تطورات، وإنما لفت النظر إلى أنه خلال العام الحالي 2014 ربما كانت أكبر أحداثه متعلقة بالبترول. صحيح أن ما جرى في أوكرانيا خلال العام خلق نقطة فارقة في العلاقات الروسية الغربية حتى إن شبح حرب باردة جديدة أخذ في الظهور. كذلك فإن توابع زلزال «الربيع العربي» بما نتج عنه من دول فاشلة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا خلقت حالة دافعة إلى حرب عالمية ثالثة بين العالم من ناحية وإمارة «داعش» الإرهابية التي أخذت أشكالا شتى بين المغرب وباكستان حتى ظهرت 3 أنواع من «الخلافة»: واحدة لتنظيم داعش بين سوريا والعراق، والأخرى لتنظيم القاعدة بين أفغانستان والهند، والثالثة – حتى الآن – لتنظيم بوكو حرام في نيجيريا.
ومع ذلك ربما كانت قصة النفط في عامنا هذا لا تقل أهمية عن كل ما سبق، فقد بدأ العام وهناك حالة أميركية من الاحتفال بأن الولايات المتحدة أخيرا حققت نوعا من الاكتفاء الذاتي في النفط نتيجة التقدم التكنولوجي في استخراج النفط الصخري. الاحتفال أخذ أشكالا كثيرة، كان منها أنه بات ممكنا التخلص من «الهيمنة» العربية على السوق النفطية بعد أن صارت النبوءة أن الولايات المتحدة أصبحت قادرة على تصدير النفط لحلفائها. ولكن ذلك كان الخبر الأول في القصة التي امتدت تفاصيلها لكي تبشر بالاستقلال عن روسيا في تصدير الغاز لأوروبا. ولكن الخبر الثاني جاء مع منتصف العام عندما بدأت أسعار النفط في الانخفاض السريع وفي شكل «تسونامي» أخذها من 110 دولارات للبرميل إلى ما بين 65 و70 دولارا للبرميل. كان ذلك يفرض احتفالا غربيا آخر، فمن ناحية أصبحت الأسعار داعمة للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية.. ومن ناحية أخرى فإن انخفاض الأسعار سوف يسبب حرجا اقتصاديا كبيرا لروسيا وإيران وفنزويلا، وكلهم خصوم بشكل أو آخر للغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة. ولكن الخبر الثالث كان أن الفرحة ربما تكون متسرعة لأن هذا الانخفاض السريع في الأسعار جعل النفط الصخري مكلفا للغاية؛ لأن ثمن البرميل يبلغ 70 دولارا، ومن ثم فإن الأسعار الحالية سوف تسبب خسارة فادحة لشركات النفط الأميركية التي تخصصت في هذا النوع من إنتاج البترول.
الموقف العربي من هذه التطورات لا يدعو إلى الانزعاج، فمن ناحية فإن الدول العربية الرئيسية المنتجة للنفط لديها احتياطيات كبيرة، ومن ثم فإنها سوف تكون قادرة، وبأسعار تنافسية، على أن تلبي حاجات السوق العالمية المتنامية مع الانتعاش الاقتصادي مع تعويض الخسارة في السعر بزيادة الإنتاج. هذه الدول أيضا حتى لو قررت البقاء عند مستويات الإنتاج الحالية فإن لديها من الاحتياطيات النقدية ما يكفي، ولدى بعضها من التنوع الاقتصادي ما يكفي أيضا للتعامل مع الظروف الجديدة في السوق العالمية. الحرج هنا لن يكون للدول العربية، ربما باستثناء الجزائر، وإنما للدول غير العربية المنتجة للنفط، ولكنها تعتمد عليه بشكل رئيسي بوصفه مصدرا للعملات الدولية. كذلك فإن الحرج سوف يكون شديدا بالنسبة لصناعة النفط الصخري الأميركية التي هبطت أسعار أسهمها خلال الأسابيع الأخيرة.
إلى أين يتجه كل ذلك خلال المرحلة المقبلة أو حتى خلال العام المقبل سريعا 2015؟ لا يمكن تحديد ذلك بدقة. ولكن هناك أولا قدرة شركات النفط الصخري على المنافسة من خلال تكنولوجيات جديدة تجعل استخراجه أقل تكلفة. وفي الكتابات الغربية هناك حديث بالفعل عن تكنولوجيات تجعل تكلفة البرميل 57 دولارا، ولكن كم يتكلف من الوقت والمال إحلال التكنولوجيات الجديدة محل التكنولوجيات الأقدم منها التي كانت حديثة حتى فترة قريبة؟ وهناك ثانيا معدلات النمو العالمية، المدى الذي يمكن أن تصل إليه من ارتفاع خاصة في أسواق عطشى للنفط الرخيص نسبيا في الصين والهند وغيرهما من دول الكثافة السكانية الكبيرة. وهناك ثالثا مدى تأثير انخفاض الأسعار على روسيا وإيران، وكلتاهما متورطة في أكثر من معركة وتناقض مع الغرب من أول السلاح النووي، وحتى الخلاف حول سوريا ولبنان والعراق وفلسطين. ولم يعد سرا على أحد أن انخفاض أسعار النفط الحاد خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي كان واحدا من الأسباب التي عجلت بانهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان، مثلما الحال مع روسيا اليوم، معتمدا تماما على النفط. فهل يختلف الأمر هذه المرة، وبدلا من التراجع الاقتصادي، والانهيار السياسي، تستطيع طهران وموسكو نزع فتيل هذه التناقضات؟
معركة النفط الكبرى هكذا هي في جوهرها حول النصيب من السوق العالمية للنفط، وحول مدى القدرة على التعامل مع تراجعات وقتية حتى يستقر النظام الاقتصادي العالمي عند نقطة توازن جديدة تستوعب نتائج التكنولوجيا وارتفاع الإنتاج في الوقت نفسه عند سعر عادل للجميع. ولكن الوصول إلى هذه النقطة ليس بسهولة الحديث عنها، ولكن التجربة التي تعلمناها خلال العقود الماضية أن قوى السوق كانت دائما لها عنفوانها الذي يفرض نفسه في النهاية على الجميع: المنتجين والمستهلكين.