معاني الحج وأسراره

هفال عارف برواري
مهندس وكاتب وباحث

لا شك أن الحج من أركان الإسلام، وهو دعامة من دعامات الإيمان، من أداه فاهماً حق الربوبية، عارفاً مقام العبودية، وأخلص لله النية، فأقبل عليه تائباً من ذنبه، شاكرا لأنعمه، وجلاً من خشيته، طامعاً في رحمته، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ولما كانت أعمال الحج تؤدى مع عناء ومشقة، وفيها يفارق الحاج وطنه وولدانه، ويعطل أعماله؛ من زراعة أو تجارة، فقد فرض الله تعالى الحج مرة واحدة على الفرد المسلم البالغ، ذكراً أو أنثى، متى استطاع أن يؤديه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ}‏(‏آل عمران‏:97)‏. وقال – عليه الصلاة والسلام -: (الحج مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع).

والمتمعن في الحج يجده مظهراً من مظاهر عز الإسلام، وتوحيد الكلمة بين المسلمين، وإنه لشـرف أن يجهد الإنسان نفسه، ويبذل ماله لخالقه ورازقه، لهذا الركن العظيم {ولا ينفقون نفقة صغيرة
ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}(التوبة).

وفي عبادة الحج إظهار العبودية، وشكر نعمة الله على عبده. وإظهار العبودية يقتضـي من العبد ترك الرفاهية، والتجرد من الزينة، ليعود العبد الى الخضوع والذلة، كما يبدو ذلك في حالة الإحرام، وغيره من العبادات البدنية. وشكر الله على نعمه يتمثل في العبادات المالية؛ كأداء الزكاة، والحج، الذي يجمع بين العبادة البدنية والمالية.
ومع ذلك، فإن الحج لم يفرضه الله إلا على من توافر لديه المال الكافي، وصحة البدن، ومن ثم كان في أداء الحج شكر لله على النعمتين. وفي ذلك تحقيق لدعاء إبراهيم – عليه السلام – في أن يجعل الله قلوب الناس تحن وتهوي إليه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}.
ومما لا شك فيه أن الحج ابتلاء في النفس، فإن المفروض في الحاج أن يتعرض لأجواء مختلفة لا يألفها، وأن يتناول أطعمة لم يتعودها، كما أنه يهجر أحباءه وأوطانه، من أجل زيارة بيت الله الحرام، مهما بعد هذا البيت عن وطنه. ولا يخفى أن في مفارقة المحبين، وما هو مرتبط بهم من رغبات الدنيا، على اختلاف أنواعها، مشقة وعسـر، مع ما في السفر من المشقة على النفس، لأن السفر مهما تيسـر فهو قطعة من العذاب. وإذا صبر العبد على الابتلاء في المال والنفس، كان داخلاً في قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، وإذا أحسن أداء حجته، نال من الثواب ما وعد على لسان خير البشـر: من حج، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.. ناهيك بتعارف المسلمين، وتبادل المنافع بينهم.. والتعارف سبب من أسباب المحبة.. ومن هنا شـرع الله صلاة الجماعة، والعيدين، وأعظم من ذلك كله الوقوف بـ(عرفة)، الذي يعتبر بمثابة مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها كل عام، واجتماعهم بعد ذلك في (منى)، ليتدارسوا أحوالهم، ويقرروا مصائرهم، ويوحدوا كلمتهم.

العشـر من ذي الحِجة، والأسـرار وراء عِظَم أجرها:
روى البخاري في صحيحه، من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني الأيام العشـر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشـيء) رواه الطبراني. وفي رواية أخرى: (ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشـر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)، (أي: أكثروا فيهن من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) .
وكأن الله – سبحانه وتعالى – يريد أن تنتهي السنة في شهر ذي الحجة بذكر الله والتعبئة الإيمانية، التي تعيننا على دخول السنة الجديدة في محرم – الذي يمثل أول أشهر السنة الهجرية – ونحن ممتلؤون بطاقة وحيوية وهمّة تعيننا على العطاء أكثر فأكثر، وقد غُفر لنا ما تقدم من ذنوب.
وكيف لا يكون فضل هذه الأيام العشـر، وقد تجمعت فيها أُمهات العبادات، وهي: (الصلاة والصيام والصدقة والحج).. لذلك نرى أمثال (سعيد بن جبير) يجتهد في العبادة اجتهاداً، حتى ما يكاد يقدر عليه!
لذلك فليس كل من عجز عن حج البيت الحرام، محروم!
فمن عجز عن حج البيت، لسبب أو لآخر، أو لأن البيت منه بعيد، فلا يستطيع الوصول، فليقصد رب البيت! فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد..! فيا حسـرة على مَن انقطع عن رب البيت..
فالإعجاز المكاني ضيق (الكعبة، وما حولها).. ولكن الإعجاز الزماني تمتلكه أنت في أي مكان! فآدم كان يمتلك جنتين: جنة ٌمكانية ضيقة، وجنة زمانية؛ يتقرب فيها إلى الله – عز وجل – في أي مكان، ألا وهي قلبه..!
فأنت تتعرف إلى الله بالسير إليه، وبالتعرف تسير إليه..!
ولهذا كان الحج في آخر السنة.. فسبحان من جَمَّل الختام.
لذلك هناك قاعدتان تقولان:
1- ليست العبرة بكمال البدايات، بل بإتمام النهايات.
2- ليس كل تقصير يمنع التشمير، فمن تحرك تحَرَّض، ومن تحرَّض تحرك.
لذلك يجب أن تكون لك في آخر السنة (نَفاسة ومنافسة)!!
(نَفاسة ذاتية): أي هي إذكاء العمل الصالح، وتتمثل بـ :
1- غسل سوآته (تطهير داخلي).
2- تجديد أشواقه (معدنك من الداخل).
3- رفع عواطفه.
لذلك، فأنت تتدرب على سنة جديدة، فعليك:
1- أن يكون عملك عملاً (نوعياً).. ولهذا ذكرت أحاديث كثيرة تبين أن الحج من أفضل العبادات.
2- لا تدخل السنة مثلما كنت! فإن كنت مع المتميزين، فكن الأميز..؟
و(منافسة)، كما أخبرنا القرآن الكريم في الحث على المنافسة:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(الإسراء).

التشويق الإلهيُّ للحجّ:
1- قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَ عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(سورة الحج).
2- وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}(سورة آل عمران/ 96- 97).
3- {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبّ اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَد آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُد الْأَصْنَام}(سورة إبراهيم/ 35).
4- {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(سورة إبراهيم/ 37).

التشويق النبويُّ المُحمّدي:
1- إنه من أفضل الأعمال إلى الله:
فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: “إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الحج المبرور” (رواه مسلم).
2- إنه أفضل الجهاد:
عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: “لكن أفضل الجهاد: حج مبرور” (متفق عليه).

3- الحج جهاد المرأة:
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلت يا رسول الله! ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور” قالت عائشة: فلا أدَعُ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) “(متفق عليه).

4- إنه يمحق الذنوب:
روى البخاري في (صحيحه)، وعند مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)، وفي رواية له أيضًا: (من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه).

5- مغفرة الذنوب، وعدم الفقر:
قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد). (رواه أحمد، والترمذي، والنسائي).

6- إنهم وفود الله – عز وجل -، ودعاؤهم مستجاب:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “الحجّاج والعمّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم” (رواه النسائي).

7- ثوابه الجنة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: “الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ” (رواه الشيخان).

8- ومن خرج من بيته يريد الحج ثم مات، أجرى الله عليه أجر الحج إلى يوم القيامة:
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “من خرج حاجاً، فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة. ومن خرج معتمراً فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة. ومن خرج غازياً فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة” (رواه أبو يعلى).
ويبعث من مات في الحج ملبياً:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فوقصته، فَقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثوبيه اللذين أحرم فيهما، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا”. (رواه البخاري ومسلم).

9- الإنفاق فيه عظيم:
عن بريدة – رضي الله عنه-، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، بسبعمائة ضعف”. (رواه أحمد، والبيهقي، وصححه السيوطي)

10- الحاج في ذمة الله وحفظه:
عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “ثلاثة في ضمان الله – عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً”. (رواه أبو نعيم، وصححه الألباني).

تأملات في سورة الحج:
عند تأمل هذه السورة لا نجد سورة باسم ركن من أركان الإسلام سوى ركن الحج! وعندما نتمعن في هذه السورة نرى أنها تركز على أربع نقاط متسلسلة في فقرات السورة، وهي كما يلي:
1- يوم القيامة.
2- البعث والنشور.
3- الجهاد في سبيل الله .
4- العبودية الشديدة والخضوع الشديد لله.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
{يا أيُّها النَّاسُ إن كنتم في ريبٍ منَ البعثِ فإنَّا خَلقْناكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من عَلَقةٍ ثمَّ من مُضغةٍ مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ لِنُبيِّن لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاءُ إلى أجلٍ مسمَّى…}.
فيوم عرفة تشبيه صغير ليوم القيامة، والمزدلفة تشبيه صغير للبعث من القبور؛ عند المبيت فيها، والقيام من النوم، لإتمام أعمال الحج، وكأنه البعث لإتمام الحشر والحساب!
ثم ينتقل بنا القرآن إلى قصة إبراهيم – عليه السلام -، وكيف طهر هذا البيت، ليؤمر بالأذان بأداء مناسك الحج فيه بعد الإتمام، ليؤكد على وحدة الأصل البشـري؛ فجميعهم من آدم، عبيد لله. ودلالة إتمام العبودية هي.. الحج إلى بيت الله على الأرض، وعندما يخضعون تمام الخضوع له سبحانه وتعالى.. لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وأذّن في الناس بالحجِّ}. والمتأمل في كل آيات القرآن يجد أن كل أمر من الله – عز وجل – لعبادته، يبدأ بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}، لأنهم هم المعنيون بالعبادة، وهم الذين يؤمنون به.. أما لبيان حقيقة ما، فإن الله يعمُّ في القرآن كل عباده بقوله: {يا أيها الناس}.. إلا في الحج، فهي دعوة لكل الناس، أي بمعنى آخر هي دعوة من الله – عز وجل – للإيمان به، ولأن الحج هو العبادة الوحيدة التي يتفرد بها دين الإسلام عن سائر الأديان، فلكل دين صلاة وصيام وذكر إلا الحج، فهي عبادة ينفرد بها الإسلام وحده! وهذا سـر نداء الله – عز وجل – للناس أجمع بالحج!!
ثم تبدأ الفقرة (3)، وهي تدريب الأُمة على الجهاد والكفاح في سبيل الله، بعد أن تجاوزوا الجهاد النفسـي والروحي والبدني والمالي في الحج، وتدربوا تدريباً (عملياً)، في سبيل الوصول لإتمام هذا الركن العظيم!
{أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}
ثم تأتي الفقرة (4)، والتي تشير – بعد كل هذه المراحل – إلى العبودية والخضوع الشديد لله تعالى، فقال عز من قائل:
{ألَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
وليس ثمة كناية أبلغ وأوضح من هذه الآية التي تصور أن كل شيء؛ من سماوات وأرض، وما فيها من دابة، يعبدون الله، ويسجدون له – سبحانه وتعالى-. يتبين لك هذا المشهد، وهذه الصورة، في (عرفة)، فإنك تستشعر وكأن السماوات والأرض ساجدة لله!
ومن أعظم مشاهد العبودية هي السجود لله تعالى، فأول آية نزلت فيها آية السجدة هي في آخر (سورة العلق)، قوله تعالى: {واسجد واقترب}، إشارة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأمره بالسجود وحده، وفي آخر (سورة الحج/ آية 77) تشير إلى سجود الأُمة كلها!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

مواقيت الحج:
إن كل عبادة لها مكان أو زمان محدد، فالصلاة – مثلاً – لها زمان، ولكن ليس لها مكان محدد. وكذلك صوم رمضان. وحتى العمرة، فهي عبادة محددة بالمكان، أما الزمان فتجوز في أي وقت.. ما عدا عبادة الحج، التي لا تتم إلا باجتماع الزمان والمكان، في أعظم أيام الله، وفي أقدس أماكن الله، في بيت الله الحرام، وفي المسجد الحرام، وفي البلد الحرام، فيجتمع فيها شـرف المكان مع شـرف الزمان (الشهر الحرام).
المواقيت الزمانية:
وهي شهر شوال وذو القعدة وعشـرة من ذي الحجة، أي الأيام العشـر من بداية ذي الحجة. وهي أشهر الحج التي ورد ذكرها في قوله تعالى:
{الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. فالحج أشهر معلومة، أي إن الحجّ يجب في أوقات محدّدة من كل عام، فمن فرض على نفسه الحج في ذاك الوقت، فقد دخل مباشرة في الفرض الذي أمره الله، وعليه من تلك الساعة ألّا يرفث ولا يفسق، وكل هذا قبل المباشرة في المناسك. أما في الحج، فلا جدال، لأنه تدرّب على عدم الرفث والفسوق!

المواقيت المكانية:
وهي خمس مناطق، بتوقيت النبي (صلى الله عليه وسلم). قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: وقَّتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل المدينة (ذا الحُليفة)، ولأهل الشام (الجُحفة)، ولأهل نجد (قَرْنُ المنازل)، ولأهل اليمن (يَلَمْلَم)، فهُنّ لهُنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فَمُهَلُّهُ من أهله، وكذاك حتى أهل مكة يُهلّون منها.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لأهل العراق (ذات عرق)، ولم يبلغ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هذا الحديث، فحدد لأهل العراق (ذات عرق)، وهذا من اجتهاداته الكثيرة التي وافق فيها السنة.
والواجب على من مرَّ على هذه المواقيت أن يُحرم منها، ويحرم عليه أن يتجاوزها بدون إحرام، إذا كان قاصداً مكة يريد حجاً أو عمرة، سواء كان مروره عن طريق البر، أو البحر، أو الجو.. والمشـروع لمن توجه إلى مكة عن طريق الجو، بقصد الحج أو العمرة، أن يتأهب قبل الركوب في الطائرة، وذلك بالغسل، ولبس الإزار والرداء للرجل، ولباس النساء إحرام لهن، على أن يوافق الشـرع.. ولكن لا ينوي الدخول في الإحرام، ولا يلبي، إلا إذا حاذى الميقات، أو دنا منه؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يحرم إلا من الميقات، فإذا دنا من الميقات عقد النيَّة ولبى بما يريد من حج أو عمرة.
وأما من كان مسكنه دون هذه المواقيت؛ كسكان: جدة، وبحرة، والشـرائع، وغيرها، فمسكنه هو ميقاته، فيحرم منه بما أراد من حج أو عمرة. أما أهل مكة فيحرمون بالحج وحده من مكة، أما العمرة فيخرجون الى مكان الحِلّ.
ومن أراد الإحرام بعمرة أو حج، فتجاوز الميقات غير محرم، فإنه يرجع ويحرم من الميقات، فإن لم يرجع، فعليه دم؛ لقول ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -: من نسـي من نسكه شيئاً، أو تركه، فليهرق دماً.
أما من توجه إلى مكة ولم يرد حجاً ولا عمرة، وإنما أراد التجارة، أو القيام بعمل من الأعمال، له أو لغيره، أو زيارة لأقربائه، أو غيرهم، ونحو ذلك، فليس عليه إحرام، إلا أن يرغب في ذلك؛ لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما وقّت المواقيت: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة. فمفهومه أن من مر على المواقيت، ولم يرد حجّاً ولا عمرة، فلا إحرام عليه. ويدل على ذلك أيضاً، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما دخل (مكة)، عام الفتح، لم يدخلها محرماً، بل دخلها، وعلى رأسه المعفر، لكونه لم يرد حينئذ حجاً ولا عمرة، وإنما أراد فتحها، وإزالة ما فيها من الشـرك.
لذلك تكون المواقيت المكانية، كما هو مبين:
1- ذو الحُليفة (أبيار علي، حالياً)، ميقات أهل المدينة (450كم).
2- الجُحفة (رابغ، حالياً)، ميقات أهل الشام ومصـر والمغرب وتركيا (183كم).
3- يَلَمْلَم (السعدية، حالياً)، ميقات أهل اليمن والهند (92 كم).
4- قَرن المنازل (السيل الكبير)، ميقات أهل نجد (75كم).
5- ذات عِرق (الضـريبة، حالياً)، ميقات أهل العراق (94كم).
6- مكة، ميقات أهلها، ومن يقيم فيها، ويسكنها.

المعنى الإجمالي:
يتبين فيما ذكر أن هذه المواقيت قد وضعها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بوحيّ من الله – عز وجل -، في السنة الفعلية العملية، لكي يستشعر الحاج التعظيم والتكريم والتقديس والإجلال لهذا البيت، وأنه دخل الحرم المكاني والزماني لله تعالى، فلا يجوز له الدخول إلا بأن ينخلع من كل زخارف الدنيا؛ الظاهرة والباطنة، وبذلك يستشعر هيبة الله في وجدانه وكيانه، وتعظيم هذا البيت وتقديسه، إذ جعل له هذا الحمى، الذي لا يتجاوزه من قصده بنسك، إلا وجاء معظّماً، مكرّماً، خاشعاً، خاضعاً، بهذه الهيئة الخاصة، لا يحل لمن أراد نسكاً تجاوزها بدون إحرام.

المعاني العميقة في مناسك الحج
أولاً- النية لأداء فريضة الحج:
إن الحج يعتبر إحياء (للملة الإبراهيمية) الحنيفة، في كل عام. والملة هي العقيدة. والحنيفة؛ أي البعيدة والمبرئة من الشرك.. أي الوحدانية لله(للعلم كلمة (التوحيد) كلمة خاطئة لغوياً، لأنها توحي بوجود إله حق من بين عدة آلهة!! وهذا خطأ، حيث لا إله إلا الله، والكلمة الصحيحة هي الوحدانية).
وكما نعلم أن كل عمل لكي يكون مقبولاً، يجب أن تسبقه نية. لذلك، فاستحضار النية قبل الإقدام على الحج هو من أهم الأمور، وكما أخبرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم): (إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل أمريء ٍما نوى)، فكيف وهذا العمل قد فُرض مرَّة واحدة فقط في العمر كله؟
ويعتبر الحج من أركان الإسلام الخمسة، بل هو الركن الأعظم، لأنه تجتمع فيه الأركان الأربعة الباقية، بل تشمل كل المعالم المتعقلة بعقيدة المسلم:
1- فشهادة الوحدانية، الذي هو الركن الأول في الإسلام (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، تقولها مرة واحدة لكي تدخل الإسلام، بينما في الحج تعلن معاني الوحدانية (لا إله إلا الله) مراراً وتكراراً، عند التلبية (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك).. أما (محمد رسول الله)، فتتمثل في الحج بالفعل والعمل بما أمرنا رسول (صلى الله عليه وسلم) ، بأن نقتدي به في كل خطوة من خطوات الحج، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)؛ سنة عملية فعلية.
2- أما الركن الثاني (الصلاة).. فالصلاة هي التذلل لله، والانقطاع إليه، وكذلك الإحرام فهو من أكبر مشاهد التذلل لله تعالى. كما أنه – سبحانه وتعالى – أمرنا بأن نجعل من مقام إبراهيم مصلى؛ نُصَلّي فيه صلاة نسافر بأشواقنا وكياننا، لكي نصل إلى مقامات إبراهيم، ومواقفه، في كل مناسك الحج. فكلمة مصلّى توحي إلى الوجهة والمكانة التي كان إبراهيم يعمل على تثبيتها، وليس أن نجعل من المقام مكان صلاة، نتصارع في ذاك الموقع خلف المقام عليه، مع أنه قد تغيّر مكانه مع مرور الزمن.!
3- أما الركن الثالث (الزكاة)، فإن الإنفاق في سبيل الوصول إلى الحج، وكذلك إهداء الهدي، وإطعام الكفّارات، هي تزكية تربوية بالمال!
4- أما الركن الرابع (الصيام)، فالصيام تهذيب نفسـي، والحج أكبر محفل لتهذيب النفس؛ بالذهاب والإياب، وتحمّل المشقّات، مع الحرص على السلوك الطيب مع الحجاج، {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. وكذلك عند عدم استطاعته إهداء الهدي، وذبحها، فعليه الصيام، قال الله تعالى: {فمن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}..
وكما قلت، فإنها تشمل أيضاً كل المعالم المتعلقة بعقيدة المسلم؛ من ولاء وبراء، وسمع وطاعة، وعبادة الذكر والتسبيح والدعاء.. لذلك يعتبر الحج نموذجاً مختصـراً لكل معالم الإسلام، وما يتضمنه من معان عظيمة، تتجلى بأبهى صورة في الركن الأعظم في الإسلام (الحج).
فلنستحضـر النية الصادقة مع الله في هذه الرحلة العظيمة، التي لن تتكرر – غالباً – إلا مرة واحدة في عمرنا القصير!

ملابس الإحرام:
قبل البدء بإحرام جسدك، أُذكرك بإحرام قلبك! لكي تستشعر إحرام جسدك..
يعتبر الإحرام ركناً من أركان الحج والعمرة، الذي هو نية الدخول في النسك. ومن أعماله: التجرد من لبس المخيط والُمحيط، والذي هو للرجل عبارة عن قطعتين من القماش؛ هما إزار ورداء أبيضان طاهران، يغطيان جسمه العاري. أما المرأة، فتلبس ما تشاء من اللباس الساتر، دون أن تتقيد بلون وشكل محدد. ولا يجوز تجاوز المواقيت المكانية المحددة، إلا وقد أدّيتَ هذا الركن.
· والإحرام يوحي إليك بعظمة الموقف، كيف وأنت تتجاوز حدود حرم بيت الله المعظم بهذا اللباس، ولا يجوز لك أن تخطوَ خطوة واحدة نحو بيته على الأرض، إلا وقد لبست لباس الخضوع والخشوع تجاهه سبحانه وتعالى، فيزيدك خضوعاً وخشوعاً ومهابةً.
· وهو يشعرك بأنه كالكفن الملفوف حول الميت، وكأنك من الأموات، أي أنك بحكم الميت، فهذا اللبس يُرتّب عليك ضوابط وواجبات تذكرك بأنك كالميت؛ فلا تنزع شعرة من شعرات جسدك، أي أنك تصل إلى مرتبة من التقوى من الله في عدم نزع شعرة واحدة! وكذلك أظافرك! فكيف بالذنوب، وأنت تحاسب على شعرة؟!
· وكذلك يفرض عليك عدم استخدام شهوتك الجسدية، كأنك خرجت من نوازعك الشهوانية، فأنت بذلك تتجرد إلى الله – سبحانه – في أرضه المحرمة والمباركة، ليكون ذلك منتهى التسليم لله، وتزيد من أشواق القلب نحوه، حيث لا نوازع جسدية، ولا شهوانية، ولا شكلية، تكون عائقاً أمام هذه الأشواق المتدفقة إلى باريها – سبحانه وتعالى -.
· وهذه الملابس تزيل كل العوائق والمظاهر والزخارف البشـرية بين الناس، فلا فرق بين فقير أو غني، كبير أو صغير، أبيَض أو أسود، حاكم أو محكوم، جاهل أو عالم، الكل متساوون في المظهر، فيكون ذلك سبباً في الانطلاقة الإيمانية نحوه – سبحانه تعالى – بدون ضغوط أو عوائق نفسية.
· وتلك الملابس تذكرنا بالاجتماع البشري المبرم حتماً في المستقبل، وفي أرضِ فلاة مستوية في المحشـر، والكل عارٍ، ولا أحد ينظر إلى أحد؛ لهول الموقف، وأول ما تبدأ به قبل الحساب هو الإكساء، وستر العورة، وكل حسب درجته..
كل هذه المشاعر تجتمع في ذهن المحرم، فيزداد انطلاقة وتقوى وخضوعاً وخشوعاً وتذللاً لله – سبحانه -، في موقف اجتمع فيه شرف الزمان (أيام الحج)، وشـرف المكان (بيت الله الحرام)، وشـرف البدن (المُحْرِم).
التلبية:
أعظم شعار، وأعظم نشيد، هو شعار الوحدانية (التلبية)، والتلبية معناها (الاستجابة)، أي هو شعار تلبية لنداء الله إلى عبيده! الذين اختارهم الله لزيارته!
·إذاً، هو دلالة على قَبولك أن تكون مُزاره، فأنت من الذين أحبًّهم الله!
لذلك يتلقى العبد الاستجابة والقَبول بالتلبية منادياً بأعلى صوته، دلالة على فَرحه بهذا القبول، وهذه الاستضافة الربانية له، فينشد شعار الوحدانية الخالد: (لبيك اللهم لبيك).. أي بلى يا رب، لبينا زيارتك.. (لبيك لا شريك لك لبيك).. لبينا، يا مَنْ لا شريك له.. (إنَّ الحمد والنعمة لك، والملك).. فكل نعمة منك، والملك لك، فلك الحمد والمِنَّة.
(لا شـريك لك).. لذلك نؤكد – مرةً أُخرى – أن لا شـريك لك.. إنه لواء الوحدانية، نرفعه ونعلنه أمام الملأ..
·ويعتبر هذا الشعار تعبيراً عن قصة التحدي بين الله – عز وجل – وبين الشيطان! عندما ذكر الله – سحانه – تحدي الشيطان في قوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين}!! فقولك: (إن الحمد والنعمة لك، والملك)، هو إعلان عن شكرك لله، وعصيانك لمرام الشيطان.. وقال تعالى: {إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان}، فأنت بإعلانك عن هذا الشعار العظيم، تثبت أنك من جند الله، وعباده المطيعين، وأن الشيطان قد كذب، وأنه ليس له عليك سلطان!
· وهو فصل لقضية كونية زمنية أبدية، وحكمة واجبة، وهو زلزالٌ للكون! لقضية الصـراع الأزلي بين جند الله، وجند الشيطان..
وكما أخبرنا – عز وجل – في كتابه الحكيم، حكاية عن الشيطان: {…لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثر شاكرين}.
ولهذا يقول الله – عز وجل – في كتابه الحكيم، ويحثنا على تلبية دعوته، بقوله سبحانه: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم..}، والحج أجلى صورة للاستجابة، فلا غرابة أنه لم يُرَ الشيطان أصغر ولا أذل ولا أحقر ولا أخزى من يوم عرفة! لرؤية كثرة الرحمات التي تنزل على عباد الله؛ حجاج بيت الله، وغفرانه لهم جميعاً!
فلا عجب من عظمة وأجر وثواب من يكثر من هذه التلبية، في الأحاديث النبوية: قال (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
1- (خير الحــج العـجُّ والثـجّ)، رواه الترمذي، وحسنه الألباني.. أي: تعج بالنداء للشعار الخالد، والناصع، شعار الأنبياء كلهم، وتردده مراراً. أما الثج، فيعني كثرة ذبح الهدي..
2- (من أضحى يوماً محرماً، ملبياً، حتى غربت الشمس، غربت بذنوبه، كما ولدته أمه). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة.
3- (أتاني جبريل وقال : مُرْ أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها شِعار الحج). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.
4- (ما أَهِلَّ مُهِلّ، إلا آبت الشمس بذنوبه).
5- (ما أَهلَّ مُهِلّ، ولا كبَّرَ مُكَبِرّ، قطّ، إلا بُشِـّر، قالوا: يا رسول الله (بالجنة)، قال (صلى الله عليه وسلم): نعم). رواه الطبراني.
6- (ما من مسلمٍ يلبِّي إلَّا لبَّى من عن يمينِه أو عن شمالِه؛ من حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ، حتَّى تَنقطعَ الأرضُ من هاهنا وَهاهنا). رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي.

الاضطباع:
وهي تدخل في أعمال الإحرام، وتعني قيام المحرم بكشف كتفه الأيمن، أثناء طواف القدوم فقط (وهي سُنَّة).. لماذا؟
إنه تعبير عن قوة المسلمين، وله معنى تاريخي، عندما أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقوم بعمرة مع صحابته، في السنة السادسة للهجرة، ولكن قريش منعتهم، فجرت مفاوضات، انتهت بصلح لمدة 10 سنوات، سميَّ بـ(صلح الحديبية)، على أن يعود الرسول والمسلمون هذا العام، ويقوموا بالعمرة في السنة القادمة. فلما أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) القيام بعمرة القضاء، عام 7 هجرية، رُوِّجَت دعاية من قبل المشركين أن محمداً وأصحابه في شدة وعسـر، وزين الشيطان ذلك في نفوسهم، حتى هَمُّوا بالانقضاض عليهم. وعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال: (رَحِمَ الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة)، فكشف الصحابة عن أكتافهم، لكي ترَى قريش أنه ليس بهم أذى، وأمر الرسول بـ(الرَّمَل)، وهي عبارة عن هرولة خفيفة، مع هز الأعضاء، في الأشواط الثلاثة في طواف القدوم فقط. وتعتبر سُنة.
فرأت قريش بأُم عينها مظاهر القوة، فذهبت وساوسهم من نفوسهم، وبقى الاضطباع والرَّمَل سُنّة ترمز إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون دائماً، من القوة!! والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. فالحج لم يمهل استشعار الحاج بالهمة والقوة في أول شعيرة يعملها!

ثانياً- الطواف:
يعتبر الطواف ركناً من أركان العمرة عند القدوم، وهو ركن من أركان الحج، يسمى بطواف الإفاضة، والذي يكون بعد يوم عرفة، وهو عبارة عن القيام بالطواف حول الكعبة المشـرفة بسبعة أشواط، عكس عقارب الساعة.
وهو يعتبر من العبادات التي ترمز إلى رمزية الكون القائم على الحركة والدوران حول مركزه، وبانتظام.
· وكأن الله – عز وجل – يعلمنا في هذا المنسك، أن نتعلم الانسجام والانتظام والتضامن مع نغمات لحن الكون الرائع، والقائم كله – من أكبر وحداته، إلى أصغر وأدق جزء فيه – على الدوران حول مركزه، ليبلغ الانسجام مع الكون غاية الجمال والكمال.. والغريب أن كل دوران في هذا الكون يكون بعكس عقارب الساعة، وكذلك الطواف. ومن الجوانب العلمية في الحج، هو اكتشاف أهمية (الدوران الموجب)، الذي هو (عكس عقارب الساعة)، فمنذ /1400/ عام والمسلمون يدورون حول الكعبة (عكس) عقارب الساعة، وهو قانون الدوران العام في الكون، والسادة المولوية يدورون عكس عقارب الساعة، دون أن يصيبهم الدوار.. لذلك يعرف علماء الرياضيات، والفلك، وغيرهم، أن الدوران (الموجب) هو عكس عقارب الساعة!
1- ففي الذرة، وجدوا أن الالكترونات تدور حول النواة، في حركة لولبية، وبعكس اتجاه عقارب الساعة!
2- وفي داخل الخلية، يدور البروتوبلازم حركة دورانية عكس عقرب الساعة.
3- والدم يتحرك وينتقل إلى القلب في الدورة الدموية الكبرى، عكس عقرب الساعة.
4- والبيضة تخرج من المبيض إلى قناة الرحم، بحركة دورانية حول محورها، عكس عقرب الساعة، والحيوانات المنوية تحيط بها، وتدور حولها، عكس عقرب الساعة، والأرض تدور حول محورها، وحول مركزها (الشمس)، عكس عقرب الساعة.
5- والقمر تدور حول محورها، وحول الأرض، عكس عقرب الساعة.
6- والمجموعات الشمسية تدور حول مركز المجرة، عكس عقرب الساعة.
7- والمجرات تدور حول مركزها، وهو التجمع المجري، عكس عقرب الساعة.
8- والتجمع المجري يدور حول مركز الكون، الذي لا يعلمه إلا الله، عكس عقرب الساعة.
· وكأن الله يعلمنا أنَّ لكل ٍ وِجهَة ومركزاً وقِبلةً، يتوجه وينجذب إليها، ويدور حول فلكها. كما أخبرنا ربنا في كتابه العزيز: {لِكُلٍ وِجهةٌ هو موليها}، فها قد آن الأوان أن ندور حول مركز توجهنا في حياتنا، وقبلتنا، التي نقوم بالتوجه إليها، بكل كياننا ووجداننا، خمس مرات في اليوم الواحد، ونتذكر قوله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ…}، ويعلمنا الله في هذا المنسك أنَّ الأصل في الحياة هو التحرك، وأنَّ الحركة هي من سنن الكون، وكل جزيئة من جزيئات الكون في حركة مستمرة دون توقف، فالتوقف ليس من سنن الكون، بل إنَّ التوقف هو التأخر بعينه، كما قال الله تعالى في كتابه: {لِمَن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، لذلك نرى أن الحج يبدأ بالطواف (طواف القدوم)، وينتهي بالطواف (طواف الوداع)، وبينهما طواف النافلة! لذلك فالطواف يعتبر طوافَ أصل الوجود!
· وكذلك يعلمنا الطواف أنَّ الحركة المنتظمة هي أصل الحياة والوجود، وأنَّ الحركة العشوائية هي نغمة نشاز في لحن الكون، وهي شذوذ عابر؛ كالنيازك التي تفلت من فلكها المنتظم، فتكون النتيجة الانهيار والفناء.. لأن الحياة كلها قائمة على الانتظام، كما بينه سبحانه وتعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار}. {وكُلٌّ في فَلَكٍ يسبحون}، فكل شيء له فلكه، وكل شيء في حركة منتظمة، فبالانتظام تدور الأمور، وبالتخبط تزول الأحوال، لأنها ليست من سنن الكون!
ويعلمنا الطواف أنَّ الخير هو الحركة نحو الانسجام الكوني، والديمومة على ذلك، والشـر هو الحركة نحو التباين والفوضى، المؤدي إلى التبعثر.. لذلك لا يمكن للشـر أن يدوم، لأنه مناقض للفطرة وقانون الوجود.. ولا يمكننا أن نترك الشذوذ يدوم، أو أن يتزايد!
لذلك لا تستغرب أن ديننا جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز فروض الشـريعة الإسلامية.. لذا، فنحن بالطواف نتعلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! المؤدي إلى الانسجام الكوني وديمومة الحياة! وتستشعر بهذا الطواف أنَّك جزء من هذا الكون الفسيح، الذي يتحرك كل شيء في فلكه، وأنت كذلك جزء من هذا الكون، وترتبط مشاعرك ِبِعَظِم فلكك الذي يدور حوله كل من في السموات والأرض.
لذلك رويت أحاديث عن عظمة هذا المنسك، وأجره عند الله.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
1- (من طاف بهذا البيت أسبوعاً (أي سبعة أشواط)، كان كعتق رقبة)، رواه الترمذي والنسائي.
أتريد أن تعرف قدر عتق رقبة!
يقول الله – عز وجل -: {فلا أقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة.. فك رقبة}.. أي أن اقتحامك وخلاصك من العقبة، هو في عتق رقبة! يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من أعتق رقبة، أُعْتِقَ بكل عضو منه عن النار)!
2- (استكثروا من الطواف في هذا البيت، فأنه من أجَلِّ ما تجدونه في صُحُفكم يوم القيامة، وأغبَط عمل تجدونه).
3- (استمتعوا بهذا البيت، فأنه هُدِم مرتين، ويُرفع في الثالثة). رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه.

مقام إبراهيم:
من السنن المؤكدة بعد الطواف، ومن المستحب صلاة ركعتين خلف المقام، ولكن المقام هو مقام مكانة، وليس مكاناً خلف الحجر المعلوم، فالصلاة تكون في أي مكان، لكن العبرة بما قام به الخليل في هذا المقام، وهو بناء بيت الله الحرام؛ الوجهة والقبلة، وهذا مراد الله في قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مُصَلى}.
ومن أجل ذلك جعل لإبراهيم مقاماً عند بيته العظيم ومكانة، والمقام: هو حَجَر موجود بالقرب من الكعبة المشـرفة، محفور فيها قدما إبراهيم – عليه السلام – تشريفاً وتكريماً له من قبل الله – عز وجل – لما قام به من عمل جليل عظيم، وهو بناء بيت الله الحرام في الأرض، ليصبح قبلة للمسلمين عامة، وملتقى عالمياً لهم في كل عام، يُعظمون الله تعالى ويوحدونه..
· فالمقام يذكرك بالحديث المروي عن ابن عباس، عندما قال إبراهيم – عليه السلام -: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأُعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً.
· يذكر الحديث المروي عن ابن عباس أيضاً قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء البيت، أمره الله – عز وجل – أن ينادي في الحج، فقام على المقام (ويقال أنه أذَّنَ على جبل أبي قبيس)، فقال: يا أيها الناس، إنَّ ربكم قد بنى بيتاً، فحجوا، وأجيبوا الله – عز وجل -، فأجابوه في أصلاب الرجال وأرحام النساء: أجبنا، أجبنا، اللهم لبيك… قال: فكُلْ من حجَّ اليوم، فهو مِمَن أجاب إبراهيم على قدر ما لَبَّى)!
نعم.. ولهذا أعطي إبراهيم ذلك المقام، حتى أنَّ العرب في الجاهلية يعرفون ذلك القدر الإلهي لإبراهيم، وكان (أبو طالب) ينشد -من خلال قصيدته اللامية الطويلة -:
وموطئ إبراهيم في الصخرِ رطْبةٌ على قدميه حافياً غير ناعِلِ
الأصل أنَّ كل مشاعر الحج هي مقامات إبراهيم، فكل منسك من مناسك الحج يرمز إلى عطائه وكفاحه وعبادته لربه، وتسليمه التام لأوامر الله سبحانه وتعالى.
إذاً العبادة عند المقام هي ركعتين استشعار:
1- تستشعر وحدانية الله، وتنبذ كل الأفكار الهدامة. لذلك كان من السنة أن تقرأ بعد الفاتحة، في الركعة الأولى: (سورة الكافرون).. دلالة على نبذ الكفر والشـرك، والتبرؤ منها! وفي الركعة الثانية: (سورة الإخلاص).. دلالة على إخلاصك لله بالوحدانية الخالصة له سبحانه، والتجرد إليه فقط!

2- وتستشعر بإبراهيم – عليه السلام – وهو الذي دعا لنا فيه!! ودعا ببعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتابة والحكمة ويُزكيهم}.

3- وتستشعر تقصيرنا بجنب الله، وهو الذي مَنَّ علينا، فنزيد في شكره – سبحانه -: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(آل عمران: 164).
ومنها نتعلم عِظَمَ أجر الصلاة خلف المقام، كما روي عنه (صلى الله عليه وسلم):
· فعن ابن عمر – رضي الله عنه – أنه قال – في حديث طويل -: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (…وأما صلاتك خلف المقام، فإنها تعدل عتق رقبة من ولد إسماعيل..). فالآية تقول: {فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة ..}! أيُّ رقبة.. فما بالك بأن الرقبة التي تعتق هي من ولد إسماعيل – عليه السلام -!
وكذلك ذكر الله تعالى في قرآنه العظيم عن المقام، فقال الله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}(سورة البقرة/125). {فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً}..
الحجر الأسود:
بعد الانتهاء من الصلاة، بعد الطواف، من السنة أن تُقَبِّل الحجر الأسود، إن أمكن. وهو يعتبر رمزاً أهداه الله لنا، ليأتيه كل البشر من أقاصي الأرض، لمسحه واستقباله وتقبيله!
وقد ثبت علمياً أنه ليس من أحجار الأرض، في القصة المشهورة للعالم البريطاني (ريتشارد ديبرتون)، التابع للجمعية البريطانية لجامعة (كمبرج)، والمبعوث من قبل المستشـرقين، لإثبات أنه من أحجار البازلت الموجودة ما بين مكة والمدينة! ولكن ثبت أنه ليس من أحجار الأرض، فأسلم حينها. وله كتاب مفصل في جزئين. وكان ذلك عام 1856م.

  • وروي أن الحجر الأسود يرجع عهده إلى إبراهيم – عليه السلام -، فعندما كان يبني، وابنه إسماعيل يناوله الحجارة، وصل إلى موضع الحجر الأسود، فقال إبراهيم – عليه السلام – لابنه إسماعيل: أبغني حجراً، أضعه ها هنا، يكون للناس عَلَماً، يبتدئون منه الطواف. فذهب إسماعيل يطلب حجراً، ورجع وقد جاء جبريل – عليه السلام- بالحجر الأسود. فقال إسماعيل: يا أبي من أين لك هذا؟ قال: جاءني به مَن لم يكلني إلى حجرك، جاء به جبريل – عليه السلام -، وهو حينئذٍ يتلألأ من شِدة البياض، فأضاء نوراً شـرقاً وغرباً..
  • وقال – صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ مسح الحجر الأسود، والركن اليماني، يحطان الخطايا حطاً). رواه أحمد، وصححه الألباني.
  • لذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما روي عن الحاكم، وصححه الألباني، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قَبَّلَ الحجر الأسود، وبكى طويلاً، ورآه عمر، فبكى لبكائه، وقال له: يا عُمر، هنا تُسكب العبرات..
  • فنرى من يتحرج عن تقبيله.. ويقولون – كما ثبت عن عمر – رضي الله عنه –، في البخاري ومسلم – عندما قال وهو يقبله: (والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضـر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلتك).. وهذا خطأ في الفهم، لأنه هو الذي كان يُدمى أنفه جراء محاولته لتقبيله الحجر، وقد نصحه النبي أن لا يُزاحم على الركن، لأنه يؤذي الضعيف!.. إنَّ عمر – رضي الله عنه – يتكلم ليُعلم الأُمة أنه يفعلها اقتداءً بالنبي، وليس تقديساً، حتى لا يخطئ الفهم أحد.. نعم، نحن نُقبله تشـريفاً وتقديرًا، لأنه قد قَبَّلَهُ سيد الأولين والآخرين، وهو مُلتقى شفاه الأنبياء قبله! ولأنه عبد لله، ورمز المحاكاة بين البشـر ومبعوث الله تعالى.. وكما قلنا، فنحن لا نقدسه، بل نحبه، ما دام تحت سلطان الله، فهناك علاقة قوية بيننا وبين مخلوقات الله..
  • يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن جبل (أحد): (هذا جبل يحبنا ونحبه).
  • وفي رواية أُخرى : (اثبت أُحُد، فعليك رسول، وصدّيق، وشهيدان)، وذلك عندما اهتز الجبل، لشدة حبه لهم!
  • وكما في الحديث الذي يروى على أن كل مَدَر، وكل وَبَر، وكل شجر، إلا ويشهد على المؤذن الذي يؤذن للصلاة.
  • وقصة الكافرين في القرآن، عندما قال الله فيهم: {فما بكت عليهم السماء والأرض…}، أي أنها تبكي على الإنسان الصالح، والمسبح، وإذا مات تفتقد إلى تسبيحه وذكره!
  • وكما أخبرنا القرآن عن عرض الأمانة، عندما قال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.
    نعم هناك علاقة قوية بيننا وبين مخلوقات الله؛ من الجمادات، وغيرها، من حولنا.. فنحن نحب كل مخلوق لله، نحبه كعبد ومخلوق لله. أما النظر إليه كإله، أو تجاوز الحب إلى التقديس، فلا، ونحن نرفضه.
  • والطريقة الصحيحة لكيفية مسحه وتقبيله، إن أمكن، تتمثل في إحدى الطرق التالية:
    مسحه باليد، أو تقبيله، أو السجود عليه، ثلاث مرات، أو البكاء عليه، أو مسحه، ومسح الوجه به.
    بئر زمزم:
    ومن السُنة أيضاً أن تقوم بعد الطواف بشـرب ماء زمزم، هذا الماء المبارك، الذي يعتبر معجزة ربانية إلى يوم الدين.
    فمكة أرض غير ذي زرع، وهي توصف جيولوجياً بأن صخورُها صماء، أي لا يوجد ما يبرر وجود الماء فيها. لذلك، فإنها كانت أرضاً غير صالحة للعيش؛ فلا نبت ولا زرع ولا ماء، ولا ما يستفاد منه حتى كمرعى! ولكن شاءت الأقدار الإلهية أن توجد الحياة فيها من العدم، فكان (بئر زمزم)، ينبع في أرض لا ماء فيها، لتصبح فيما بعد أرضاً تهتز منها أركان عروش الحضارات، وملتقى لملايين الحجاج، ينتعشون بشـرب هذا الماء المبارك، الذي بلغ عمرهُ أكثر من 5 آلاف سنة! وما زال بنفس الكفاءة والصلاحية للشـرب، بل كأصلح وأصفى وأنفع ماء على وجه الأرض، تروي أجيالاً وأجيالاً! إنها هَمزةُ جبريل، وسُقيا إسماعيل – عليه السلام-!
    نعم.. إن بئر زمزم يذكرنا بقصة أُمّنا هاجر، ومدرسة التضحية.. فقد جرى لها الماء باليقيــن، وقَلَّلَتْــها بضعف اليقيــن! كيف..؟
    § فبيقينها قالت لإبراهيم – عليه السلام – عندما تركها وحيدة في هذه الأرض غير الصالحة للعيش، لمّا عَلِمت أنَّ الله أمر إبراهيم بذلك، فقالت قَولَ المرأة المتيقنة بربها: (اذهب، فلن يضيعنا الله)!
    وسَعَت مجتهدةً لطلب الماء، وكادت أن تهلك؛ هي وابنها إسماعيل.. ولما انفجر الماء؛ بضـربة من جبريل – عليه السلام – تحت قدمي إسماعيل، خافت، وقالت: (زم زم)، أي تجمعي، مخافة أن تضيع! (قلة اليقين).. ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (رَحِمَ الله أُم إسماعيل، لو تركت زمزم، لكانت زمزم عيناً مَعيناً، ولاستفاد منها كما يستفاد من النيل والفرات)!
    نعم.. إنَّ زمزم تذكرنا بـ(هاجر).. قصة اليقين بالله، والتوكل عليه!
    · وتذكرنا هذه القصة بالتحرك والسعي، مع التوكل، في حياتنا.. فباليقين ساهمت في إحياء قوم، وانقاذهم، بعد انهيار (سد مأرب) في اليمن، وتشتت القبائل بين الأمصار.. وجعلت قبيلة (جُرْهُم) يشاهدون، عند مرورهم بالقرب من الوادي، تحليق طيور؛ تشير إلى وجود ماء عذب، لم يكن موجوداً فيها! وليشاهدوا وجود ماء بأسفل الوادي، عليه امرأة مع وليدها! فجعلهم يُلحّون على المرأة الضعيفة، التي تملك ذلك الينبوع، البقاء للعيش بالقرب منه، مع قدرتهم عليها، لكنها شيم القبائل.. وخاصة مع رؤيتهم المعجزة الإلهية في تلك البقعة، التي سيكون لها فيما بعد شأن عظيم.. ناهيك عن شجاعة المرأة في مساومة القوم؛ في إعطائهم الماء مقابل أجر، ورعاية ابنها لكي يتعلم الفروسية والفصاحة العربية!
    · وتُذَكّرنا بالتقديرات الربانية، وأن كل تغيير كوني هو بيد الله تعالى، وبيده تصـريف الأمور، وتدبيرها.. فإبراهيم -عليه السلام- أطاع الله تعالى في أمره بنقل زوجته وابنه إلى وادٍ غير ذي زرع، ولكن تقديرات الله جعلت ذلك الحدث يتزامن مع انهيار سد مأرب، لكي تنتقل إلى هذا الوادي قبيلة (جُرهم) الأصيلة.. وفي الوقت نفسه، تنفجر بئر زمزم، لكي تكون لهذا الوادي حياة، ويكون له شأن عظيم فيما بعد، ويكون قبلة التوحيد في الأرض، وبزوغ الوحي الخالد للبشـرية.. ونتأمل دعاء إبراهيم – عليه السلام – كما اخبرنا الله تعالى، عند ترك عائلته هناك، وخروجه من (مكة) قائلاً: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
    · ونتأمل كيف استجاب الله لدعائه..
    اذهب إلى ذاك المكان، لترى كيف تهوي القلوب إليه، وكيف انفجرت ينابيع الثمرات على أهله؟!
    · ويذكرنا هذا الوادي بقصة حب الأم، وحنانها تجاه ولدها، وأبوه ليس هناك، وكذلك الصبر والمصابرة على تربيته.
    لذلك نرى من الأحاديث الواردة في فضله وبركته:
  • فعن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ فيه طعام الطعم، وشفاء من السقم).
  • وعن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ماء زمزم لما شرب له). رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وصححه الحافظ ابن حجر.
  • وقصة أبي ذر الغفاري، وبقائه في (مكة) 30 يوماً لا يأكل ولا يشـرب إلا ماء زمزم، حتى سمن، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إنها ماء مباركة، إنها طعام طعم).
  • وأفضل دعاء ابن عباس، عندما كان يشـربها يقول : اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً متقبلاً، وشفاء من كل داء.

الصفا والمروة:
يعتبر السعي بين الصفا والمروة من أركان الحج، والعمرة أيضاً.. ولهذا قال الله تعالى: {إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يَطَّوَفَ بهما ومَنْ تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم}.
· فهي من شعائر الله، أي تشعرك بما أعطاه الله لأُمّنا (هاجر)، وكيف سَعَتْ ذهاباً وإياباً، وكيف كان يقينها وتوكلها على الله، وكيف أنها مع التوكل تحركت وسعت واجتهدت، فجاءها الرزق في مكان لم يكن في الحسبان، فلم يأتِها في مكان السعي، دلالة على أنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب!
لذلك أتاها الرزق باليقين، وليس بالسعي! وليس معنى ذلك أن نترك السعي، ونتواكل على الله، بل التوكل الحق هو الســــعي والاجتهاد، مع اليقيــــــن والتوكــــــــل؛ فالرزق مضمون، ولكن استلام الرزق يحتاج إلى ســــعي!!
وهذ مُراد شـــعيرة الصفــا والمــروة، ومن أجل ذلك سمّي عند العلماء بركن الســــعي.
· وهذه الشعيرة تُشعرك كيف كانت أُمّنا هاجر، وهي وحيدة في هذا الوادي، وكيف كان شعورها وهي ترى وليدها وهي في أسفل الوادي، فكانت تهرول في بطن الوادي، بعاطفة الأُم الخائفة على وليدها..
لذلك نحن نهرول ما بين العلمين الأخضـرين، اقتداءً بأُمنا هاجر، مع العلم أن الهرولة جائزة للرجال دون النساء! وهي التي علمتنا ذلك!..
ونستشعر كم تعبت وجهدت؛ في البدن والتفكير، وكم مشت؟! وكانت مشيتها على الأرض الجرداء والأحجار، وليس مثلما نراه الآن.. وكم سعت في الليل والنهار، وفي مكان موحش.. وحيدة؟ كم أنتِ عظيمة يا هاجر!
ولهذا من عظمة هذا الدين أنه أعطى للمرأة هذه المكانة العظيمة، بأن جعلها رمزاً للسعي والتوكل واليقين، وجعل الله عملها وفعلها ركناً من أركان الحج الأعظم، لا يكتمل حج أحد إلا بأن يحذو حذوها، إلى يوم القيامة!
· وفيها تشعر بإبراهيم – عليه السلام -، وكيف كان يقينه بالله، وهو يُؤمر بإلقاء ولده الوحيد، مع زوجته، في الصحراء، وفي وادٍ لا عيش فيه، وهو لا يدري العِلَّة من هذا الأمر الرباني؟! وهنا تتبين مهمة الأنبياء الصعبة والشاقة، ومدى ابتلائهم من قِبَل الله تعالى، لنتعلم منهم اليقين!
ويا ترى كيف كانت ردَّة فعل زوجته، عندما صاحت وقالت: يا إبراهيم، لمن تتركنا؟!، ثم قولتها: (آلله أمرك؟)، فهزّ برأسه (أي: نعم)، فقالت، بكل يقين: (إذاً، لن يضيعنـا الله)..
· إنها دورة تدريبية، لكي نتعلم اليقين والتوكل والسعي.
ولذلك علَّم الله – تعالى – اليقين للمسلمين، وكان ذلك بعد فتح مكة..
بأن نزلت الآية: {إنما المشـركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.. وقد اهتز المسلمون بهذه الآية، كيف واقتصاد مكـة كلها يعتمد على الحج؟!.. ولكـــن الله أكمل الآية وقال: {وإن خفتم عَيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء}، أي ليس بالسعي، بل بالمشيئة.. وقد تكون في غير مكانها، كما في بئر زمزم!! فليس الرزق مقروناً بالمشـركين، وسيجعل الله مخرجاً، وقد فتح الله عليهم بركات الأرض والسماء بعد فتح مكة. وأعطاهم درساً بأن جعل الصفا والمروة من شعائر الله، لأنها كانت من شعائر المشـركين، فقد كان أكبر أصنامهم (هُبل ومناة واللات) على الجبلين، فعندما ذهبوا إلى عمرة القضاء (في 7 هجرية) قبل الفتح، تحرجوا من السعي بين الجبلين، وبهما هذه الأصنام، وترددوا في السعي! فنزل قوله تعالى: {فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم}، فتبين لهم أن شعائر الله لا تتبدل بكفر الكافرين، أو عمل المشـركين.

ذكريـات:
عند أداء هذه الشعيرة، وسعيك بين الصفا والمروة، تنظر إلى جبل الصفا فتتذكر:
· بدايات دعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وكيف أنها بدأت ببناء قواعدها العقديـة عند جبل الصفـــا، في بيت (الأرقم بن الأرقم)، أيام الدعوة السـرية، التي استمرت ثلاث سنوات، ولم يعلم أي مشـرك أن اجتماعاتهم كانت في بيته، لكونه:
1- صغير السن (17 عام). 2- كون بيته بعيداً عن أنظار أهل مكة. 3- لأن الأرقم بن الأرقم كان من بني مخزوم، الذين حملوا لواء المنافسة والعداوة مع بني هاشم. فلم ينتبه أحد، أو يخلد إلى تفكيره، أن بيته كان مركزاً لتبليغ الدعوة الإسلامية في أول أيامها.
· موقف النبي، عندما صعد الجبل، وجهر بالدعوة لأول مرة! وذلك عندما نزلت الآية {فاصدع بما تُؤمر}، و{وأنذر عشيرتك الأقربين}، وكيف صدع بالأمر، وأنذرهم.. إنه شعور يوحي إلينا مدى التزام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة إلى الله، ومدى تقصيرنا تجاه مهمة الدعوة إلى الله، وتبليغ قول الحق، وسلوك طريق الحق المبين، وتقصيرنا نحو أُسـرتنا وعشيرتنا ومجتمعنا لهدايتهم إلى المنهج الرباني القويم..
· موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فتـــح مكــة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، فأول ما قام به هو الطواف حول الكعبـة، وتحطيـم الأصنام؛ رمز الوثنية والشـرك، ثم التوجـــــــه إلى جبـل الصفـا؛ مركز الإعلام حينها! واستقباله الكعبة، وتحميده لله وتوحيده، وهو يقول:- (لا إله إلا الله، وحده لا شـريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصـر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
ودعا.. ولهذا كان من السنّة أن تستقبل الكعبة على الصفا والمروة، وأن تدعو الله، والدعـــــاء مستجـــــاب بإذن الله..
إنه شعور بالفتح المبين، والنصـر من عند الله، لجند التوحيد، والكتيبة المؤمنة بالله، والمنتهجة بنهجه: {إن تنصروا الله ينصركم…}{وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}..
ولهذا كان أجر هذا المنسك، كما روي عن ابن حجر العسقلاني، في مختصـر كتاب الترغيب والترهيب/ باب الحج.. في حديث طويل، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه –، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (… وأما طوافك بالصفا والمروة، كعتــــــق ســـبعين رقبة..)! ســـــــــبحان الله، إن عتق رقبة واحدة تكفيك لنجاتك من النار، فكيف بسبعين.. هنيئاً لك أخي الحاج.. ولكن استشعر معاني هذه الشعيرة!

المُلْتـَـــــــزَم:
وهو مكان من الكعبــة المشـرفة، يقع بين باب الكعبــة وبين الحجر الأسود، وقد سُميَّ بهذا الاسم لأن الناس يعتنقونه، ويضمونه إلى صدورهم.. ويقال إن سبب التسمية: أنه كان حقاً على الله أن يستجيب عنده الدعوات.. وقد وردت أحاديث نبوية عنه:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
1- (الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء، وما دعا عبدٌ الله تعالى إلا استجاب له)..
2- روى ابن عباس: (ما بين الركن والباب يُدعى الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه إياه). رواه البيهقي موقوفاً، وفيه ضعف)..
لذلك كان ابن عباس يقول: (ما دعوت الله في هذا الموضع، إلا استجاب الله دعائــي)!
ولمعرفـــة كيفيـــة الدعـــاء:
هو ما ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: (طفتُ مع عبدالله، فلما جئنا دُبُر الكعبة، قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضـى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب، فوضع صــدره ووجهــه وذراعَيــــه وكفيــه هكذا، وبسطهما بسطاً)، ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعله). رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني.
لذلك فكيفيــة الدعــاء هو : وضع الصدر والجسم، والخدّ الأيمن، وبسط الأذرع على الملتزم، والدعـــاء.
ومن الملاحظ أنه عندما تلاصق جسدك بالبيت عند الملتزم، فأنت تتجاوز (الشاذروان)، الذي هو البناء المائل حول الكعبة. ومن المعلوم أن هذا البناء هو الإطار الخارجي للكعبة، وهو ليس من الكعبة، فعند تجاوزك هذا الإطار المائل، فأنت تدخل بكامل جسدك إلى داخل الكعبــة.. لأنه بمجرد تجاوزك (الشاذروان)، فالمسافة القصيرة تعتبر من الكعبة التي لم تُبنَ، أي أنت موجود داخل الكعبــة! فتشعر بإحساس عظيم وأنت تدعــو الله، وبهــذه الصورة؛ ملتصقاً بكامل جسدك، رافعاً أذرعك، باسطاً كفيك، واضعاً خدك على الكعبــة، تستشعر بمذلتك أمام الله.. وهناك تسكب العبرات..!
ولذلك كان الحسن البصـري، عندما يذهب إلى الحج، ويتجه نحــو الملتزم، يقول لتلامذته ومُريديه: (تَنًحَّـوْ عنِّي، حتى أُقِرَّ لربي بذنبي)!
وكان الصحابة يفعلون ذلك قبله.. لذلك قال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لمن لم يستطع البكاء: (ابكوا.. فإن لم تجدوا بُكاءً، فتباكَوا).. وكل من استلمه بصدق، ودعا عنده، إلا تقبَّل الله دعوته.. إنها مجرّبـة! .. جرّبـها، لتعلم ذلك!

الحِجْـر (أو ما يسمى بحِجـْر إسماعيل):
وهو البناء المستدير على شكل نصف دائرة بجانب الكعبة، والذي يقع في الجزء الشمالي من الكعبة، ويحاذ أحد طرفيه الركن الشمالي (الركن العراقي)، والآخر يحاذ الركن الغربي (الركن الشامي). وسُمي بالحِجْر: لتحجره عن الناس.
عندما عجزت قريش عن بناء الكعبة كاملة، لمّا تشققت جدرانها، نتيجة للانجرافات المائية – حيث إن موقعها في أسفل الوادي – وأرادوا إعادة بنائها من القواعد، فلم تكفِ أموال قريش، فتعَّهدوا أن يُجْمِعوا أموال البناء بالطرق المشـروعة، ولم تكن من أموال النهب، أو السلب، أو حتى الربا! فتُرِكت مسافة 3 أمتار من الكعبة بدون بناء، وقاموا ببناء جدار على ارتفاع 1،3م، وبشكل نصف دائري، يحيط بطرفي الكعبة الشمالي والغربي، لذلك فليس كل القوس يعتبر داخل الكعبة، بل 3 أمتار من جدار الكعبة الموازي للقوس فقط.

حيث روي عن عائشة – رضي الله عنها – عندما سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الجدار: أمِنَ البيت هو؟ قال (صلى الله عليه وسلم): (نعم). قالت: فما لهم لم يدخلوهُ في البيت؟ قال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنَّ قومك قَصُرت بهم النفقة؟…) (رواه البخاري).

وعن عائشة (رض) عنها أنها قالت: (كنتُ أُحِبُّ أن أدخل البيت فأُصَلي فيه، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيدي وأدخلني الحِجْرَ، فقال: (صلِّ فيه، إن أردْتِ دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت)! (حديث حسن).
سبحان الله.. وهذا من لطف الله علينا، ورحمته بنا، أن جعل لنا مكاناً يستطيع عامة المسلمين أن يغتنموا فرصة الصلاة داخل الكعبة في الحِجْر – ولكن على أن لا يزيد عن 3 أمتار – من جدار الكعبة!
أما عن تسميته بحِجْر إسماعيل، فيقال لأن إسماعيل قد اتخذ فيه أريكــة ليستظل تحتها.. وقيل: لأنه مكان قبر إسماعيل، وأُمه هاجر.. ولكن الأصح أنها تسمية خاطئة، لأن الحِجْر أصلاً قد تم إنشاءه في عهد قريش، ولم يكن موجوداً في عهد إسماعيل، بل كانت الكعبة كاملة في حياة إسماعيل.. فالتسمية هي عامة، وليست شـرعية، والله أعلم..

  • ويُقال: إن (الحطيـم) هو نفسه الحِجْر، وهو الأصح، والله أعلم، وسميَّ بذلك:
  • لأنه جزء من الكعبة، وقد كان محطوماً، لعدم القدرة على البناء.- لأنهم في الجاهلية كانوا يلقون ملابسهم داخله، والتي بها ارتكبوا الذنوب، وكانوا يتركونها داخله حتى تتحطم..
    · ويقال: إنه الملتـزم.
    · ويقال: إنه ما بين ركن الحجر الأسود ومقام إبراهيم، والذي يعتبر من أطهر البقاع على وجه الأرض!
    ملاحظة حول الحِجْـر:
    1- لا يجوز الطواف من خلاله، لأنه جزء من الكعبة، فلا يجوز الطواف داخل الكعبة.
    2- لا يجوز صلاة الفرض داخله، ولكن تجوز صلاة النافلة فيه.
    لنبدأ بأول أيــام الحـــج، وهــو اليــــوم الثامـــن من ذي الحِجَّـــــة : أولاً/ يوم التروية:
    وهو يعتبر أول أيام الحــج المبــارك، وهو سُنَّة مؤكدة، وفيه يجتمع حشود الحجاج كلهم في اليوم الثامن من ذي الحِجة في (مِنـى). وقد سُميَّ بيوم التــرويـــة:
    1- لإرواء النــاس عن مفاهيــم الحــج، أي تــروية مناسك للحجاج، للتهيؤ لليوم العظيم.
    2- أو لإرواء الناس من الماء، حيث كان يفعل ذلك قديماً.
    وسبب تجمعهم في مِنـى، لأنهم كانوا متفرقين، فحجاج بيت الله المتوافدين إلى الحج من كل فَجّ عميق من الدنيا، يجتمعون في مِنـى، لكي يستعدوا ويتهيئوا لمواجهة اليوم العظيم غداً، يـوم العتـق العظيـم، يوم عرفة.
    وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعل ذلك مع المسلمين، بأن يجتمعوا في مكان ما، عندما كانوا يخرجون للجهاد، حيث كانوا يخرجون من المدينة، ويحددون مكاناً، ليجتمع كل المسلمين هناك، حتى يتهيؤوا للجهاد في سبيل الله. لذلك فهو تشبيـــه للتهيؤ للجهاد في سبيل الله!
    لذلك، فالمغزى والمعنــــى من هذا المنسك في مِنى، هو:
    1- أن يجتمع الحجاج المتفرقون كلهم في مكان واحد (مِنى).
    2- تأهبــهم واستعدادهم لليــوم العظيم (يـوم عرفـة).
    3- هو استرخاء فكري وروحــي وجســدي، لكي يستعدوا للأيــام القادمة. ولهذا لم تخصص عبادة فيه، وحتى الصلاة تكون قصـراً، من دون جمع، وبدون نــوافل..
    4- وهو إرواءٌ لتعاليم مناســك الحج، وتذكيــرهم بيوم عرفة، والأيام المقبلة، وأهمية الموقف..
    ثانياً/ يوم عرفة:
    هو ثاني مناسك الحج، ويعتبر من أهم مناسك الحج، وهو الركـن الأعظم للحـج، كما أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (الحج عرفة). متفق عليه. فبدونه لا يتم الحج مطلقاً.. ففي هذا المنسـك العظيم يبدأ حجاج بيت الله، المجتمعون في مِنــــى، بالزحف نحو عرفات، في اليوم التاسع من ذي الحِجة، مع أنَّ هذا المكان ليس من أصل الحـــرم، فهو أرض الحِلّ! وكذلك جبل الرحمة في عرفات.
    وقد سُمّي عرفات:
    1- لأن جبريل – عليه السلام – طاف بإبراهيم – عليه السلام -، ليريه مناسك الحج، فكان يقول له: أعَرِفْت، أعَرِفْت؟ فيقول له إبراهيم: عَرِفْت، عَرِفْت..
    2- وقيل: لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم/ ويسألون الله الغفران..
    3- وقيل: لِتَعَرّف العباد إلى الله تعالى بالعبادات والأدعية والخضوع له.
    4- وقيل: لأن آدم – عليه السلام – لما هبط إلى الأرض، هو وزوجته حواء، تعارفا والتقيا في هذا المكان..
    وهناك معان كثيرة أُخرى..
    ولكن السؤال هنا.. لماذا أعطى الله سبحانه وتعالى هذا القدر لهذا اليوم؟
    لأنّه:
    · يوم الميثـاق الأزلـي، ميثـاق الذّر، بين الله وعبده..
    فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان – يعني عرفة -، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلَّمهم قِبَلاً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}(الأعراف: 172، 173)(رواه أحمد، وصححه الألباني).
    وقد يقول قائل: كيف، ونحن في صُلب آدم؟!
    1- فالآية تدل على أن الله قد ألهم البشـرية كلها بأنه هو ربها وإلهها، وأنه ليس لهم رب ولا إله غيره، وأنه أخذ عليهم ميثاقاً بذلك: {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا}، فلم يعد يقبل منهم أن يقولوا يوم القيامة: نسينا، وكنا غافلين عن هذا الميثاق! أو يحتجّوا بأن آباءهم أشـركوا، وأنهم اتبعوهم في شـركهم، لأنهم من ذريتهم! فشـرك الآباء لا يبرر للأبناء أن يحيدوا عن ميثاق الفطرة؛ لأنه عهد بينهم وبين الله، ولا دخل للآباء فيه! وإن كان الله، من رحمته، لا يحاسب الناس بميثاق الفطرة وحده، وإنما يحاسبهم بعد تذكرتهم على يد الرسل: {رُّسُلاً مُّبَشّـِرِينَ وَمُنذِرِينَ، لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ..} (النساء : 165).
    2- ومثاله، كذلك، كمثال الطفل الصغير الذي لا يتذكر ما قام به منذ الصِغر، وهو لا يدري ولا يتذكر.. وقد أثبت العلم أن 80 % من شخصية الإنسان تكتمل وهو في سن الخامسة من العمر، مع أنه لا يتذكر ما جرى له في هذا العمر أصلاً!
    3- وهذا الحديث يوحي أيضاً أن الله قد أدخل في صلب كل ذرية بني آدم، وفَطَر فيه الوحدانية ووجود الله والإيمان بالغيب.. وهذا مصداق الحديث المروي عن أبي هريرة، عندما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (كل مولود ٍ يولد على الفِطرة، فأبواه يهودانه، وينصـرانه، ويُمًجّسانه).
    · إنه يوم الميلاد الجديد..
    نعم، إنه كذلك.. وكيف لا، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ما من يومٍ أكثر أن يعتــق الله عبداً من النار من يوم عرفــة).. إنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (حديث صحيح أخرجه مسلم).
    فإن كان فضل أغلب مناسك الحج هو عتق رقبة عبد ما، فقد آن الأوان أن يعتق رقبتـك أنت!.. ولكن من الذي يعتقك، ومم يعتـقك؟! إن الذي يعتقك هو الله – عز وجـل -، وسيعتـقك من النار!.. ولكن كيف يعتقك وعليك ذنوب، لذلك فهو يغفر لك ما قدمت وما أخرت، ويعفو عنك..
    ما هو أعظم يوم في حياتك؟ يوم تخرجك من الكلية، أو يوم زواجك، أو.. أو يوم أن تُعتق من النار؟!
    أليس هو بالفعل يوم ميلادك الجديد؟!
    وقد قيل إن الكريم إذا أعتق الأسير، فإنه لا يأسره مرة أُخرى، فكيف بأكرم الأكرمين؟ فإذا أعتقـك، فإنه لن يأسرك!! فأنت مضمون العتق من النار، بعد ذلك، إن شاء الله.
    نعم.. إنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: يوم عرفــة من أكثر الأيام عتقاً من النـار، حتــى من ليلــة القــدر نفسها!.. وقد تكلم العلماء عن أفضليــة يوم عرفـــة، كما هو مبين في الحديث.. ومهما كان، فإن يوم عرفة يتميز عن ليلة القدر، كونه:
    يوماً واحداً، والكل يعلمه، وتوقيت الدعاء والعتق قد بيَّنه الله تعالى، حيث يبدأ من زوال الشمس، بعد صلاة الظهر، إلى غروب الشمس.. لذلك، فالعبد يلح كثيراً في الدعاء بالمغفرة والعتق، في هذا التوقيت.. بينما ليلة القدر تبدأ من غروب الشمس، وحتى الفجر، وقد سترها الله عنا في عشـر ليال!
    ولا يقولنّ قائل إنَّه مخصص لأهل عرفات وحدهم، فالحديث لم يخصص.. وإن كان كذلك، فالذي لم يوفق للذهاب إلى الحج، فعليه الاعتكاف والدعاء والتضـرع إلى الله، في هذا اليوم العظيم، فقد يشمله الله، مع حجاج بيته الحرام، بالعتق العظيم، فالله كريم، ورحمته وسِعَتْ كل شيء، ورب غائب منعه مانع عن أداء الحج، وأشواقه وتضـرعه إلى الله أكثر من الحاضر!
    أما أنت.. يا مَنْ اختــــاره الله، ووفقه للذهاب إلى الحج من بين سائر المسلمين، ووفقه للوصول إلى هذا المكان العظيم، والمشهد المهيب، فاستشعر عظمة الموقف، فقد التقى شـرف الزمان (شهر ذي الحِجَّة)، وشـرف المكان (مكة المباركة؛ خير بقاع الأرض)، وشـرف المشهد (يوم عرفة).. واستشعر أنَّ ملايين المسلمين يتمنون الآن لو كانوا مكانك أنت! وقد اختارك الله من بين كل هؤلاء!.. فلا تفُتك دقيقة إلا وأنت تدعــو الله – عز وجل -، أو تذكــر الله، أو تذرف العيون.. فإنها سويعــات، لا أكثـر..! ولكن ما أغلاها من سويعات!
    يوم مُباهاة الله بأهل الموقف!
  • عن ابن عمر

– رضي الله عنه – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنَّ الله تعالى يُباهي عشية عرفة بأهل الموقف، فيقول: انظروا إلى عِبادي، أَتَوني شُعثاً غُبراً) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

الشعث: تعني متبلد الشعر، ومتغير اللون، أو متسخ الجسم والرأس.
غُبّراً: أي قد تغبَّر جسمه، وصار كالغبار، من طول السفر..

  • وعن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفـــة، وإنَّه ليدنــــو، ثم يباهي الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)(صحيح مسلم).
    وقال ابن عبد البِّر: وهذا يدل على أنهم مغفور لهم، لأنه لا يباهي الله بأهل الخطايا، إلا بعـــد التوبــة والغفران..!
    فتصـور أخي العزيـــز أنك في عرفــة، يوم عرفــة، الذي هو أعظم أيام الدنيا، ولعظمة الموقف قد دنا الله – عز وجل – بنفسه، وبمجيء يليق بسلطانه، إلى السماء الدنيا، مع حشود الملائكــــة، ويباهي الله – عز وجل – أمام الجمع الملائكي، بأهل الموقف، ويقول: انظروا إلى عبادي، قد جاءوا بأمر منّي من كل فجّ عميق، وقد جاءوا شعثاً غبراً إلى هذا المكان، وهم يلبسون لباس الذُلِّ والخضوع، يلبسون أكفاناً ناقصة الرأس والساق، لقد جاءوا وهم يجتمعون على كلمة واحـدة، ألا وهي لا إله إلا الله.. كلمة الوحدانية الخالـدة! لذلك يقول الله عز وجل.. اشهـــدوا يا ملائكتي أنِّي قد غفــرت لهم جميعـــاً.. فهنيــئاً لك أخي الحـــاج:
    · إنَّه يوم الغفران، ومضمون التَبِعات بعد العودة..!
    فعن أنس – رضي الله عنه – أنه قال: (وقف النبي (صلى الله عليه وسلم) بعرفات، وقد كادت الشمس أن تؤوب (أي تغرب)، فقال: (يا بلال، أنصت لي الناس. فقام بلال، وقال: أنصتوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأنصت الناس. فقال: (معشر الناس، أتاني جبريل – عليه السلام – آنِفاً فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله – عز وجل- غفـر لِأهــل عرفــات وأهل المشعــر، وضَمِـنَ عنهُم التَبِعات! فقام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –، وقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة، قال: (هذا لكم، ولِمَن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة.. فقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : كَثُـرَ خيــر الله، وطاب)(أخرجه المنذري).
    · إنّه أشدُّ يوم على الشيطان..
    فقد أخرج الإمام مالك – رضي الله عنه –، في (الموطأ)، بسند مرسل صححه الألباني، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما رُئي الشيطان يوماً، هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة! وما ذلك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العِظام، إلا ما رأى يوم بدر! قيل: وما رأى يوم بدر، يا رسول الله؟ فقال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة هكذا).
    · وهو يوم أكمل الله بــه الدّين والمِلَّـــة، وأتَّم به النِعمة..
    عَنْ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: (أَنَّ رَجُلا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعَاشِرِ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا(سورة المائدة آية 3)، قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ)(أخرجه البخاري).
    أي إنه في هذا اليوم العظيم نزلت آية الإتمام والكمال لدين الله، وفي هذا اليوم أعلن الله – عــز وجل – عن رضاه بأن يكون هذا الدين (الإسلام) هو الدين الخالد إلى يوم الدين، فهي منتهى النعمة علينا نحن معشر المسلمين. ولهذا، فجدير بنا أن نجعل هذا اليوم عيداً، نحتفل بهذه المناسبة العظيمة بالتقرب إلى الله، وأن نشكره على إتمام نعمته علينا، فأعيادنا عبادات نشكر فيها الرب سبحانه.
    · أفضل وقت لاستجابة الدعاء، هو دعاء في (عرفة).
    فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (خير الدعاء دعاء يوم عرفة)(صححه الألباني).
    وفي رواية أُخرى أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شـريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير).
    وقد سُئِل عن هذا الدعاء، أنه ثناء على الله؟! وكان من خير الإجابات التي سمعتها، أنه من َلِزم الدعاء بالثناء على الله، وصدَّه عن كثرة الدعاء لنفسه، فإن الله سيعطيه ما كان يريد وأكثر، فهو علّاّم الغيوب يدري ما كان، وما يكونُ، وما لم يكن لو كان كيف يكونُ! لذلك أكثروا من الدعاء في هذا اليوم العظيم، فإنه مضمون الإجابة.
    ولذلك، كان من أسـرار وحِكمة قصـر الصلاة في يوم عرفة، جمع تقديم على صلاة الظهر، من غير نوافل ولا سنن، كي يتفرّغ الحاج للدعاء والخشوع، والإلحاح فيه. والدعاء هو العبادة، وفيه تتجلّى عبوديتك لله، وحاجتك إليه.
    ومن التجارب والتأمل في هذا اليوم، أنه حتى الخشوع والتضـرع إليه – سبحانه وتعالى- هي منهُ – سبحانه-. فترى الدعاء والخشوع يكون فيه صعوبة عند بداية هذا اليوم، حتى يتم الزوال، فتجد حينها في أدعيتك حلاوة، ويتم الخشوع، وترى الدموع تذرف من العيون، وكأن الله – عز وجل- يقذف بالخشوع على أهل الموقف، ويقول لنا إن الخشوع والتضرع هو مني إليكم.. فلله الحمد والمِنَّة.
    · وهو يوم أقسم الله به، ويعتبر من أفضل أيام السنة!
    فالعظيم لا يقسم إلا بعظيم أمر.. فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: {وشاهد ومشهود} (سورة البروج). فعن أبي هريرة – رضي الله عنه –، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (اليوم الموعود: يوم القيامة، واليوم المشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة)(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
  • وهو في قول ابن عباس من الأيام المعلومات، المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}، وهو يوم عيد لأهل الموقف، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام مِنى، عيدنا أهل الإسلام) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    لذلك لا يجوز الصوم في هذا اليوم، وهو سُنَّة لغير الحاج.. وما أروع ما قاله العالم الجليل سفيان بن عُيينة: كيف يكون أهل الموقف صائمين وهم ضيوف عند الرحمن!؟
    · وفيــــه (خطبة الوداع)، التي بيـَّن فيها المعالم الأساسية لهذا الدين العظيم..
    ومن أفضل شعائر يوم عرفة، والتي يغفل عنها الكثير، هي خطبة عرفات! حيث فعلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفيها أخبر عن فضائل هذا اليوم العظيم، وحدد فيها ملخصاً عن النظام الإسلامي القائم على العـدل، وأدلى بوصاياه إلى المسلمين الحاضرين، والذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين.. حيث خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطبة في (عرفة)؛ في حجته الأولى والأخيرة، ولخصَّ مضمون النظام الذي جاء به من عند الله – عز وجل -.. ولم يتكلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن التوبة، والغفران، والصلاة، والمنكرات، ولكن تحدث عن النظام الإسلامي، وقضاياه الأساسية، وبيَّن الخطوط العريضة، والبنود الأساسية، لهذا الدّين!
    فعندما نذهب إلى هناك، يجب أن نستشعر هذه الوصايا، وهذه الخطبة الجامعة، لكي يتبين لنا مضمون الإسلام الذي نؤمن به! ومنها يتبين عظمة هذا الركن، والذي يعتبر هو الحج، وحتى إنْ متَّ فقد تم حجك، وكما قالها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (الحج عرفـة).
    وإليك ملخصاً من هذه الخطبة، لتستشعرها:
    1- الدماء: (… خَطَبَ النبي (صلى الله عليه وسلم) النَّاسَ، وَقالَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ علَيْكُم، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كانَ مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ)(رواه مسلم في صحيحه، برقم 1218).
    2- الربا (النظام الاقتصادي): (… وإنَّ ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول ربا أبدأ به هو ربا عمّي العباس)، وقد كان يجني منه الكثير من الأموال..
    3- انتهاء الشرك في البلاد: (… قد يئس الشيطان أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك).
    4- حقــوق المرأة: (… لقد أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فرُوجهُنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النســـاء، واستوصوا النساء خيراً)!
    5- الأخــوة الإيمانية:.. الإخوة مبنيَّة على أساس العقيدة، لا على أساس العرق، أو القوم، فلا يحلُّ لكم دماءكم وأموالكم..
    6- الوِحدة في العبودية (لله عز وجل).. ووِحــدة المنشــأ (آدم)، ووِحدة الأصل (التراب).. لذلك، فلا فرق بين أعجميّ أو عربي، إلا بالتقوى!
    7- الحفاظ على النسل البشري!.. التأكيد على النسل (العِرض)، والحفاظ على الأُسـرة، التي هي اللَّبِنة الأساسية في ديمومة وارتقاء المجتمعات!
    وختم بكلامه الخالد: (ألا فليـُبَلِّغ الحـاضر الغائـب.. ألا هل بلَّغْــتْ. اللهم فاشهد).
    بالفعل، لقد حدَّد الإطار الخارجي للنظام الإسلامي القائم على العبودية لله وحده: ِوحدة المنشأ، والأصل، وأن الكل سواسية عند الله، وأن معيار التفاضل هو التقوى.. وأمر أن تكون هذه المساواة ممزوجة بالإخوة الإيمانية، القائمة على أساس العقيدة، وتحريم دماء وأموال المسلمين بعضهم على بعض، مع بيان حقوق المرأة، والتأكيد على النظام الأُسـري، وبيان النظام الاقتصادي، الذي تبُنى عليه دولة الإسلام!
    لذلك، فأنت تستشعر وكأن هذا الكلام موجَّهٌ إليك، وسيشهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قد بلَّغَك كلامه، ووصاياه.. فاعمل بها..
    وأخيراً.. كل هذه الفضائل التي ذكرتها عن يوم عرفة، وعظمة هذا اليوم، والمعاني العميقة فيه، هي لكي يكتمـل عندك مفهـوم واحد فقط، ألا وهو (الولاء لله).. الذي هو جزء من معنى شهادة أن لا إله إلا الله.. وكذلك يدخل في معنى ركن من أركان العقيدة، وكذلك يعتبر شرطاً من شروط الإيمان..
    نعم..
    · لقد أتممتْ مُراد التلبية لله.. لأن معنى (لبيك اللهم لبيك) هو إعــلان عن الولاء للـه وحده.. وهو نِعم المولى، ونِعم النصير.. هو الــولاء للرحمان، في جبل الرحمة!
    · وقد أدَّيتَ العبودية التامّة له، بأن قدَّمت مُنتهى التذلل والخضوع لله، كونك تكبر الله، وتدعوه، وأنت أشعث، أغبر، ملفوف بالإحرام..
    · وقد أتممتَ دعوة إبراهيم – عليه السلام – التي دعاها، عندما أمره الله بأن يُؤذِّنَ للناس بالحج.. قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}�﴾ سورة الحج.
    وقد استَكْملتَ الإيمان بالولاء لله – سبحانه -، كما أخبرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (مَنْ أَحَبَّ لله، وأَبغَضَ لله، وأَعطى لله، ومَنَعَ لله، فقد استكمل الإيمان)(رواه أبو داود).

فهنيـئاً لك أخي الحاج، بأن رزقك الله الوقوف بعرفة، بجِوار قومٍ يجأرون إلى الله، بقلوبٍ محترقة.. ودموعٍ مُستبِقة. فكم فيهم من خائف؛ أزعجه الخوف وأقلقه.. ومُحِب؛ ألهَبَهُ الشوق وأحرقه.. وراجٍ؛ أحسن الظن بوعد الله وصدَّقَهُ.. وتائب؛ أخلص لله التوبة وصَدَقَهُ. وهاربٍ؛ لجأ إلى باب الله وطَرَقَه.. وكم هنالك من مستوجب للنار، أنقذه الله وأعتقه.. ومن أعسر الأوزار فكَّه وأطلقه.

ثالثاً/ المُزدَلِفة:
ولها ثلاثة أسماء، وهي: 1-المزدلفة 2- جُمَع 3- المشعر الحرام..
وهي تعني ازدلاف الناس إليها، أي تجمع الناس فيها. وقيل: إنها تعني أنك تزدلف إلى الله، أي تتقرب إليه سبحانه وتعالى..
فبعد إتمامك الركن الأعظم من الحج، ألا وهو عرفـة، وقد كتب الله لك يوماً جديداً، وحياة جديدة، فإن الله أمرنا أن نندفع نحو المزدلفة:
{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}.
والمشعر الحرام هو المزدلفة.. فتأمل معي أخي الحاج، في اللفظ القرآني العظيم: {فَإِذَا أَفَضْتُم}، وكيف أن الحجاج، المجتمعون كلهم في (عرفات)، يندفعون ويفيضون نحو (المزدلفة)، وكما أمرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بسكينة ووقار، عندما قال: (أيها الناس السكينة، السكينة..).
فتصوّر، كيف تسير هذه الكتل البشـرية بهدوء وسكينة ووقار، فلا أحد يؤذي أحداً، ولا أحد يزاحم أحداً، فالكل يذكــر الله على هذه النعمة التي أنعمها عليه، وأعطاها الله إيّاه، بأن بلَّغه هذا المكان العظيم، وأتَمَّ أهم ركن من أركان الحج، وغفر له ما تقدم من ذنبه، وقد خرج كيوم ولدته أُمه.. وقد قال بعض العلماء: إن أول ذنب يذنبه الحاج، بعد (عرفة)، هو أن الشيطان يدخل في قلبه الشك: إن كان قد غفر له أم لا؟! فهذا أول ذنب يرتكبه.. لذلك، عليه أن يتيقَّن بالمغفرة، وأن يحمد الله، ويكبر، ويستمر في التلبية..
إنه استشعار بمعنى عميق، يشغل خاطر كل من يشاهد هذا المشهد العظيم..
· إنه تشبيه مصغر للمحشـر، عندما يتدافعون، وينفرون إلى المزدلفة.
· إنه استشعار بعقوبة الله على الظالمين، مهما كان ظلمهم وجبروتهم، عند مرورك بـ(وادي محسـر)، الممر الوحيد لدخول المزدلفة؛ الوادي الذي أهلك الله فيه (أبرهة الحبشي)، ومَنْ معه، عندما حاولوا هدم الكعبة المشـرفة، وكيف أن الله أرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول!.. لذلك، فعليك بالإسراع في تجاوزه، كما أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (إذا مررتم بديار الظالمين فأسرعوا، قبل أن يصيبكم ما أصابهم)، لكي نستشعر هول عقوبة الظالمين.
· وبمجرد خروجك من مكان الحِلّ (عرفة)، ودخولك مكان الحرم (المزدلفة)، فعليك أن تستسلم لأوامر الحرم وقوانينه!.. وقانون الدخول في الحرم، هو من بوابة المزدلفة.. وأول ما تُؤمر به هو (المبيت) في المزدلفة، وله حكم الوجوب؛ ويعني البقاء فيها ليلاً.. ومن السُنَّة النوم فيها، كما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)! نعم.. ننام بعد أن نصلي المغرب والعشاء فيها قصـراً وجمعاً.. وليست فيها أيّ عبادة أُخرى.. فبعد أن أدَّيت أعظم مناسك الحج، ودعيت الله، وتضـرعت إليه – سبحانه -، وبعد هذه المشقة، وهذا اليوم الطويل، فعليك بالنوم.. لكي تستريح بعد هذا التعب، وتستقوي على إتمام ما بقي من مناسك الحج.
· وقد سميت المزدلفة بالمشعر الحرام، لكي تستشعر بدخولك الحرم.. لذلك قيل إن المزدلفة كلها مشعر حرام.. وهناك بعض العلماء يقولون إنَّ المشعر الحرام هو جبل في المزدلفة (جبل قُزَح)، وقد بُني عليه مسجد يسمى بمسجد المشعر الحرام.. ولكن الأصح أنك حيث ما وقفت فهو المزدلفة، كما أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (وقفت هاهنا، وجَمْع كلها موقف)، وفي رواية أُخرى: (وقفت هاهنا، ومزدلفة كلها موقف)، وقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) على جبل قُزَح.
· واستشعر بهذا النوم الذي لم تذقه من قبل.. فيا حلاوة هذا النوم، بعد هذا المهرجان الذي التقى فيه أهل السماء بأهل الأرض من حجاج بيت الله، ويا بساطة هذا النوم على الأرض دون أن تغطي الرأس والأرجل (لأنك مُحْرِم، ولا تجوز تغطيتهما مهما كان)، لكي يشعرك بفقرك ومساواتك مع كل الحجاج، فقد تستطيع أن تنزل إلى مكان مريح في (مِنى)، أو في (عرفة)، ولكن في هذا المكان لا يوجد مكان مخصص؛ الكل على الأرض، لا وجود لمبنى أو مخيم أو مأوى، كل الحجاج منتشـرون في مزدلفة، الناس في كل مكان، كأنهم جراد منتشر!
· ثم تُصلي صلاة الصبح في مزدلفة، وبعدها تزدلف إلى الله، وتتقرب إليه.. والعِبرة من هذا المنسك، هي وقفة تأمل وتفكر فيما جرى من غفران كل السيئات، التي كانت في صحائفك طوال هذه السنين كلها، وفي ساعتين أو أقل، عند وقوفك في (عرفة)! فأيّ كرم، وأيّ رحمة من الله – سبحانه – تتجلى لنا..
· ثم تتفكر في كونك مأموراً باستغفار الله، بعد غفران الذنوب، وقبول التوبة، في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثم أَفيضُوا مِنْ حَيثُ أَفاضَ الناس واستَغفِروا الله إنَّ الله غَفور رَحيم}، أي أنه ذكّر لله، وتأملٌ على الهداية والتوفيق لبلوغ هذه المنزلة العظيمة.. وهو استغفار شكر، أو تقصير في الشكر.. وقد بيّن العلماء أن هناك أنواعاً من الاستغفار:
1- استغفار من الذنوب.. ويشمل طلب غفران الذنوب من الله.
2- واستغفار شكر.. وهو خاص بالنبي.. كما في الحديث، عندما سئل (صلى الله عليه وسلم) ، عن سـر كثرة صلاته، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)! وقد وجد الصحابة أنه كان يستغفر في المجلس أكثر من سبعين مرة، وهو المغفور الذنوب!
3- واستغفار عن التقصير في الشُكر!.. وهذا ما نفعله في مزدلفة!.. نستغفر الله على تقصيرنا في شكرنا لله.. وعلى نِعَمِهِ التي أنعمها علينا.. وعلى بلوغنا هذه المنازل، وقد أعتقنا، وعفا عنا!..
· ولقد كان الكفار قبل الإسلام، عندما كانوا يحجّون، يأتون إلى مزدلفة، ويثنون على آبائهم وأجدادهم، وعلى أنفسهم، ويقيمون الإشعار هناك. لذلك قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}(سورة البقرة/200)، أي كما كنتم تفعلون ذلك من الثناء، فاثنوا واشكروا الله على ما أنعم عليكم، بل وأكثر مما كنتم تثنون على آبائكم..
وقد انتابني شعور.. أنه لكي تدخل من مكان الحِل إلى مكان الحرم، كان لِزاماً عليك الدخول من باب المزدلفة، ولكي تتمكن من الدخول إلى مِنى، ورمي الجمرات، فعليك الدخول من باب الازدلاف والتقرب إلى الله تعالى، وحينها تتقدم بالإفاضة إلى مِنى.. لكي تستمر في إتمام الرحلة العظيمة، وهي تكملة باقي مناسك الحج في أعظم أيام اللـه..

رابعاً/ يوم النحر العظيم:
وبعد النفرة من المزدلفة إلى مِنى، وأنت مستمر بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد، وبعد بزوغ فجر يوم النحر، والذي يعتبر من أعظم الأيام عند الله، كما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (أفضل الأيام عند الله، يوم النحر، ثم يوم القَرّ)، ويوم القَرّ هو اليوم الذي يلي يوم النحر، أول أيام التشريق (أي القرار في مِنى).
وكذلك روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يوم النحر هو يوم الحجّ الأكبر)، وهو المقصود في الآية: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر..}، وهذا هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ولأنه فيه تمام أعمال الحج، وأكثر شعائره.
وقد اختلف العلماء في أفضلية يوم عرفة، أو يوم النحر، في كون يوم عرفة هو أعظم يوم يعتق فيه العباد، ولكن الأرجح – والله أعلم – أن يوم النحر هو الأفضل، لما فيه من الأعمال العظيمة؛ وهي:
1- أنها تشمل جزءاً من الوقوف بعرفة (لأن يوم النحر يبدأ من غروب يوم عرفة)! 2- المبيت في المزدلفة، والوقوف فيه. 3- رمي جمرة العقبة الكبرى. 4- النحر. 5- الحلق والتقصير. 6- طواف الإفاضة (وهو ركن من أركان الحج). 7- طواف السعي (وهو أيضاً من أركان الحج).

أعمال يوم النحر:
1- جمرة العقبة (الجمرة الكبرى):
إنه أول عمل يقوم به الحاج في هذا اليوم العظيم، وذلك برمي سبع حصيات صغار إلى نصْب رمزية الشَّــر في الأرض!.. إنها لحظــة انقلابية في حيــاة المؤمــن.. تُعــلِن ُ فيها (البراءة) من الشيطان، وحــزبه، وأعوانه!
فكما أنت في عرفة أعلنت (الولاء) للرحمن، فها أنت تُعلِنُ عند الجمرة الكبرى (البراءة) من الشيطان، وكل أعوانه من طواغيت الأرض، الذين يحاربون الدِّين، ولا يدينون بدين الحق!
وبذلك تكون قد اكتملت معالم [الولاء والبراء] في حياتك، وأصبحتَ مسلماً حقاً؛ توالي الرحمان، وتُعادي الشيطان!!
لذلك، فأنت عندما ترمي الجمرات السبع، تقول عند كل جمرة: (بسم الله، الله أكبر، رغماً – أو رجماً – من الشيطان وحِزبهِ).
وبعد رميك الجمرات السبع، تنقطع عن التلبية التي كُنتَ ترددها منذ مجيئك من بلدك إلى هذا المكان العظيم، لأن معنى التلبية هي الاستجابة لما يريده الله منا، وقد تحققتْ مُرادات الله فينا؛ فقد حققتَ معالم الــولاء والبراء، التي هي أساس عقيدة المؤمن.. فما فائدة عباداتنا إن لم نكن موالين لدين الله وأهله، ونعادي كل من يحارب الإسلام، ولو في جزئية من جزئياته!؟
نعم.. لقد حققتَ مراد الله فيك، واستجبت لله تعالى، وهذا هو سـر الانقطاع من التلبية، بعد رمي الجمرة الكبرى.. وتنقلب التلبية إلى تكبيرات! (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، والله أكبر.. الله أكبر، ولله الحمد)!
وفي اللحظة التي يرجمُ الحاج فيها رمزية الشيطان، فإن كل المسلمين في بقاع الأرض يكبرون الله ويوحدونه، ويُصَّلون صلاة العـيد، مُكبرين سبع تكبيرات!.. وكأنه اتصال وجداني مع إخوتهم الحجاج، عندما يُكبرون مع كل حصاة من حصواتهم السبع..! أي أنَّ كل مسلم في العالم يُعلِنُ العداوة للشيطان وحزبه!! ولهذا، كان السـر من وراء عدم الدعــاء بعد الجمرة الكبرى، وذلك لحصول مُراد الله فيك!
· ويستشعر الحاج بالصـراع الأزلي بين البشر الممتثلين لأوامر الله، وبين الشيطان وحزبه، الذين عاهدوا على غِواية الإنسان.. وتتذكر الآيات القرآنية العظيمة التي تبين فيها مدى عداوة الشيطان لنا في أواخر (سورة ص): {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وتتذكر أنت وعد الشيطان بأن لا يذر من البشـر مَن يكون من الشاكرين، عندما قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(سورة الأعراف).. فأنت تدحضُ وعده وقوله، عندما تُعلنُ عبوديتك وانتماءك لله وحزبه! مصداقاً لقوله تعالى في (سورة الحجر): {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}.
· وتتفكر في تسميتها جمرة العقبة! فهو استشعار بقوله سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة* أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (سورة البلد).
فهذه شـروط الاقتحام من العقبة، لدخول الجنـة..!
فأنت تستشعر عقَبَتَكَ التي تعترضك لدخول الجنة.. هل هي كبيرة أو صغيرة.. ثم ترفع يدك وتكبر: (الله أكبر).. وترمي الجمرة بتلك النية، فيحصل لك المراد، وتُجزى بفضل ذلك الأجر كله.. وبهذا تكون قد اجتزت العقبـة، عند جمرة العقبة!
· وهو مكان تستشعر فيه موقف إبراهيم، ومقاماً من مقاماته – عليه السلام – مع الشيطان.. عندما حاول أن يصده عن أعظم استسلام لله في التاريخ؛ عندما أُمِرَ بذبح ابنه إسماعيل – عليه السلام -.. فلم يستطع منعه.. وَرَجَمَه بالجمرات السبع.. إنه مقام عظيم من مقامات إبراهيم – عليه السلام -.
لذلك لا نستغرب ما ورد من الأجر الجزيل لمن يرمي الجمرات، في الأحاديث النبوية الشريفة:

  • فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه –، في حديث طويل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (… وإذا رمـى الجمـار، لا يـدري أحـد مـا لـه حتـى يوفـاه يـوم القيامـة…)(حسنه الشيخ الألباني).
  • عـن ابـن عبـاس – رضي الله عنه – قـال: قـال رسـول الله (صلى الله عليه وسلم): (إذا رميـت الجمـار؛ كـان لـك نـورًا يـوم القيامـة..) (حسنه الألباني).. فتأمل قيمة النور في المحشـر!
  • وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه –، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (.. وأمـا رميـك الجمـار، فإنـه مدخـور لـك…) (حسنه الشيخ الألباني).
  • عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه –، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (.. وأمـا رميـك الجمـار؛ قـال الله – عـز وجـل -: {فَلاَ تَعْلَـمُ نَفْـسٌ مَّـا أُخْفِـيَ لَهُـم مِّـن قُـرَّةِ أَعْيُـنٍ جَزَاء بِمَا كَانُـوا يَعْمَلُـونَ} (علق عليه الألباني: صحيح لغيره).
    2- الذبح (الهدي):
    ويعتبر ثاني أعمال يوم النحر، حيث يقوم الحاج، المتمتع أو القارن، بإهداء ذبيحة للحرم؛ تقرُباً لله تعالى، وشُكراً.. قال تعالى: {فَمَنْ تمتع بالعمرة إلى الحجِّ فما استيسر مِنَ الهدي}.
    فعليك، بعد أن رميت جمرة العقبة الكبرى، أن تفدي لنفسك فِداءً، اقتداءً بإبراهيم – عليه السلام -، الذي افتدى عن ابنه إسماعيل – عليه السلام -، بعد الابتلاء العظيم الذي ابتلاه الله تعالى، بأنَّ يذبح ابنه، ونجاحه في هذا الابتلاء العظيم، بعد أن أسلم الأب والابن لأوامر الله تعالى، ورضيا بقضائه..
    فاستشعر هذه الآيات، في هذا الموقف، عندما تهدي لله تعالى:
    {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ * فَبَشّـَرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
    نعم، هو البلاء المبين! وتأمل معي أنَّ الإسلام هو التسليم لكل أوامر الله تعالى، وقد اكتمل إسلامهما عندما رضيا بقدر الله، وتسارعا لإتمام الأمر الإلهي بتنفيذ الذَّبح، وحينها قال الله تعالى {فأسلما}! فجعل الله تعالى أن يفدي كل منَّا بذبيحة من بهيمة الأنعام، رحمة منه – عز وجل – ومِنَّة،
    لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
    (خَير الحجّ العجُّ والثَّج) (رواه الترمذي، وابن ماجه).
    والعَجّ: هو كثرة التلبية بصوت مرتفع.. والثَّج: هو كثرة الذبح..
    فخير الحج يكون بكثرة الذبح، لما فيه من معاني الفداء لله تعالى، وتقرباً إليه سبحانه.
    واعلم أخي الحاج، وتذكر، عند الذبح، هذه الآية القرآنية: {لَنْ يَنال اللهُ لحومها، ولكن يناله التقوى منكم}..
    نعم.. إن الله غنيٌّ، لا ينال من لحومها، ولا دمائها، فهو الغني – جلَّ شأنه -، وإنما يناله الإخلاص منها، والنية الصالحة، والاحتساب عند الله.
    وفي رواية عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه –، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال، في حديث طويل: (.. وأما نحْرك، فمدخورٌ عند ربِّك…) (علق عليه الألباني: صحيح لغيره).
    فاسأل الله أن يدخّرَ لك ثواب نَحـرِكَ وهَديك..
    ملاحظة بشأن المصطلحات الفقيه للذبيحة:
    1- الهدي: يكون داخل الحرم كله، وليس داخل مِنى فقط، ويكون للمتمتع والقارن، وأمره أمر الوجوب، ويمكنك أكله..
    2- الفِداء: هو لمن عمِل محظوراً من المحظورات.. ولا يجوز أكله.
    3- الأُضحية: سنة مؤكدة، ويمكنك ذبح الشاة في أي مكان.. ويجوز أكلها.
    3- الحَلـق، أو التقصير:
    وثالث أعمال النحر هو حَلق الشعر، أو تقصيره.. فبعد أن قَدَّمتَ آية البراءة من الشيطان وحزبه، عند جمرة العقبة. وبعد أن فديت لنفسك بذبيحة، وقَدَّمتَ قُرباناً لله تعالى، ليَمُنَّ الله عليك.. فإنه قد كتب لك حيـــاة جــديــدة، وغُــفِــر لك.. فَــقَــدِّم الآنَ لله تعالى آية العبودية!
    نعم.. قَدِّم رأسك لحلاقك، بأن يحلقه من اليمين إلى الشمال.. لماذا؟
    لأنها عــلامة منتهى الإذلال، ومنتهى الإعلان عن عبوديتك لله عــز وجــل، بأن تقول: يا رب، هذا رأسي لك..!
    وقد كانت العرب قديماً إذا أرادوا أن يعتقوا عبداً، كانوا يحلقون رأسه، ثم يطلقونه، علامة إذلاله.. لذلك أراد الله تعالى، تعليماً للأُمة، بأن يتخــرج الحاج، من مــدرســة الحجّ، وقد اجتــاز كل مراحل الانصياع والسمع والطاعة، وبلغ منتهى العبودية لله تعالى، والاستسلام التام لأوامره سبحانه.. وهذا هو معنى الآية: {فلمّا أسلما، وتلــَّه للجـبـيـن}!
    وهذه هي حقيقة التحرر من كل نوازع النفس، لأنَّ منتهى العبــودية لله تعالى هو منتهى التحرر من كل ما يعيقك، ويقيدك، من النوازع البشرية.
    وبما أنَّك ما زِلتَ تحت بنود وقوانين الإحرام، التي تلزمك وتمنعك من أمور عديدة، تصل إلى حد منعك من نتف شعرةٍ من شعرات جسمك.. فلكي تخرج من الإحرام تماماً، عليك فعل ثلاثة أمور، وهي: 1- رمي جمرة العقبة 2- حلق أو تقصير الشعر 3- طواف الإفاضة.. وبعمل اثنين من هذه النقاط الثلاث، فإنك تخرج من ملابس الإحرام، وكل ما حُرِمتَ منه، إلا النساء، ويسمى هذا التحلل بالتحلل الأصغر.. وإن أتممت الثلاث، فقد تحللت من التحلل الأكبر، ويحل لك كل ما حُرمتَ منه.
    لذلك فبعد حلقك رأسك، أو تقصيره، وقد قمت برمي الجمار، فقد أتممت التحلل الأصغر، وأديت بنود ملابس الإحرام، وقَدَّمتَ آية العبودية، فهنيئاً لك التحلل، منّةً من الله سبحانه..!
    وتتسارع إليه مستشعراً شوقك إلى دخول المسجد الحرام، وأنت محلق الرأس.. ومن السنّة التعطر والتطيب، كما كانت عائشة – رضي الله عنه – تفعل ذلك للحبيب المصطفى بتعطيره.. وفي ذهنك آيات القرآن العظيم من (سورة الفتح):
    {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا * فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}..
    ومن الأحاديث الشـريفة، التي تؤكد على الأجر الجزيل، هي:
  • عن ابْنِ عُمَر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصّـِرِينَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصّـِرِينَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ)(صحيح مسلم).
  • وعن مالك بن ربيعة السلولي، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (اللهمَّ اغفرْ للمُحلِّقينَ، اللهمَّ اغفرْ للمُحلِّقينَ. قال: يقول رجلٌ من القومِ: والمُقصّـِرين؟ فقال رسولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلِّمَ – في الثالثةِ، أو في الرابعةِ: والمُقصِّرينَ. ثم قال: وأنا يومئذٍ محلوقُ الرأسِ، فما يسـرُّني بحلقِ رأسي حُمْرُ النَّعَمِ، أو خطرًا عظيمًا) (علق عليه الشيخ الألباني: صحيح الإسناد).
    4- طواف الإفاضة:
    وهو رابع أعمال يوم النحر (وقت فضيلة)، فيجوز تأخيره الى أيام التشـريق، أو بعده. ويعتبر من أركان الحجّ، وله عدة أسماء، منها: 1-طواف الحج 2- طواف الفرض 3- طواف الزيارة 4 – طواف الركن.
    وهو يختلف عن طواف القدوم، وطواف النافلة..
    وقد أشار إليه القرآن العظيم بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}..
    البيت العتيق.. هو البيت الأصيل، والذي يعتق فيه العبيد، بطوافهم في اليوم العظيم..!
    فبعد الرمي، والذبح، والحلق، يأتي طواف الإفاضة.. وفيه يفيض حجاج بيت الله الحرام نحو الكعبة المشرفة، ليستكملوا أركان حجهم.. وفيه تفيض العيــون، سائلين الله القبول، مُقتفيــن أثَر الرسول، فهو القائل (صلى الله عليه وسلم): (خذوا عني مناسككم)، مستحضرين الأجر العظيم في قبول توبتهم، وفضله وكرمه في إتمام حجهم.
    وقد بيّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فضله، في الحديث المروي عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه –أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (… وأمـا طوافـك بالبيـت بعـد ذلـك؛ فإنـك تطـوف ولا ذنـب لـك، يأتـي ملـك حتـى يضـع يديـه بيـن كتفيـك، فيقـول: اعمـل فيمـا تسـتقبل؛ فقـد غفـر لـك مـا مضـى…) (حسنّه الألباني).. فهنيئاً لك غفرانك ما مضـى، وأنت تطوف ولا ذنب عليك!
  • وعـن عبـادة بـن الصامت – رضي الله عنه – قـال: قـال رسـول الله (صلى الله عليه وسلم): (…. وأمـا طوافـك بالبيـت إذا ودعـت؛ فإنـك تخـرج مـن ذنوبـك كيـوم ولدتـك أمـك…) (حسنّه الألباني).
    وبهذا يكون قد تحللت التحلل الأكبر، وأدَّيْتَ كل بنود الإحرام التي كانت عليك، وتصبح حراً متمتعاً بما أحَلَّه الله لك..
    5- طواف السعي:
    وهو خامس أعمال يوم النحر، ويعتبر أيضاً ركناً من أركان الحج، ويبدأ بما بدأ به الله تعالى، فقد قال الله تعالى: {إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله}، وبه تتم جميع أركان الحج، ويتم الله نعمته على حجاج بيت الله، بأن أدّوا جميع أركان الحج.
    وأثناء السعي تتذكر أنه قد كتبت لك حياة جديدة عند طوافك، وقول الملك لك: افعل ما بقي من عمرك، فأنت تسعى كأنك تقول: بالسعي سنبلغ الدرجات العُلى من الجنة، وتتذكر أنه بالسعي تنتصـر الدعوات، وتتذكر الحديث المروي عن ابن عمر – رضي الله عنه – عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (… وأمـا طوافـك بالصفـا والمـروة؛ كعتـق سـبعين رقبـة)! (علق عليه الألباني: صحيح لغيره/ صحيح الترغيب والترهيب).

أيام التشريق:
وهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام الحادي عشـر، والثاني عشر، والثالث عشـر، من شهر ذي الحجة. وسمّيت بأيام التشريق: لأن الناس كانوا يشرّقون فيها اللحم..
من أعمالها:
1- المبيت في منى 2- رمي الجمرات الثلاث، بعد الزوال 3- يجوز التعجل في اليوم الثاني عشر، فينفر من مِنى إلى مكة قبل الغروب، ثم يطوف طواف الوداع..

  • وقد سأل عنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال: (إنها أيام أكل وشـرب وذكر لله – عز وجل -) (أخرجه مسلم).
  • وهي الأيام المعدودات، التي قال الله – عز وجل – فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}.
  • وجاء في حديث عبد الله بن قرط، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القرّ) القَرّ: يعني أول أيام التشريق، أي القرار في منِى. (أخرجه الإمام أحمد).
  • ولما كانت هذه الأيام هي آخر أيام موسمِ فاضل، فالحجاج فيها يكملون حجهم، وغير الحجاج يختمونها بالتقرب إلى الله تعالى بالضحايا، بعد عمل صالح في أيام العشـر، استحب أن يختم هذا الموسم بذكر الله تعالى للحجاج وغيرهم.
    وعقب الحج أمر بذلك، فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}..
    فتجد أنَّ الله قد أوجب للحجاج أمرين؛ أحدهما بالليل، والآخر بالنهار:
    1- وجوب المبيت في الليل (أكثر من نصف الليل).
    2- وجوب رمي الجمرات الثلاث في النهار (الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى).
    وتجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوجه إليك رسالة مفادها أنك مخيّر بين الذهاب إلى مكة – والتي تكون الصلاة فيها بمئة ألف صلاة! – أو البقاء في مِنى، ولكن يقول لنا البقاء أفضل.. لماذا؟! مع أنك لا تفعل شيئاً في مِنى من عبادات، حتى الصلاة تكون قصراً، وليست فيها نوافل..
    · لكي يتعلّم الحـجـاج فقه التعايش مع بعضهم البعض!
    فكأنه مؤتمر عالمي، يجتمع فيه المسلمون، بكافة قومياتهم وأجناسهم ولغاتهم، يجتمعون ولكن بعد جهد جهيد، وبعد تطهيرهم من كل إثم، وكل فكر فاسد، وهم جميعاً قد وُلدوا من جديد، ولهم قلوب صاغية وصافية أمام بعضهم البعض..
    وهم قد تهيؤوا نفسياً على التعايش، وكأنهم في جنّة الله، يتفاخرون مع بعضهم البعض، لذلك كان من واجبات الحاج، الخروج من الخيمة التي يقيم فيها، ومقابلة هؤلاء الحجاج، والتفاهم معهم، والتدارس فيما بينهم..
    وعلى قادة الأُمة أن يستثمروا هذه الأيام والأوقات المباركة، كملتقى عالمي للمسلمين، يتدارسون ويتباحثون مشاكل الأُمة وهمومها، وكيفية حلها، وكيفية التواصل فيما بعد..
    ولذلك نرى أن قِوى الغرب تنظر إلى الحج كمؤتمر عالمي، ويخافون أن يصبح للمسلمين شأن عظيم، لما فيه من ميزة قوية في التجميع، وتوحيد الصف حول وحدة المعتقد والفكر.
    ولقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يدرك هذه الميزة في الحج، فيستثمر هذه الأوقات للتباحث مع وّلاة الأمر في المقاطعات البعيدة الشاسعة، وكيفية إدارة مناطقهم، والمشاكل التي تعوقهم، وحلها..
    · لكي يستشعر الحاج المعاني العميقة في الذكر وقوة التكبير..
    فأنت تُكَبر الله، وتُهَلِّل، وتحمد الله، وترفع صوتك، والكل يرفع صوته، فترتَجّ مِنى من التكبيرات، فيغرس في نفسك الإباء والشجاعة والعزيمة والهِمَّة العالية. فهذا العقل الجمع في الترديد، يفسـره علماء الاجتماع بأن له مردوداً إيجابياً على نفسية الفرد، ويولد طاقة هائلة من الإيجابية..
    تُكَبِّر الله، فتستشعر عظمة الله في قلبك، وكيف أنَّ هذا الدين له سَنَد عظيم.. فتتيقن أنَّ الإسلام قادم لا محالة!
    تَذْكُر، وتُكَبِّر، وتشكره على النعمة العظيمة التي أعطاك إيّاها، وجعلك تحج، وتوفق في أداء مناسكه، وتكون مع هذا الركب العظيم.. وتتذكر الملايين الذين لم يحجّوا، أو مرضوا، أو ماتوا، وكانوا يتمنون لو كانوا مكانك.. وأنت الذي جِئت إلى هُنا! فلله المِنَّة والفضــــل..
    لذلك كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يُكَبِّر الله في صومعته في مٍنى، وتهتَزُّ أركان قُبته، ويسمعه الناس، فيكبرون مع تكبيراته.. وكان عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – يُكَبِّر في مِنى، بعد كل صلاة، وفي مجالسه، وعلى فِراشه.. حتى النساء كُنَّ يكَبِّرْنَ مع الرجال في المساجد، في عهد عمر بن عبد العزيز.. وهي أيام أكل وشـرب، فلا يجوز الصوم فيها، لكي تقوى على شعيرة الذكر، والشكر لله وحده..
    نعم، الكُل يــذكر الله، فتستشعر وكأنَّ الأحجار والسماوات والأرض، وحتى البهائم، تذكر معك، فتتذكــر الآية العظيمة: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.
    · لكي تتفكر ماذا حصل في مِنى، وما هي المعاني العميقة فيها..
  • فهذا جبل (مجر الكبش) أمامك، وتراه بأُمّ عينك، فتتذكر ما قام به إبراهيم – عليه السلام – عندما خرج بابنه إسماعيل، وصعد به هذا الجبل، ليُنَفِّذَ أمر الله تعالى، فيذبحه قُرباناً لله: {فلمّا أسلما، وتَلَّهُ للجبين}!

· وهذه مواقع الجمرات، التي تُذكرك بالمواقف والوقائع التي حصلت لتلك العائلة العظيمة، والتي خَلَدَّتْ مواقفهم، وأصبحت آثارهم مناسك للحج.. وكيف انتصـر الابن إسماعيل على غواية الشيطان، عندما صَدَّه عن تنفيذ أمر ذبحه، وحاول إغراءه بشبابه وكهولة أَبِيهِ! عند الجمرة الصُغرى.. وكيف سيطرت الأُم (هاجر) على مراوغة الشيطان لها، واستغلاله عاطفة الأُمومة، وحنانها لابنها الوحيد، وهو في ريعان شبابه! عند الجمرة الوُسطى.. وكيف انتصـر الأب (إبراهيم) الحنون على مكائد الشيطان، الذي لبس لباس الناصح الأمين، لمنع تنفيذ الأمر الإلهي العظيم بذبح ابنه.. عند الجمرة الكبرى.. إنه اقتداء للنموذج الأمثل للعائلة الموحدة لله، والمستسلمة لأوامره – سبحانه -، والتي تمثل قمة في التفاهم والتناغم والاحترام فيما بينهم، على لسان الأب، في قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).. إنه تعبير في منتهى الرقي، في تبليغ الأمر الإلهي للابن.. وجواب الابن المطيع لأبيه بأجمل تعبير، يتبين في قوله تعالى على لسان الابن: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}..
وتأمل في كلمة (أبتي)، ولم يقل: يا أبي! وقوله: {افعل..}، بدون تردد.. وتسليم الأُمّ الصابرة المحتسبة، التي كادت أن تهلك، يومَ أن كان ابنها صغيراً، من شِدة العطش، وكانت صابرة محتسبة.. فها هي تنجح في الابتلاء الأكبر، عند كِبَرِ سِنها، وبلوغ ابنها الوحيد النضج! إنه البلاء المبيـن!

· ثُم تتأمل عند جمرة العقبة الكُبرى، وكيف بايع الأوس والخزرج الرسول – صلى الله عليه وسلم – على الدفاع حتى الموت عن رسالة الإسلام الخالدة، وسُميت هذه البيعة الكُبرى بـ (بيعة الموت).. وتتأمل انعقاد أول مؤتمــر تأسيسـي، لأول دولة في الإسلام (دولة المدينة المنورة).. وتعلم أنَّ الإسلام انتصـر هنا في (مِنى)، فلولا مِنى لما كانت المدينة المنورة!
ومن هنا تُدرك أهمية البقاء في مِنى.
· وأخيراً، تتفكر وتستشعر في مِنى كيف أن الله يخرج الحي من الميت! وكيف أن الله أخرج من بين هذه الجبال الجوفاء والصمّاء، التي توحي أنه لا حياة فيها، رسالة عالمية حيَّة مَرِنة، تستوعب كل متغيرات الحياة إلى قيام الساعة، ينبهر بها العُقلاء والعُظماء.. فتتأمل قوله سبحانه وتعالى: {.. أنّي أخلُقُ لكم من الطين كهيئة الطير فأنفُخُ فيه فيكونُ طيراً بإذن الله}.. فتتجلّى عظمة هذا الدين في قلبك ووجدانك.
وأخيراً..
(طواف الوداع)
وبعد إتمامك كل أركان الحجّ وواجباته، لم يبقَ لك إلا الرحيــل إلى ديارك، وقد اكتملت لديك مفاهيم الصبر والتحمل والخُلُق الرفيع، والجهد والجهاد، فلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جِدال، وتجَذَّرَت في أعماقِ أفكارك المعاني العميقة في الحجّ وأسراره، ولكن لا يمكنك المغادرة إلى ديارك دون أن تودع البيـت العتيق! بيت الله الحرام..
فعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: كان الناس ينصـرفون في كل وِجه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لا ينفِرَنَّ أحدكم، حتى يكون آخر عهده بالبيت).. لذلك، فآخر واجبات الحج قبل الرحيل، هو طواف الوداع..
· فهو إيحاء واستشعار كون أن كل أعمال الإسلام فيها انتظام وترتيب، فلا يجوز أن ترحل حشود الحُجاج وتنصـرف إلى ديارها متفرقةً.. بل على الحجاج أن يختموا رِحلتهم بالطواف، وكما قيل العِبرةُ بالخواتيم، ليستوعبوا قَبول حجِّهم عند صاحب البيت!
· وهو استشعار أنَّ الله – عز وجل – يُريد بالحُجاج أن يغتنموا حجَّهم باجتماعهم حول بيته العظيم قبل مغادرتهم، ليُذَكِّرهم أنهم كلما اعتصموا ببيت الله، وتوحدوا حول قِبلتهم، فلن يتفرقوا أبداً، ولا يستطيع أحد أن يُفرِّق شملهم! وتتذكر الآية العظيمة في قوله سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.
· وأنَّ من أسماه الوداع، يغرز في شعورك الداخلي الحنيــن!.. فالوداع يجلب الحنين!
نعـم.. فعندما تطوف طواف الوداع، تستشعر معاني الوداع لهذا البيت العظيم، وهل سيكون آخر العهد به؟ وهل ستكون له من عودة؟! وتتردد في ذهِنِك تساؤلات:
هل قُبِل الحجّ أم لا؟.. هل رُفِع العمل أم لا؟.. هل غُفِر الذنب، أم لم يُغفَر؟.. هل عَلَتِ الدرجات، أم لم تعلُ؟.. هل أنت من العتقاء، أم لم تُعتَق؟
تساؤلات تستجلِبُ الخوف والفزع، والدعاء والتضـرع، ومشاعر تسجلب معاني الحنين والفراق والوداع.. فتمتزج معاني الخوف والرجاء، مــع دموع الوداع والحنين.. وحينها تهتف من أعماق قلبك قائِلاً:
(اللهم اجعل حجي مبروراً، وذنبي مغفوراً)..
نسأل الله القَبول..

إليك إلهي قد أتيت مُلَبياً
فبارك إلهي حجِّي ودُعائيا
قصَدّتُك مُضطَّراً وجِئتُكَ باكيا
وحاشاك ربٍ أن تُرَدَّ بُكائيَ
كفاني فَخراَ أنني لكَ عابِدٌ
فيا فَرْحَتي أنْ صِـرتُ عبداً مواليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى