مستقبل الذكاء الاصطناعي
عبدالحميد الطبّابي
الذّكاء الاصطناعي للآلة أو لبرنامج معلوماتي، هو ما يجعله قادرا على إنجاز أعمال تتطلّب تدريبا، لترتيب الذّاكرة وكذلك الاستنباط. ومنطلق الفكرة هو تمكين الحاسوب من الإجابة عن إشكاليّة –إلى حدّ ما معقّدة- من خلال توفير المعطيات الملائمة له وبرمجيات مطابقة، بغاية معالجتها، ليقدّم الحاسوب معلومة أو عمل له صلة بالمطلوب منه.
يعود منطلق الذّكاء الاصطناعي إلى أواسط القرن العشرين والبحوث الأوليّة لألن تورينج Alan Turing، حول وجدان الآلة وإمكانات اكتسابها للذّكاء. إذ كانت فكرته تتمحور حول ابتكار آلة قادرة على محاكاة الإنسان، حيث لا يمكن لطرف آخر أن يدرك إن كان يتحاور مع بشر أم حاسوب.
تحوي برمجة آلة الذّكاء الاصطناعي نظاما قادرا على إنتاج عمل أو الإجابة على مسألة حسب برمجتها، من دون أن تتجاوز مطلقا، حدود تصميمها.. والفكرة هي جعل الآلة ذات أداء فعّال يتطوّر باطّراد. بالتّالي، تكون ذكيّة في ميدان بعينه، حيث يمكنها إثراء قاعدة معرفتها بشكل مستقلّ، لكن دوما بنفس الطّريقة ولنفس الغاية.
لكن مع ظهور (الذّكاء الاصطناعي المفرط Intelligence artificielle forte) الأكثر تعقيدا ويصعب التحكّم فيه وشرحه، ممّا أثار جدلا واسعا بين الفلاسفة، علماء الاجتماع وعلماء الأعراق والإنسانيات، حدث تجاوز وتباين مع الذّكاء الاصطناعي في مراحله الأولى، من خلال قدرة هذا الذّكاء الاصطناعي المفرط على تجاوز وظيفته الأصليّة وكسبه لحقول معرفيّة جديدة بمفرده، مع اعتماد التّفكير وحلّه لإشكاليات جديدة وارتكازه على التّجربة لإحداث التطوّر إلخ.. وباختصار، يمكنه أن يرتقي إلى مستوى الذّكاء البشري.. وإن لم يتحقّق بعد ذلك، فإنّنا على مسار بلوغه.
لذلك، يعكف العلماء اليوم، على تحقيق شكل آخر من الذّكاء الاصطناعي، باعتماد نفس المفهوم. ويتعلّق الأمر بــ (الذّكاء الاصطناعي الخارق Artificial Superintelligence- «ASI», Super-intelligence artificielle ).. وخلافا للعقل البشري، لا توجد حدود لتطوّر هذا الذّكاء الاصطناعي الخارق والحادّ (الذي سيكون قوّة الانتشار والتوسّع في المستقبل)، ويمكنه –نظريّا- القفز على الذّكاء البشري، ليبلغ مستويات تتجاوز إدراكنا كبشر. وحسب الاستنتاجات، لن تكون لهذا الذّكاء حدود في تطوّره.
سيكون هذا الذّكاء الاصطناعي الخارق أبعد ممّا نتصوّره وأفضل من الذّكاء البشري في كافّة الميادين. له القدرة على التعلّم من تلقاء نفسه في مواضيع جديدة والحيثيات (Thèmes)، بإيقاع متسارع. وحينما يبلغ هذا المستوى من الذّكاء، سوف يصبح تطوّر إمكاناته سريعا جدّا، فتصير كلّ نماذج الذّكاء الاصطناعي السّابقة غير صالحة، ليكون الإنسان ذاته، مخيّرا بين الاندثار أو امتلاك القدرات التي تمكّنه من مجاراة هذا الطّفرة الخارقة من الذّكاء الاصطناعي ولزوم التفوّق عليه. والنّظريات متضاربة حول هذا التّقدير، من متشائمة جدّا، إلى متفائلة جدّا..
توجد ميادين لا حصر لها، حيث يمكن اعتماد الذّكاء الاصطناعي واستغلاله. من بين ذلك روبوتات الإنسان الآلي (يعكس ملامح البشر) المتوفّر على الذّكاء الاصطناعي. إذ توصّلت بعض الشّركات، منها “شركة هوسون روبوتيكس Houson Robotics” إلى ابتكار روبوت مجسّم بشري، تمّ تطويره بغاية محاكاة أبعد ما يمكن ملامح البشر وسلوكه، فيما يتعلّق بـ (النّطق، تعابير الوجه، الحركة..). والنّتيجة هي مثيرة للإعجاب.. هذا الرّوبوت موجّه للاستخدام حتى يحقّق التّفاعلات اللازمة ما بينه وبين الإنسان، في ميداني الصحّة وخدمات الحرفاء..
من خلال تقديرات بعض علماء الميدان، فقد تحصل بعض النّتائج غير المتوقّعة. من ذلك، إمكانيّة ابتكار الإنسان –في لحظة تاريخيّة متفرّدة- اختراعه الأخير (أي الذي سيتجاوزه ولا يعود قادرا على التحكّم به، فيصير خاضعا له. وقد يسعى هذا الاختراع إلى إلغاء وجود الإنسان نفسه!..)..
هذا الاختراع لا يعود في حاجة مطلقا، لتدخّل الإنسان، لأنّه سوف يكون قادرا على العناية بنفسه وتطوير أدائه، ليرتقي بالنّهاية، إلى ذكاء ليس فقط، أفضل من الجنس البشري، لكن يتطوّر لاحقا، بطريقة متسارعة وبانتشار واسع.
هذا التطوّر الفائق المحتمل للذّكاء الاصطناعي، يدفعنا إذا، إلى التّفكير حول انعكاساته على الجنس البشري. فبإمكانيّة تخطّيه لحاجز الذّكاء المعتاد، لزام علينا أن نتوقّع من ناحية سيناريو كارثي، ومن ناحية أخرى، إمكانيّة حصولنا كبشر، على فوائد من هذه الثّورة العلميّة الخياليّة، لتحويلها إلى فائدتنا.
علم من دون وعي
الذّكاء الاصطناعي هو بالتّحديد، ابتكار صناعي لآلة من دون وعي ولا إدراك لها للخير أو الشرّ. تتشكّل كامل > بالنّهاية، من قواعد برمجتها والخوارزميات –مهما كانت عشوائيّة- التي ترتكز عليها في تطوّرها. لذلك، لابدّ من الاحتياط لتمرّد هذه الآلة، من خلال طفرة غير محسوبة، باعتماد إجراءات استباقيّة واحتياطات التوقّي من انفلاتاتها.
إذ يمكن أن يتأتّى انحراف الآلة ذات الذّكاء الصّناعي الخارق من عاملين رئيسين:
- سوء تصميم لهذه الآلة بضوابط غير كافية، ممّا قد يؤدّي إلى حدوث حالة من عدم القدرة على التحكّم بها.
- تصميم بقصد غير سليم، من طرف أشخاص لهم سوء النيّة، وبغاية توظيف فيه إضرار بالبشر والمحيط.
ما يثير المخاوف من الانفلاتات، أنّ مشاريعا تنجز في ميدان الذّكاء الاصطناعي بسريّة تامّة، في مختلف أنحاء العالم، من دون رقابة أو تشريع ملزم تخضع له.. وفي هذا الشّأن، يتوقّع خبراء الميدان والشّخصيات النّابغة في علم التّكنولوجيات الجديدة، بأنّ الوصول إلى إنجاز الذّكاء الخارق وتحقّقه، سيرى النّور ابتداء من سنة 2060. وهذا حسب معدّل وسيط لتقدّم الأبحاث والتّجارب في هذا المجال. وهو تاريخ قريب.
لكن وإن كانت هناك توقّعات مريبة من هذه الطّفرة العلميّة، فلابدّ من التّذكير ، أنّ الغاية من تطوير الذّكاء الاصطناعي، هو ما يوفّره لنا من رفع في أدائنا كبشر، ممّا يسمح لنا بتوسيع مجالات معارفنا، خاصّة فيما يتعلّق بمهاراتنا في ميدان العلوم. وبالتّوازي، تجويد خدماتنا وتعويض كلّ خدمة مضنية بالرّوبوتات التي لا تفقه معنى العمل الشّاق.
لكن لبلوغ الهدف المنشود من تطوير الذّكاء الاصطناعي، مع الإبقاء على التحكّم الجيّد في تكنولوجيات المستقبل، يتحتّم علينا، ومنذ الآن، التّهيّؤ لتحديد الإطار والمبادئ التي تضمن حمايتنا. وهذا باعتماد إجراءين رئيسين: - إجراءات تتعلّق بالتّصميم، بوضع ميثاق أو مدوّنة أخلاقية كونيّة لاستخدامات الذّكاء الاصطناعي، كأساس يرتكز عليه سلوك التّصنيع لآلات المستقبل.
- إجراءات تكنولوجيّة: بإمكانيّة إدماج وسائط للتّحكّم الفوري، تمكّن من التغلّب على كلّ انحراف يظهر في أداء الآلات ذات الذّكاء الاصطناعي.
حسب لورنت ألكسندر Laurant Alexandre (طبيت وعالم تصوّرات المستقبل Urologue et futurologue)، تتمثّل النّانوتكنولوجيا (الاختراعات متناهيّة الصّغر)، البيوتكنولوجيا، الإعلاميّة والعلوم المعرفيّة، في ظهور ذكاء اصطناعي يفتح آفاقا خارقة، باحتلالها منذ الآن، موقع التّجاوز للذّكاء البيولوجي، أو حتّى استعباده. إذ الآلة يمكنها الانتصار على الإنسان في المستقبل غير البعيد.. فهل يعني هذا، أنّ الذّكاء الاصطناعي والذّكاء البيولوجي متنافسان؟ هل لهما مصالح متضادّة؟..
لا يمكن للذّكاء الاصطناعي محاولة الدّخول في صراع ضدّ الذّكاء البيولوجي إلاّ إذا تمّ استيفاؤه لشرطين: حينما يصير أكثر كفاءة من الذّكاء البيولوجي ويعي بهذا التفوّق. بعبارة أخرى، يصير متمتّعا بالقدرة على أخذ القرار ذاتيا، التي هي دليل استقلاليّة حقيقيّة وإدراك فعلي.. يبدو أنّ هذا الشّرط الأوّل قد تمّت تلبيته، فزحف كاسح من الذّكاء الاصطناعي يتقدّم بسرعة وبقفزات عالية. إذ >. مثلما يشير إلى ذلك لورنت ألكسندر Laurant Alexandre ويوضّحه. ففي مجال سباق الإنتاجيّة والجدوى، تعدّ سرعة ووثوقيّة أداء الآلات الذّكيّة أعلى بكثير من أن ينافسها الأداء البشري. فالصّراع بينهما غير متكافئ. إذ الذّكاء الاصطناعي يعدو مسرعا، بينما الذّكاء البيولوجي يتعثّر، في انتظار تحوّل جيني افتراضي. فالعربة المجرورة لا يمكنها أن تجاري سرعة القطار الكهربائي. (ملاحظة: تشرع شركة Neuralink خلال الأشهر القادمة، في زرع شرائح إلكترونيّة رقميّة في أدمغة البشر. وهي تَعِد بأن تكون لهذه الشّرائح تأثيرات فائقة على أداء البشري وتدارك عاهات جسد الإنسان والتغلّب على بعض أمراضه).
وهذا ما أوردته الشّركة على موقعها الإلكتروني:
«Rendre la vue aux aveugles, faire bouger les muscles des handicapés: Elon Musk débutera les essais de ses puces cérébrales sur l homme dans 6 mois
L entrepreneur l a annoncé cette nuit.
L entreprise développe des puces cérébrales qui, selon elle, pourraient permettre aux personnes paralysées de retrouver leurs fonctions motrices ou de communiquer de nouveau. Neuralink a mené des essais sur les animaux ces dernières années tout en cherchant à obtenir l autorisation de l autorité sanitaire américaine, la Food and Drug Administration (FDA), pour commencer des essais cliniques chez l homme. “Nous souhaitons être très prudents et sûrs que cela marchera avant d implanter un dispositif chez un humain, mais nous avons soumis la plus grande partie de nos documents à la FDA et nous devrions probablement pouvoir implanter Neuralink chez un humain dans environ six mois”, a déclaré Elon Musk lors d un événement organisé pour présenter l avancée du projet.
Publié le 01/12/2022 ».
تفرّد افتراضي
أمّا بخصوص الشّرط الثاني، فقد أشار لورنت ألكسندر Laurant Alexandre إلى أنّ “الذّكاء الاصطناعي يمكنه أن يصير متعاليا على البشريّة التي تتّبع حاليا مسارا نحو الأفول، رغم أنّ لديها إرادة واعية!..”. فهل سوف يتمكّن الذّكاء الاصطناعي من التمتّع بهذه الميزة؟ هل يمكنه أن يصير قادرا على التّفكير بذاته؟ وهذا ما يشمله سؤال “التفرّد”. وهي >..
علينا أن نعترف أنّ أفق الأتمتة “Automatisme” المتنامي في الأعمال البشريّة المعقّدة أكثر فأكثر، واكتساح الخوارزميات للأنشطة المعرفية من المستويات العالية، يقودنا أمام أزمة ثلاثيّة الأبعاد: اجتماعيّة، أخلاقيّة، وجوديّة. فإن كان الأطبّاء مهدّدون بفقدان وظائفهم، فماذا سوف يتبقّى من المهن البشريّة الأخرى، لن يطالها الاندثار؟! إن كانت سلامة عقولنا مهدّدة، فكيف سنحمي حريّة تفكيرنا؟! إذا كان الذّكاء الاصطناعي يتحدّانا فيما نحن عليه ككائنات بشريّة، فكيف سنحافظ على وجودنا وإنسانيتنا؟!.. وهذا ما يجعلنا نطرح السّؤال:<<إن كان الذّكاء الاصطناعي هو خاصّية بشريّة، فما نرغب فيه نحن ككائنات بشريّة، هل لنا ذاتيّة يجب فرضها؟>>.
الثّورة الرّوبوتيّة
من الواضح أنّ العالم على حافة <<ثورة روبوتيّة>>: فالأجهزة المؤتمتة هي حاليا، منتشرة في كافّة قطاعات الصّناعة، الخدمات والإدارة أيضا.. حسب الإحصائيات، تعدّ روبوتات قيادة السيّارات الذكيّة، أذكى من السوّاق البشر أنفسهم. كما أنّ المنازل الذكيّة لم تعد فقط حقيقة، بل صارت تمثّل جزءا من نظام أكثر اتّساعا، يطلق عليه “المدن الذكيّة”. علاوة على أنّ شبكة الأنترنيت تجاوزت حدّ كونها وسيلة للتّواصل بين البشر والآلة. لتطّلع بوظائف أخرى أكثر تعقيدا وانتشارا وذكاء. وتجاوز الرّوبوت مهامه المخصوصة عند البداية، لتتعقّد الأشغال التي ينجزها أزيد فأزيد، إذ صار يؤدّي مهنة الحلاّق، الجنّان، الطبّاخ، موصّل الطّلبيات، النّادل إلخ.. (وهي أشغال بالنّسبة لتصميم الرّوبوت، أكثر تعقيدا، من الوظائف الصّناعيّة وسبر الفضاء..)..
دوافع اعتماد الرّوبوت
عدّة أسباب تدفع المؤسسات إلى اعتماد الأتمتة في أنشطتها، منها التّخفيض في كلفة اليد العاملة، الرّفع من القدرة التّنافسية بالزّيادة في النّجاعة والرّفع في الإنتاج وتحسين الإنتاجيّة، وكذلك الحدّ من هفوات الشّغل مثلما هو عند البشر. فالرّوبوتات تنتج أضعاف ما يستطيعه البشر. لهذا، سوف تختفي العديد من الوظائف الحالية وتتحوّل أخرى إلى إنجاز للآلات الذكيّة. إذ أسفرت الدّراسات والبحوث عن توقّعات مستقبليّة مذهلة. فحسب العديد منها، 80% من وظائف المستقبل غير موجودة حاليّا. من ذلك، دراسة أجرتها جامعة أكسفورد بعنوان <<مستقبل العمل: كيف أنّ الوظائف معرّضة لخطر الأتمتة؟..>>.. حيث تشير إلى أنّ الآلات الذكيّة ستنجز ما يزيد عن نصف الوظائف الحالية في العالم، خلال العشريتين المقبلتين. خاصّة فيما تعلّق منها بالوظائف الإداريّة والنّقل واللّوجستيك..
يمكن للتّكنولوجيا المتقدّمة أن تؤدّي إلى تأثيرات تسبّب مشاكل عويصة للبشر، إذا لم تتمّ معالجتها باقتدار. فمراقبة حياتنا من طرف الرّوبوتات، يمكن أن تحدث فيها انفلاتات. فالعديد من المختصّين في مجال التّكنولوجيا الذكيّة، حذّروا من ذلك، خاصّة البروفيسور ستيفن هاوكينغ Stephen Hawking الذي نبّه إلى أنّ الإنسانيّة يمكنها أن تواجه مصيرا غامضا في المستقبل. حيث أنّ التّكنولوجيا يتمّ تصوّرها وملاءمتها لمحيطها الخاصّ، أكثر ممّا هي معدّة للبشر. وأنّ تطوّر الذّكاء الاصطناعي يمكن أن يتضمّن قريبا، نهاية الجنس البشري.. هذا، وصرّح البروفيسور إلون موسك Elon Musk في حوار معه خلال شهر نوفمبر 2017، بأنّ الجهود الرّامية إلى تأمين الذّكاء الاصطناعي، لا تتوفّر على حظّ النّجاح، سوى بنسبة تتراوح بين 5و10% فقط..
عبر تاريخها، انتصرت البشريّة على ثلاث عوامل مدمّرة (الجوع، الأوبئة، الحروب). إذ قاومتها من خلال الذّكاء وقدرتها على التأقلم. لكن ظهور الذّكاء الاصطناعي يمكن أن يقضي على الجنس البشري، لسبب بسيط، وهو اكتساب الآلات لذكاء سوف يتجاوز حدود ذكاء البشر.
الرّوبوت ثورة فكريّة للبشر
يذكر الفيلسوف ومؤرّخ العلوم البروفيسور ميشال سيرّاس Michel Serres في محاضرة له بعنوان <<الابتكار والرّقمي L’innovation et le numérique>>:” إنّ ذاكرتنا محدودة وبفضل الحواسيب صارت الوظائف الميكانيكيّة للدّماغ –مثل الذّاكرة- محفوظة خارجيّا <>. فحينما ابتكر الإنسان الكتاب، تمّ تجاوز ذاكرتنا، بما صار محفوظا في كميّة الكتب الهائلة. فلم يعد ضروريّا، حفظ كلّ شيء عن ظهر قلب. أمّا ذاكرة الحاسوب فهي أفضل بكثير من ذاكرتنا، لنخزّن فيها كميّة هائلة جدّا من المعلومات. وبما أنّ العقل البشري تحرّر من هذا القيد، فيمكنه استخدام وظائفه الأخرى ويفردها بكلّ طاقته الإبداعيّة. وهذا الإبداع يسمح للإنسان بأن يكون أكثر ذكاء وخلقا، ليصير فاعلا في هذه المرحلة الجديدة من التّاريخ”.
يجمع الرّوبوتيك ثلاث أنظمة: ميكانيكيّة، إلكترونيّة، إعلاميّة. وبفضل نظام التّعلّم الآلي العميق Deep leerning، شهد ثورة حقيقيّة خلال السّنوات الأخيرة. فهذا النّظام الجديد يسمح للآلة التعلّم بمفردها وتقديم الأشياء أفضل بكثير من المهندسين أنفسهم. وهو تحدّ صار مهينا لشخص الإنسان. فالذّكاء الاصطناعي يتقدّم ويوفّر أجوبة ملائمة بفضل تكنولوجيا التعلّم الآلي العميق. إذ صار الرّوبوت الجرّاح والممرّض يشهد حضورا متزايدا في المستشفيات، ليجري عمليات متناهية الدقّة. كما يمكن للرّوبوت Med What الذي طوّره مجموعة من الأطبّاء بجامعة كاليفورنيا الأمريكيّة، أن يجيب عن كافّة الأسئلة المتعلّقة بالصحّة.
ضمن الثّورة الرّوبوتيّة ومن خلال “الاندماج بين البشر والآلة Transhumanisme”، هذه النّظريّة الفلسفيّة التي تزعم أنّ تطوير الإنسانيّة ممكن عبر العلوم والتّكنولوجيا. فهي ترمي إلى تحرير الإنسان من محدودياته البيولوجية، بتجاوز التطوّر الطّبيعي. إذ يمكن للإنسان التحرّر من مكبّلاته الطّبيعية، كالمرض والعجز أو الموت. فالرّوبوتيك المؤنسن يثوّر مبدأ ابتكار الأعضاء الصّناعية، حيث يصير الإنسان قادرا على التدخّل تكنولوجيّا في تطوير نفسه، ليس فقط على المستوى الفردي، بل فيما يتعلّق بالنّوع إجمالا. ليتخطّى خاصّيته الإنسانيّة.
باعتماد تقنية الفرز، ومن خلال تحليل كافّة المعطيات، يمكن للحاسوب التوصّل إلى استنتاجات علميّة. وبدمج هذه التّقنيات مع بعضها، يستطيع الحاسوب العلمي أتمتة مجموع المسارات العلميّة المتّبعة: صياغة استنتاجات، تصوّر والقيام بتجارب، تحليل النّتائج وإعادة الدّورة حتّى بلوغ معارف جديدة. إذ مع تطوّر الإلكترونيك والإعلاميّة صار بإمكان الرّوبوتات إنجاز أشغال أشدّ تعقيدا، باستقلاليّة أكثر عن الإنسان وبسرعة أفضل. حتّى توفّق الإنسان والرّوبوت في الاشتغال سويّا. فأطلق على هذا التّعاون تعريف: “الجهاز التّفاعلي بين الإنسان والرّوبوت Cobotique”.
الإنسان الآلة:
هنالك عدّة محاولات اليوم، لإكساب الآلة الخاصّيات البشريّة حتّى تصير مستقلّة بذاتها. وهي مخاطرة غير محسوبة العواقب، فمثل الذي يستحضر العفريت من دون أن يحصّن نفسه مسبّقا ويتحوّط لعواقب انفلاته من القمقم. وهو ما ينبّه إليه Elon Musk مدير مؤسسة تكنولوجيا الفضاء المعروفة باسمها التّجاري “سبيكس إكس Space X”. فبالنّسبة إليه، يجب أن تكون هنالك مراقبة قانونيّة للذّكاء الاصطناعي، لاحتمال تجاوزه بسرعة لقدرات البشر وإدراكهم. فالآلة ذات الذّكاء الاصطناعي هي غير واعية حاليّا، لكنّها يمكن أن تكتسب هذه الميزة، لتطوّر ذاتها بذاتها، من دون تدخّل بشري. حينها لا يمكننا تقدير المدى الذي سيبلغه هذا التطوّر، فربّما يكون انتحاريّا للبشر.
هذا علاوة على أنّ الرّوبوتات صارت تستولي على مواطن شغل الإنسان لتحيل مئات الآلاف حاليّا على البطالة. وقد يرتفع هذا العدد إلى الملايين خلال العشريتين القادمتين. ومن الاحتمالات الواردة، أن يتوقّف البشر نهائيّا عن الأنشطة الشغليّة، لتحلّ بدالهم الرّوبوتات، خلال مدى ليس بالبعيد. وهي معضلة مطروحة على البشريّة من الصّعب حلّها، إذا استمرّ الاستحواذ على الثّروة وانحصار النّفوذ مع أخذ القرار، عند شريحة محدودة، على شكله الحالي، مع إيلاء الاعتبار فقط للامتيازات الفرديّة، من دون مراعاة المسارات المصيريّة للمجتمعات وللبشريّة جمعاء.
الطّابع المتفرّد
يتكهّن بعض المفكّرين أنّنا سنبلغ في المستقبل، حدّا فاصلا، حيث تصبح نسبة التطوّر التكنولوجي متسارعة، تكون فيه منحنيات التقدّم شبه عموديّة. ففي خلال وقت قصير، يمكن تغيير العالم، إلى درجة يصعب فيها التعرّف عليه. يدعى هذا التصوّر الافتراضي الطّابع التكنولوجي المتفرّد. والسبّب الأكثر احتمالا لتحقّق الطّابع المتفرّد، سيكون ابتكار صيغة للذّكاء متفوّق على إدراك الكائن البشري، وميزته التّطوّر السّريع.
يعتقد فيرون فانج Veron Vinge أنّ الطّابع المتفرّد سيتحقّق حسب التوقّعات، كنتيجة لتقدّم الذّكاء الاصطناعي للأنظمة الضّحمة لحواسيب الشّبكات، من خلال الاندماج البشري- الآلي، أو لأشكال أخرى لمضاعفة الذّكاء.
من خلال هذا التصوّر، يؤدّي الذّكاء إلى حلقة متكرّرة إيجابيّة: أنظمة ذكيّة تبتكر أنظمة أخرى أزيد ذكاء وبكفاءة أعلى من قدرات البشر الذهنيّة وأسرع منها. تكون هذه الحلقة الإيجابيّة فائقة القدرة لتؤدّي -وفي زمن قياسي- إلى ظهور نظام خارق الذّكاء.
يمكن أن يبدو لنا حاليا، مجتمع ما بعد الطّابع المتفرّد، غريبا لا يمكننا تصوّره، إلاّ أنّه قابل للتّحقّق.
المافوق إنسانيّة: Le transhumanisme
يعرّف فرونسوا هيغ François Hugues (الما فوق إنسانيّة Le transhumanisme) بأنّها حركة اجتماعيّة مركّبة، تجمع ما بين التطوّر التكنولوجي للمعلوماتيّة والتّكنولوجيا الحيويّة، توظّف لأغراض أيديولوجيّة وفلسفيّة. يعاضدها دفع اقتصادي هام.
تدعو هذه الحركة إلى استخدام العلوم والتّقنيات لتطوير القدرات البشريّة وتجاوز محدوديات الإنسان. وأغلب ما اتّفق عليه لضبط مفهوم “الما فوق إنسانيّة Le transhumanisme” أنّها مقاربة متعدّدة الحقول المعرفيّة، تبحث عن تطوير الإمكانات القادرة على تجاوز محدوديّة قدرات الإنسان، بمساعدة التقدّم التّكنولوجي الذي يسمح برفع مستطاع الإنسان وإمكاناته ومعارفه التي راكمها منذ القدم (منذ ابتكار العجلة الخشبيّة إلى التحكّم بالطّاقة النّوويّة، مرورا بالطّباعة إلخ..). أمّا فيما يتعلّق بالجانب الفلسفي، فتمّ تقدير هذه الإمكانيّة على أنّها تطوّر حداثي..
مع ذلك، تشمل الترونسهيمنيزم مكوّنات مختلفة أبعد من ذلك. فمن جانب علاقتها بالتّقنية، يتّخذ هذا المفهوم منحى آخر مع “التّكنولوجيات الجيدة” التي تقارب أكثر فأكثر في تشكيلها، جسم الإنسان. فمن خلال عمليّة دمج البيولوجي والرّقمي، تختفي الحدود بين الإنساني البيولوجي والاصطناعي. إذ يمكن للشّخص أن يصبح في تناغم وثيق مع القطع الاصطناعيّة. وشروعا من تلك اللّحظة، سوف يكون الإنسان قادرا تقنيّا على تطوير ذاته، ليس فقط، على المستوى الفردي، بل فيما يشمل النّوع أيضا. وليس فقط، الرّفع من قدراته وإمكاناته، بل باعتماد تصوّر لتجويد النّسل البشري بتمامه. وعلى هذا الأساس تشكّلت النّظريّة الفلسفيّة للتّرنسهيمنيزم، وهي تزعم أنّه من الممكن الارتقاء بالبشر إلى ما هو أفضل، باعتماد العلوم والتّكنولوجيا. وهي تهدف إلى تحرير البشريّة من محدودياتها البيولوجيّة، بتخطّي التطوّر الطّبيعي. فتحويل الإنسان سيكون إيجابيا، لأنّ هذا يعني تحريره من قيوده الطّبيعيّة ومعوقاته، مثل المرض، العجز والموت. والفكرة الرّئيسيّة لفلسفة الما فوق إنسانيّة Le transhumanisme هي تجاوز الإنساني (وليس إلغاؤه) بواسطة التّقنيات التي صارت تتطوّر بشكل متسارع جدّا.
جنون العظمة وتواضعها مجتمعان
تعتبر نظريّة المافوق إنسانيّة Le transhumanisme الإنسان كائنا غير مكتمل ومحدودا، يمكن تجويده ويجب الارتقاء بقدراته. وهي نظرة تعدّ الإنسان متواضعا وهو ليس على صورة إله كلّي القدرة. بل هو عكس ذلك، ضعيف ومحدود. بالتّالي، يمكن إتمام نقصه بفضل العلوم والتّقنيات. وهي رغبة تحقيق الخلود التي تحدوه، من خلال العثور على تشكيل جديد. إذ بفضل الانصهار مع “البيومعلوماتيّة Bioinformatique” يمكن للإنسان أن يخطو نحو الخلود ويماثل الآلهة.
بالنّسبة لجيلبار هوتواس Gilbert Hottois أحد منظّري الترنسهيمنيزم :<<تعدّ التّرونسهيمنيزم شكل من فلسفة التّقنية التي ظهرت مع بداية القرن 21. وهو يدافع عن فكرة أنّ الإنسان “سيبورغ Cyborg”، أي بشر آلي طبيعي، يعني كائنا تقنيا، وهو ما يمكّن من إخراج الإنسانيّة من الشّرط الحيواني>>..
يضيف هوتواس أنّ التّقنية تسمح بتغيير الإنسان، وهو أمر ممكن، لأنّ نوعه ليس جامدا طبيعيّا، والتّحسين بالنّسبة إليه، هو حقّ فردي وكذلك واجب جماعي. إذ تأمرنا الأخلاق الإنسانيّة بمقاومة المعاناة والموت. واعتماد الوسائل التّقنيّة التي تسمح لنا ببلوغ هذه الغاية، هو أمر مشروع. فالرّغبة في بلوغ الخلود ليست ثمرة أنانيّة مفرطة، بل هي تجلّ لرغبتنا الطّبيعيّة بالاستمرار والحفاظ على بقائنا.
المافوق إنسانيّة والأيديولوجيا مابعد الحداثة
Transhumanisme et idéologie post-moderne
يتمّ تعريف التّرونسهيمنيزم كوريثة لفكر النّزعة الإنسانيّة في الفلسفة. وهي تعتزم تجاوز الشّرط الإنساني. فهل هي متلائمة من النّزعة الإنسانيّة؟.. للتّذكير، “يُقصد بالنّزعة الإنسانيّة احترام كرامة الإنسان وتقديمها على كلّ الاعتبارات الأخرى لتكون دوما، في المقام الأوّل”. وعلى أساس هذا المبدأ، تعدّ الترونسهيمنيزم اشتقاقا من النّزعة الإنسانيّة، لأنّها ليست فقط، تريد المحافظة على الكائن البشري، بل الرّفع من كفاءاته وتغييره، بإدماج التّقنية في جوهر الثّقافة . وهكذا تكون النّزعة الإنسانيّة الكلاسكيّة قد أطيح بها من دون التّنصّل منها.
تعني نظريّة مابعد الحداثة إلغاء المعايير القاعديّة للإنسان. في حين ترغب الحداثة في تطوّر علمي وتقني في إطار إنساني. ومن هنا نلحظ أنّ المافوق إنسانيّة تزعم التحرّر من المكوّن الإنساني بحدوده الطّبيعيّة.
تقودنا فكرة “مابعد الحداثة Post-modernité” إلى نظريّة “المابعد إنسانيّةPost-humanisme “. إذا الفرق بين التّصوّرات الـنّظريّة لـ”المافوق إنسانيّة Transhumanisme” بما تختزله من تحقيق للإنسان المتفوّق، ومعتقدات “المابعد إنسانيّةPost-humanisme ” واضح جدّا. فالاثنان يثمّنان تأثير التّكنولوجيات الجديدة على الإنسان ومحيطه. إلاّ أنّ المافوق إنسانيّة Transhumanisme واضحة التّفاؤل، أمّا المابعد إنسانيّة Post-humanisme فهي متشائمة. فعبارة المابعد إنسانيّة تحيلنا إلى البعد الإنساني الذي تخلّص من وضعه وحالته كإنسان، أي الذي اندثرت إنسانيته. وهي مرتبطة بمفهوم ما بعد الحداثة الذي ظهر عقب المآسي الكبرى للقرن 20، التي أثارت شكوكا حول الأطروحات الإنسانيّة والكونيّة لفلسفة الأنوار وفكرها.
الترونسهيمنيزم والأيديولوجيا النيوليبراليّة
من خلال الأيديولوجيا اللّيبراليّة تعدّ الترنسهيمنيزم هي أيضا، خرقا للحدود الأخلاقيّة التّقليديّة. فمثلما تهدف النيوليبراليّة إلى الرّفع من الحقوق الفرديّة والتّحرير الدّائم للعادات والأعراف وممّا هو تقليد محافظ. لتكون نتائجه، تلاشي القيم التّقليديّة وإحداث تحوّل في العلاقات الاجتماعيّة والسّلوك عميقين. وتقوّض هذه الأيديولوجيا النّيوليبراليّة مجموعة واسعة من الأسس الثّقافية للمجتمعات التّقليديّة، فإنّها لا تقدّر تأثيرات ذلك ولا تداعياته الكونيّة، كما لا تدقّق الهدف المرجو منه. وهو شأن الترنسهيمنيزم أيضا، التي تسير على خطى هذه المغامرة غير الحذرة ولا محسوبة العواقب. ففي تقدير العديدين، تعدّ الخيارات السياسيّة ذات الإرادة التحرّريّة لأصحاب “التحوّل الإنسانوي”، متجاهلة للتّأثيرات الاجتماعيّة المضرّة التي سوف تحدث عند الأفراد والمجموعات، خاصّة حينما يبلغ الحدّ إلى الحديث عن تحقيق الإمكانات التقنيّة لتغيير النّوع البشري للأجناس، إعادة “تشكيل الإنسان Morphologie”، التّحوير الجيني الوراثي وكذلك الاستنساخ. وأنّ كلّ فرد له خيار استخدام ذلك متى أراد. وهو ما يدفع نحو الفردانيّة المطلقة غير المبالية بالمجموعة. وهي خاصيّة النّيوليبراليّة المتطرّفة. كما أنّ غاية هذه النّيوليبراليّة هي الاستفادة اقتصاديّا وتجاريّا من نتائج الترنسهيمنيزم، إذ هي لا تكترث كثيرا لما هو إنساني، بل بما تجنيه من أرباح من تجارتها وأنشطة السّوق.