ثقافة

حين أطلَّ ليف تولستوي

عبد الرزاق دحنون

في أحد سنوات عمره الأخيرة نشرت الصحف الصباحية في روسيا خبر مغادرة
ليف تولستوي مدينة موسكو في الساعة الثانية عشرة ظهراً بعد زيارة استغرقت
عدة أيام متوجهاً بالقطار إلى بيته في قرية ياسنايا – بولانا في قضاء مدينة تولا
الروسية العريقة. اجتمع آلاف الناس من أهل موسكو في ساحة محطة قطارات
كورسك لوداعه، وعندما أطلَّ ليف تولستوي قامت الجماهير، وكأنها جسد واحد،
بخلع القبعات عن رؤوسها تقديراً واحتراماً لهذه القامة العالية الوافدة المنهمرة.

تماوجت الجماهير كالبحر الهائج وامتلأ الجو بالهتافات، كان الحشد من مختلف
فئات الشعب، وقد تزاحم الجميع في محاولة الوصول إلى مكان وقوفه والاقتراب
أكثر من قامته الباسقة. وفي هذا الحشد الهائل دوّى صوت شاب آمراً: إلى
الصفوف.

انفتح الدرب أمامه بقوة ساحر، وامتد ممرٌّ ضيقٌ طويلٌ من كلا الطرفين بالناس
الذين تشابكت أيديهم. وعندما ارتقى درجات عربة القطار، صمتت الأصوات كافة،
وقف متأملاً الجموع ثمَّ بكلمات لطيفة معبرة شكر مودعيه، وتحرك القطار بهدوء
والهتافات العالية ترافقه. ما الذي فعله هذا الشيخ الطاعن في السن بهذه الحشود التي
تموج ويلطم بعضها بعضاً؟ وأية صلة تلك التي امتدت بينه وبين الخلق؟

المعروف عنه أنه أديب كبير خاض الكثير من أغراض الأدب، كتب روايات خالدة
ومسرحيات وقصصاً وحكايات شعبية جليلة القدر، وألف كتب التعليم الموجهة
للأطفال، ونشر عشرات المقالات والأبحاث في الصحف الروسية والأجنبية دفاعاً
عن الفلاحين مبرزاً فساد النظام الإقطاعي. ولقب نفسه في سنوات الثورة الروسية
الأولى (1905 – 1907) بمحامي مئة مليون من الفلاحين. وفي ضيعته الموروثة
ناضل للتخفيف من معاناة الفلاحين وأنشأ مدارس لأولادهم، ونظم حملات إغاثة
للجياع في بعض المجاعات التي عصفت بروسيا في أعوام (1890 – 1891)،
وتدخل مراراً لمساعدة ضحايا القمع القيصري مستفيداً من مكانته كوريث
أرستقراطي وأديب كبير. وعمل بنفسه في زراعة أراضيه. وحين تجاوز الستين من

عمره امتنع عن أكل اللحم ليصبح نباتياً صرفاً، لأنه لا يريد أن يأكل أحداً. وعاش
حتى بلغ الثانية والثمانين. وتوقف قلبه عن العمل في الساعة السادسة وخمس دقائق
من صباح السابع من تشرين الأول سنة 1910 وشاع خبر وفاته في أنحاء العالم.

في أواسط شهر كانون الثاني عام 1911 كتبت شقيقته ماريا نيكولايفنا عن لقائها
الأخير بأخيها إلى مترجم أعماله إلى اللغة الفرنسية شارل سلامون تقول: كان
شقيقي يريد في زيارتي الأخيرة أن يركن، أن يعيش في وضع روحي هادئ فقط،
كم فرح المسكين برؤيتي، وكم تمنى أن يعيش في أي بيت فلاحي بسيط.

لكنه مات في تلك المحطة النائية استابوفو على خط حديد موسكو – كورسك،
وتوقفت عقارب ساعات المحطة عند الزمن الذي توقف فيه قلبه عن الوجيب.
وبقيت سيرة حياته وأفكاره ومؤلفاته حية ترشد البشر إلى طريق الخلاص. وفي
الأشهر الأولى بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 عهد لينين إلى
رفاقه بنشر مؤلفاته على نطاق واسع، ومن ضمنها المؤلفات التي منعتها الرقابة
القيصرية. وبعد سنوات من العمل الدؤوب ظهرت المجموعة الكاملة لمؤلفاته في
تسعين مجلداً من القطع الكبير.

عليّ الاعتراف أنني لم أكتشف الجانب الفكري الفلسفي في شخصية ليف تولستوي
إلا متأخراً، لكن من الإنصاف للنفس القول إني ما إن أدركتُ قيمة هذا الفكر حتى
تحولت إلى مبشر به، ففي قراءة فكر ليف تولستوي الفلسفي شفاء للكثير من عذابات
البشر، وفكره الفلسفي يندرج في مجمل إنتاجه في مراحله المتعددة مما يجعل
استيضاحه عسيراً للغاية.

ويمكن القول إن مأثرة ليف تولستوي لها جناحان أدبي تربوي وفلسفي كوني،
وتنهض على هذين المسارين مجمل أعماله في العشرين سنة الأخيرة من حياته.
وتولستوي من فئة المثقفين الكبار التي تظهر في أي مكان أو حقبة يغمرها مناخ
حضارة مثقفة، كأخيه فيلسوف معرِّة النعمان المكنى بأبي العلاء المعري، رهين
المحبسين، نزيل معرة النعمان. تتميز هذه الفئة بتكامل التكوين الثقافي بين الذهن
والذات، وتتمتع بفضل التعمق في قضايا الفكر والإنسان والوجود بدرجة من الوعي
الكوني تدمجها في ضمير العالم.

وهكذا تمايز تولستوي في فكره وحياته من خلال بساطة العيش في الطعام والملبس
والمسكن وفي الإشاحة عن هموم المجد الشخصي والجاه الاجتماعي. وبذلك نجح
في إنشاء سلطته الخاصة التي وظفها أدباً وفكراً فاعلاً في مشروعه لنصرة جماهير
الفلاحين الفقراء. وفي عام 1884 كتب تولستوي لدار نشر الوسيط الروسية
مجموعة حكايات تحمل عنوان “قصص شعبية” اقترن فيها فضحه للاضطهاد
والقهر مع دعوته للتسامح والحب الأخوي والابتعاد عن الشر الذي يكدر عيش
البشر. ولم يصدق أهل الثقافة الارستقراطية أن هذه القصص مكتوبة بيد مبدع
رواية الحرب والسلم. والظاهر أنها جرحت مشاعرهم المرهفة بعمق مضمونها
وتسفيهها لأخلاقهم وطريقة عيشهم. وقد تعرضت قصصه الشعبية لملاحقة سلطات
الرقابة القيصرية مثل قصته “نيكولاي بالكين” وهي عبارة عن أهجية حادة يتعرض
فيها لشخصية القيصر نيكولاي الأول، الذي كان من أشد الطغاة الذين يكرههم
تولستوي. وقد قام الطالب ميخائيل نوفوسلوف من جامعة موسكو بطبع هذه القصة
على آلة الطباعة بدون إذن مسبق من تولستوي، واعتقل الطالب لهذا السبب. وعندما
علم تولستوي بذلك، توجه إلى إدارة الشرطة القيصرية وطالبهم بالإفراج عن
الطالب وحبسه هو. وأعلن أن المسؤولية تقع عليه لأنه كاتب هذه القصة. وبعد أن
استمع جنرال الشرطة إلى تولستوي قال: يا ليف تولستوي إن مكانتك عظيمة
وكبيرة بحيث لا تتسع سجوننا لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى