أمن وإستراتيجيةفي الواجهة

ما يخيف في الحرب الأوكرانية لم يظهر بعد.. أسرار جديدة

بكر السباتين

ما يميز الحرب في أوكرانيا أن الطرف الروسي يتعامل معها على أنها حرب شاملة تدور رحاها منذ البداية بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا بالوكالة عن الناتو، في عدة محاور: عسكرية وسياسية واقتصادية وفكرية في مواجهة المشروع الغربي الليبرالي التمددي المتوحش.. حرب استخدمت فيها كل الوسائل التقليدية المتصاعدة نحو مواجهات نووية في إطار حرب عالمية ثالثة بعيدة الاحتمال لكن حصولها يتراوح بين الحرب النفسية والتضليل الإعلامي، حرب انعكست أضرارها على عموم الغرب الذي لم يدّخر جهداً بالمقابل في تقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي للقيادة الأوكرانية كي تستمر في حربها الاستنزافية ضد روسيا، وإلى الآن كانت نتائج الحرب على صعيد اقتصادي قليلة التأثير على روسيا خلافاً لتأثيرها على الغرب وخاصة أوروبا..سوى أنها أدت إلى ارتباك روسي ميداني دفع الروس إلى اعتماد مبدأ الفعل ورد الفعل الساحق الماحق.

هذا المدخل قد يساعد في تفسير الأداء الروسي في التصدي لحلف الناتو وأوكرانيا في حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، يحدث فيها تقدم هنا وانسحاب هناك وأزمات اقتصادية في اوروبا واستقطابات روسية لبعض حلفاء أمريكا في حرب الطاقة مثل بعض دول الخليج العربي.

وعلى ضَوْء ذلك، اتخذ الرد الروسي على “التجاوزات الميدانية الأوكرانية” طابعين اثنين، وهما:

أولا:- الرد الطارئ المباشر على عملية تفجير الشاحنة المفخخة التي نفذها عملاء أوكرانيون على جسر القرم، تزامناً مع مرور قطار محمل بالنفط، ما أحدث اضراراً كبيرة في الجسر وممر سكة الحديد في الطابق السفلي ولكن تم معالجتها في غضون ست ساعات. حيث قام الجيش الروسي بقصف العمق الأوكراني نجم عنه دمارٌ كبيرٌ في البنية التحتية لعدة مدن في أنحاء أوكرانيا، أهمها العاصمة كييف، وسلافيانسك وكْراماتورسك واوديسا في إقليم دونباس . وطال التدمير سكك حديدية ومخازن للأسلحة وقواعد عسكرية ومباني استراتيجية من ضمنها العمارة التي تضم السفارة الألمانية، باستخدام الطائرة الإيرانية المسيرة شاهد 136.

كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية إحباط محاولة من القوات الأوكرانية لاستهداف محطة زاباروجيا للطاقة الذرية بـ 8 مسيرات مفخخة تم إسقاطها جميعاً.

من جهة أخرى أعلنت أوكرانيا الأربعاء (12 أكتوبر 2022) استعادة بلدات عدّة من الروس في جنوب البلاد.

وفي سياق الرد على الهجوم الروسي الأخير، من أجل حماية الأجواء الأوكرانية وقعت ألمانيا و 13 دولة من حلفاء الناتو، يوم الخميس الماضي، في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل. “خطاب نوايا أو مذكرة تفاهم” لشراء أنظمة دفاع جوي مشتركة، مثل: أرو3 وباتريوت والقبة الحديدية الإسرائيلية(من المفارقات ان رئيس الوزراء الإسرائيلي يدين الهجوم الروسي دون ان يخجل بينما جيش الاحتلال الإسرائيلي يقترف الجرائم بحق الفلسطينيين من عام 1948- لا بل أن وقاحته تجاوزت كل الحدود حينما يسمي يهود روسيا وأوكرانيا بالجالية الإسرائيلية وهو قرار إحلالي باثر رجعي)

ويجتمع أكثر من 50 دولة على هامش اجتماع للناتو في بروكسل، لمناقشة تعزيز الدفاع الجوي الأوكراني، بعد أيام من سقوط الصواريخ الروسية على مدن في جميع أنحاء البلاد ، بما في ذلك العاصمة كييف.

في منتدى “أسبوع الطاقة الروسي” وسط مشاركة دولية فعالة، من باب المناورة الدبلوماسية إزاء التصعيد الغربي ضد روسيا من خلال تحديد أسعار الغاز الروسي لضرب الاقتصاد لكي يعجز الروس عن تمويل الحرب وبالتالي تحقيق نصر أوكراني يكون من شأنه تحسين الموقف الغربي الأوكراني في أية مفاوضات محتملة مع روسيا مستقبلاً.

اعتبر الزعيم الروسي أن التسرب النفطي في أنابيب دروجبا البولندية (بعد نورد ستريم 1،2 تحت بحر البلطيق) إرهاب دولي” من شأنه أن يخدم مصلحة الولايات المتحدة وبولندا وأوكرانيا.. وهذا اتهام ضمني خطير لتلك البلدان.

مع ان روسيا من خلال أوبيك بلس ودعم سعودي، تم الاتفاق على خفض الإنتاج إلى معدل مليوني برميل يومياً ما صعد الموقف العدائي الأمريكي ضد الحليف المتمرد السعودية.

ثانياً:- الرد الاستراتيجي العميق ومراحله، في إطار المواجهات الميدانية من خلال تغيير الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا استجابة للمستجدات الميدانية فيما يتعلق بالانسحابات الروسية إزاء الهجوم الأوكرانى المضاد.

فقد تعرض الجيش الروسي إلى عدة إخفاقات من جراء الهجوم الأوكراني المضاد، الذي بدأ مطلع الشهر الماضي، وخسر فيها الروس ثلاثة آلاف كيلومتر مربّع في غضون الأسبوعين، وفي اعقاب ذلك شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً آخر واسع النطاق، في منطقة خاركيف، التي تحيط بثاني أكبر مدن أوكرانيا في الأيام القليلة الماضية، واستعادت السيطرة على عشرات البلدات والقرى من روسيا في هجوم خاطف.. وصولاً إلى القصف الصاروخي الكثيف الذي نفذه الروس مؤخراً بعد تفجير الشاحنة المفخخة في جسر القرم كما اسلفنا أعلاه.

ففي الحسابات الروسية اتخذ الرد شكلاً آخر باعتماد تكتيكات عسكرية جديدة تتلاءم مع التكتيكات الغربية التي خطط لها الناتو فارضاً من خلالها قواعد اشتباك جديدة، فيقوم الجيش الأوكرانى بتطويق القوات الروسية فاسحاً لها المجال للانسحاب، ليتقدم الأوكرانيون بروح قتالية عالية؛ وبالتالي رفع العلم الأوكراني في المناطق التي يتم “استرجاعها”.

لقد عزا الروس تلك الانسحابات إلى أخطاء اقترفتها القيادة العسكرية استوجب التعامل معها بصرامة لبناء استراتيجية جديدة طارئة وعلى نار هادئة تجلت بالخطوات التالية:

أولاُ: أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن تعيين جنرال الجيش سيرغي سوروفيكين قائداً للمجموعة المشتركة من القوات في منطقة العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا. لخبرته في الحرب الأهلية في طاجيكستان خلال التسعينات وفي حرب الشيشان الثانية في بداية الألفية الثالثة وفي التدخل الروسي في سوريا، الذي بدأ عام 2015..

ثانياً:- تبني استراتيجية الأرض المحروقة باستخدام سلاح المدفعية والصواريخ وطائرة شاهد 136 الإيرانية. تمهيداً ل”تحرير” الأراضي التي استعادها الأوكرانيون بعد أن ضمت رسمياً إلى روسيا الاتحادية.. واستغلال الفرص المتاحة للرد العسكري المناسب كم حدث بعد تفجير السيارة المفخخة فوق جسر القرم، أو تفجير خط انابيب نورد ستريم 1،2 في بحر البلطيق.

ثانياً: دعوة قوات الاحتياط الروسية للقتال في أوكرانيا، من خلال الإعلان عن التعبئة الجزئية، بالتوافق بين القيادة السياسية في الكرملين ومجلس الدوما، ومجلس الأمن في الاتحاد الروسي وهو هيئة استشارية للرئيس الروسي تعمل بموجب قرارات الرئيس لشؤون الأمن القومي.

ثالثاُ: وفي إطار الحرب النفسية التحذيرية، التلويح باستخدام أسلحة نووية تكتيكية روسية في حال تعرض الاتحاد الروسي للخطر الوجودي من قبل الناتو.

رابعاً: إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية إلى روسيا الاتحادية توافقا مع نتائج الاستفتاءات التي أجريت في المقاطعات المذكورة قبل أيام من خطاب الضم.. والذي قيل بأنه جاء رد على تفجير خطي نورد ستريم 1-2 تحت بحر البلطيق، والذي حامت الاتهامات بشأنه حول أمريكا.

خامساً: الهجوم السيبراني على المواقع الإلكترونية لعدة مطارات أمريكية وفق قناة “إيه بي سي نيوز” صباح يوم الاثنين الماضي، وهي:

مطار دي موين الدولي ومطار لوس أنجلوس الدولي (LAX) ومطار شيكاغو أوهير الدولي، أدت إلى “منع وصول الجمهور” إلى نطاقات الويب العامة التي تبلغ عن أوقات الانتظار والازدحام في المطار.

سادساً: تحييد الأقمار الاصطناعية الغربية بالتشويش عليها، ما ساعد الجيش الروسي على إفشال عدة محاولات لشن هجوم أوكراني مضاد على محاور كوبيانسك وكراسني وليمان ونيكولايف وكريفويروغ.. حيث تعرضت القوات الأوكرانية لخسائر كبيرة بسبب خلل في عمل أقمار “ستارلينك” وعدم وجود قنوات اتصال مستقرة عبر الإنترنت.

وعزت صحيفة “فاينانشيال تايمز” السبب إلى عدة افتراضات منها:

  • العمل الناجح من جانب قوات الحرب الإلكترونية الروسية، وخاصة مجمع التشويش الإلكتروني “تيرادا” الحديث جداً والذي يستطيع قطع الاتصالات، وهو بالذات يمكن أن يستخدم بشكل فعال للتصدي والتشويش على الاتصالات عبر الأقمار الصناعية التي لعبت دوراً مهما في تنظيم الاتصالات العسكرية للقوات الأوكرانية.
  • قيام شركة إيلون ماسك المالكة لمنظومة ستارلينك، بتعديل أداء الأقمار الصناعية فوق أوكرانيا لعدم سداد كييف التكاليف المترتبة عليها.

وكان ماسك نفسه الذي يدعو اليوم إلى قبول أوكرانيا للمفاوضات وفق الشروط الروسية، قد رفض سابقاً التعليق على معلومات حول الخلل المذكور، لكنه أشار إلى أن أوكرانيا دفعت مقابل جزء صغير فقط من الخدمات.

سابعاً: توسيع منطقة بنك الهداف من قبل الجيش الروسي.. وقد ادرجنا هذا البند بداية الحديث تحت عنوان الرد الطارئ المباشر.

ثامناً: الاستعداد لفتح الجبهة الشمالية في الحدود الأوكرانية مع بلاروسيا.. فوفق تصريحات رئيس بلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الأخيرة، فأن بلاده اتفقت مع روسيا على نشر قوة عمل عسكرية مشتركة رداً على ما وصفه بتفاقم التوتر على الحدود الغربية للبلاد.

وأضاف حليف موسكو اللصيق، الاثنين، أن الدولتين ستنشران مجموعة عسكرية إقليمية، موضحاً أنهما بدأتا في جمع القوات قبل يومين، وذلك وفقاً لما نقلته عنه وكالة أنباء “بيلتا” الحكومية.

وفي المحصلة فإن الحرب في أوكرانيا مرشحة للتصعيد في ظل تمسك روسي بحقوقه في الدفاع عمّا يقول بأنها “أرضي روسية” ضمت إلى الاتحاد الروسي مؤخراً، يقابله تصعيد أوكراني بتحريض غربي ودعم عسكري لوجستي مفتوح من قبل الناتو .. ولا يستبعد الخبراء ان يتحول السيناريو النووي إلى واقع مرير غير محمود العواقب.


بقلم بكر السباتين..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى