ما لم اتعلمه في المدرسة
محمد سيف المفتي
كنت أعتقد أن المغامرين أبعد ما يكونون عن الفلسفة حتى قرأت كتاب “عن كل شيء تعلمته خارج المدرسة” للكاتب Erling Kagge هذا الرجل الذي حقق مغامرته وحلمه في الوصول إلى نهايتي القطبين الشمالي والجنوبي وبلغ قمة جبل افريست وبعدها حقق حلمه بتأسيس دار نشر تحمل اسمه، كتب كتابه بطريقة مشوقة في مقارنات بين السعادة والخطورة وبين الرفاهية والتقشف وكتب كذلك عن أهمية الخطأ وضرورته. تناقضات تستدعي التأمل فيها.
يأخذنا معه في مغامرته الاستكشافية الى القطب الجنوبي ويحدثنا في الكتاب عن دروسا تعلمها في تلك الاصقاع النائية يقول عنها “لن تجدها في أي مكان آخر”. تذكرت قولا لـ شيماء فؤاد تقول فيه ” سياحة الروح .. الخلوة .. ، وغذاء الروح .. أرواح المعاني”.
كتب المؤلف في ربيع 2020 ” وجودنا في الحجر الصحي ، في ربيع هذا العام ، يذكرني بالوحدة والصمت اللذين عشتهما كمستكشف قطبي.” استوقفتني كلماته وجعلتني أفكر في مفهوم الوحدة وكيف يمكن للإنسان أن يكون وحيدا وهو جزء من مجتمع وهو حيوان ناطق.
وبدأت أفكر هل حاور نفسه لأيام طويلة وخاصة عندما علمت أنه رمى جهاز الاتصال في الثلج وعاد اليه متحملا عبء حمله فقط لكي لا يتسبب بتلوث الطبيعة مقررا أن يعيش الوحدة والعزلة التامة خلال رحلته الطويلة في أعماق الثلوج بعيدا عن المدنية.
كتب السيد Kagge في دفتر يومياته خلال رحلته باتجاه القطب الجنوبي وفي اليوم 22 من الرحلة ” عندما أكون في البيت كنت أمتع نفسي بوجبات الطعام الدسمة، أما هنا تعلمت أن أثمن افراحي الصغيرة، كالتمتع باختلاف الوان الثلج، هدوء الرياح، مشروب دافئ أو لذة النظر الى اشكال الغيوم”
كتب هذه الكلمات بعد أن قطع مسافة 500 كم وبقي امامه 800 كم لم يرى خلالها أحدا. يقول في بداية الرحلة كان عالمي بساط ابيض يمتد الى نهاية الأفق وفوق ذلك الأفق البعيد شريط ازرق ومع مرور الوقت اختلف الامر وبدأت أرى المنظر بمنظار جديد.
لم يعد الثلج والجليد مجرد بساط ابيض ، بل تدرجات لا حصر لها من اللون الأبيض ، مع وميض بسيط من الأصفر والأزرق والأخضر. وبدأت أدرك أيضًا أن السطح الذي كنت اراه مسطحا لم يعد كذلك بل فيه عدد كبير من المرتفعات والمنخفضات، مع تكوينات غريبة تشبه الأعمال الفنية ، مع ظلال لونية تستحق التركيز.
اعدت قراءة وصفه عظمة الطبيعة عدة مرات، في ذلك اليوم المشرق وتغيير لون الثلج الذي منحه سعادة لا توصف، و كيف بدأ حب السهول يتسلل الى قلبه كما كان يحب الجبال وهو يرى جمالية كل منهما.
فقلت في نفسي وأنا استرسل في القراءة ماذا تعني هذه المناظر والاشكال والألوان مقارنة بحياة المدنية، حتى كتب أمرا جعلني أدرك أن الانسان قادر على خلق عالمه.
يقول في وصفه للألوان : “أن اللون الأزرق هو لون الشعر، والأبيض رمز النظافة، والاحمر مخلوق للحب، والاخضر للأمل”. هذه كانت دوافعه وحواره الذاتي قبل أن يقول ” أن هذه التقسيمات لا تنطبق على حياتنا العادية، إن التعايش مع الطبيعة أصبح كل عالمي وازداد ارتباطي بمحيطي يوما بعد يوم وكأن كل هذه التفاصيل هي افراد مجتمع مع العلم أنه لا توجد تغييرات جذرية في المحيط بل في فقط في رأسي أو كما يقول “التغيرات تحدث في المسافة المحصورة بين اذني اليمنى واليسرى”.
وبينما انا استرسل في القراءة بدأت اطرح هذا السؤال على نفسي، هل معاني الحياة ترتبط فقط بجعل المحيط جميلا، لربما يكون الماخور بيتا جميلا فمن أين تأتي القيم. مع استمرار رحلته يتطرق مستكشف القطب الى هذه النقطة ويقول:
ما هو جميل ينتمي إلى الطبيعة، ولكن لكي لا نحصر محيطنا بمفردة الجمال فحسب ، بل يجب أن نرتقي به الى القيم السامية وهذا ما يتم عمله في الكرة الموضوعة بين اكتافنا ( الرأس) ، وليس فقط فيما تراه عيوننا. ما كنت أراه جميلًا في بداية رحلتي إلى القطب الجنوبي ارتبط بمعاني سامية بعد أن تماهيت أنا مع المحيط والبيئة.
من خلال وصفه أدركت أن على الانسان أن يبحث عن القيم السامية لأنها موجودة أن كان لديه الوعي والحاجة للوصول اليها.
كل ما يقوله الصمت
في اليوم 26 كتب المستكشف Kagge : “هنا يتشرب الصمت في كل شيء. اشعر به واسمعه. في هذا المشهد اللامتناهي ، يبدو كل شيء أبديًا ولا حدود له. الفضاء الصامت لا يهددني ولا يرهبني بل على العكس هو مبعث للطمأنينة “.
في القطب الجنوبي المترامي الأطراف هنا صوت واحد واضح ومسموع، أحس به واسمعه أكثر من كل الأصوات إلا وهو صوت الصمت. أسمعه اعلى بكثير من أصوات صخب المدن من سيارات وتلفونات وقطارات.
وهكذا يخبرني صوت الصمت ويحذرني بشكل واضح أكثر بكثير من كل الإشارات الصوتية في المدن الكبرى.
حواري مع العزلة
كان المستكشف في عزلة تامة لا يجد أمامه سوى الأفق ومحيطه القريب، ومع مرور الأيام أصبحت الانطباعات التي يخلقها هذا المحيط أقوى وبدأ حوارا دام طويلا مع محيطه يتعلق بما يمكنه فعله في هذه الظروف وما يمكن أن يتلقاه من محيطه، حوار لا يشبه الحوارات بين البشر بل كان يرسل فكرة الى محيطه ليتلقى أفكارا جديدة.
هذا الحوار غير من شخصية وقدرات الكاتب اذا يقول أن الأسابيع القليلة الماضية جعلته يدرك أن للحياة أوجه جديدة . في حي Blindern ، حيث يعيش ، بدأ مجددا يصغي الى الطبيعة بقدرات جديدة. يقول بدأت استمع وأفهم لغة الطيور والهواء والعشب والريح والشمس. يخبرنا الطير والنبات من أين أتينا وماذا يجب أن نفعل في المستقبل. ولا يوجد أي شيء قد حدث معي ليمنحني هذه القدرات غير العزلة التامة وأفكر الآن بيني وبين نفسي أن هذه العزلة هي التي منحت بوذا وعيسى كثيرا من جوانبهم الروحانية.
ففكرت بدوري وماذا عن غار حراء؟
الحرية المحدودة
يقول Kagge اتسمت رحلتي بالفعالية وكنت فعلا نشيطا وفعالا في كل شيء حتى اثناء مروري على تلك الاسطح المتجمدة، وكنت أحاول القيام بكل ما يجب علي القيام به، إلا أنني في الخيمة كنت أقوم بعملين في وقت واحد، ولم اسمح للظروف أن تكون عائقا ولا حتى عن القراءة فكنت اقرأ المهم بالنسبة لي وبعدها استخدم الورق كورق تواليت.
السر وراء حياة طيبة تعلمته من على سطح الجليد هو بأن أسمح للسعادات أن تكون بسيطة وسهلة.
ذكرتني هذه الكلمات بما قرأته وهو يصف مذاق أفضل مشمش في الحياة، كتب ذلك في دفتر يومياته.
“في اليوم الثامن وأنا في الطريق إلى القطب الجنوبي ، اكتشفت أن حساء دقيق الشوفان له رائحة زنخة. خفت من شربها فاضطررت إلى سكبها على الثلج. وكتبت في دفتر يومياتي:
أتفحص الثلج أمامي. لقد غاص الحساء في الثلج وبقيت قطع المشمش المجفف على السطح، لم يطاوعني قلبي على ترك المشمش. خلعت قفاز يدي الأيمن وبدأت التقط المشمش واحدة تلو الأخرى، عمل شاق وبارد. حشوت المشمش في فمي لبست القفاز وبقيت حلاوة المشمش في فمي”. وفكرت لربما هذا ما نتعلمه من الزهد كقول الامام علي: ” ليس الزهد أن لا تملك شيئا ، بل الزهد أن لايملكك شيء.
لا أزال اذكر طعم المشمش وكيف شعرت بتلك القطع في فمي ولا يوجد عندي أي شك بأن ذلك المشمش هو أفضل مشمش في الكون.
يقول الكاتب لن اجبر ابنتي على ان تكون وجبة افطارها مكونة من حبتين من المشمش ولكني أتمنى أن لا تعتقد ابنتي أن افضل حياة هي الحياة التي تكون فيها كل وجبات الطعام كوجبات الحفلات والولائم.
هل تعلم لماذا تذكرت وجبات الإفطار في رمضان؟