ماكرون يعلنها مدوية ومن الصين .. أوروبا تبحث عن الاستقلالية!؟ “
من المؤكد أنّ السمة الواضحة لتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون في الصين ،هي البحث عن استقلالية أوروبا ،والتي قال بمضمونها “أن الخطر الكبير بالنسبة لأوروبا، هو أن تجد نفسها تنجر إلى أزمات ليست أزماتها؛ ما سيمنعها من بناء استقلاليتها الإستراتيجية؛ وحذر من أن الأسوأ هو الاعتقاد بأن الأوروبيين يجب أن يصبحوا أتباعا في هذا الملف، وأن يستقوا إشاراتهم من أجندة الولايات المتحدة ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”، حديث ماكرون هذا ،يؤكد ما ذهب اليه الكثير من المتابعين لملف الصراعات الدولية ،فـ الأوروبيون بدورهم حاولوا ، قدر الإمكان التخفيف من حدة التوترات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين واشنطن من جهة وموسكو وبكين من جهة أخرى، ولكن الواضح أن حجم الجهد الأوروبي المستمر منذ أشهر، قد أصابه بعض الانتكاسات في الفترة الماضية، فموسكو بدأت تخشى من عواقب وخطورة خسارتها لورقة قوة تملكها لمصلحة الغرب وهي أوكرانيا، والصين بدأ يقلقها حجم التضييق الاقتصادي والتجاري والتهديدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية الأميركية بحق بكين .
الأوروبيون بدورهم يعون كل هذه الحقائق وهذه الضغوط التي تمارسها واشنطن على موسكو وبكين، ويعرفون أن الوصول إلى مسار تفاهمات بين القوى الدولية المتصارعة، تحتاج إلى تفاهمات بين الأطراف الدولية لتطبيق فعلي لمسار هذه التفاهمات، ولكن من الواضح أن هناك جملة من التعقيدات التي تمنع الوصول إلى هذه التفاهمات، هذه التعقيدات تدفع بعض المتابعين إلى القول إنهم لا يعولون على الجهد الأوروبي الساعي إلى بناء وثيقة تفاهم دولية قادرة على ضبط إيقاع الصراعات الدولية بما ينعكس على حلول سريعة لمعظم الأزمات المحلية والإقليمية والدولية، وهنا يمكن أن يطرح البعض بعض التساؤلات ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن الأوروبيين يدركون ويعون حجم التعقيدات الدولية وحجم الصراعات بين موسكو وبكين من جهة وواشنطن من جهة أخرى، فلماذا يقومون بمحاولات غير بناءة وعنوانها الفشل على الأغلب لتقريب وجهات النظر بين محوري موسكو وبكين من جهة وواشنطن من جهة أخرى اللتين تعيشان الآن على إيقاع حرب باردة جديدة، قد تتطور مستقبلاً لصدام عسكري؟ فما الهدف من كل هذا الجهد الأوروبي؟.
للإجابة على السؤال أعلاه، سنعود الى الماضي القريب ونبحث فيه عن بعض المعلومات التي ستعطينا بعض الإجابات عن الأهداف المستقبلية للمسعى الأوروبي، وسنبحث عن هذه الإجابة بواحدة من كبرى القوى الأوروبية، ففي العام 2018 وفي قمة الخلاف الروسي الأميركي حول أوكرانيا أجرت مؤسسة «كوربرا» دراسة حول مواقف الألمان تجاه السياسة الخارجية الألمانية، وكان عنوان سؤال الاستطلاع للمشاركين: «مع أي بلد ينبغي أن تتعاون ألمانيا في المستقبل»؟ وحينها جاءت نتائج الدراسة صادمة للنظام الألماني تحديداً فقد جاءت النتيجة شبه متساوية بين الشرق والغرب، حيث اختار ما يقارب 46 في المئة الولايات المتحدة، بينما اختار 43 في المئة روسيا، وفي العام نفسه أيضا ًأجرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية استطلاعاً مشابهاً لاستطلاع «كوربرا» وقد سئل الألمان حينها عن موقفهم من النظام الأميركي وعلاقة ألمانيا بأميركا، وحينها قال 57 في المئة من الألمان بأن بلادهم ينبغي أن تصبح أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، الواضح من خلال نتائج هذه الاستطلاعات لآراء الشعب الألماني، مع أنها قد لا تكون مؤشراً ثابتاً، أن هناك انقساماً في الداخل الألماني حول موقف ألمانيا من صراع موسكو وبكين من جهة واشنطن من جهة أخرى، وهذا الانقسام الشعبي ينسحب على باقي المجتمعات الأوروبية، وهذا من الطبيعي أن ينسحب على مواقف الحكومات الأوروبية بمجموعها.
هذه المعلومات بمجملها والآتية من ألمانيا والتي تنسحب على باقي الحكومات والمجتمعات الأوروبية وبكل تداعياتها قد تكون أعطتنا بعض الإجابات عن حقيقة المسعى الأوروبي الهادف الى إيجاد نقاط التقاء بين الأطراف الدولية بخصوص الملفات الدولية العالقة، فبعض الحكومات الغرب أوروبية عملت بجهد في الفترة الأخيرة وما زالت تعمل على تحقيق هدفها هذا، ولكن لن تعمل طويلاً بهذا الاتجاه، فهي الآن تقوم بعمل بالونات اختبار لنوايا الأطراف الدولية المتصارعة، لتحديد موقفها المستقبلي من كل ما يجري من صراعات دولية، وإن كانت بالفعل ستبقى إلى الأبد في خندق واشنطن، أما أنها ستقرر وتحت ضغوط شعبية التوجه إلى الشرق وتحديداً الى موسكو، ام ستقرر التكتل باتجاه انشاء قوة عسكرية ، توازي قوة واشنطن وانقرة وبكين .
ختاماً، من المؤكد أن مشاكل وصراعات القوى الدولية في عام 2023 سترحل إلى أعوام قادمة، من دون وجود حلول وتفاهمات تلوح في الأفق للتوصل إلى تفاهمات بين القوى الدولية، رغم كل المساعي الأوروبية، فالموقع الجغرافي لأوروبا يحتم عليها في أحيان كثيرة أن تكون مسرحاً، لصراعات دولية ومسرحاً آخر لحل هذه الصراعات رغم حجم الضرر الكبير الذي لحق بالمجتمعات الأوروبية منذ مئة عام مضت ولليوم بسبب الصراعات بين القوى الدولية الكبرى، فقد تيقن الأوروبيون منذ أمد أن موقعهم الجغرافي، ومواقفهم ستكون دائماً عرضة للتساؤل، ولهذا هم اليوم قرروا أن يخوضوا محاولة جديدة تبدأ ببناء مسار تفاوضي بين القوى الدولية المتصارعة بمحاولة لتسوية الأزمات الدولية العالقة في ما بينها، وأن فشلت في بناء هذا المسار التفاوضي، فهي على الأغلب ستذهب نحو اتخاذ قرارات جريئة، فأوروبا لن تحتمل طويلاً وهي الآن في صدد تحليل ما جاءها من معلومات من خلال بالونات اختباراتها التي طرحتها في عام 2018 لمعرفة نوايا الأطراف الدولية المتصارعة، فهل سنسمع مع نهاية عام 2023 ومطلع عام 2024عن قرارات جريئة لأوروبا تعلن خلالها الخروج من تحت عباءة القوى الكبرى لتستلقي بكل ثقلها ومكانتها الدولية تحت عباءة جيش أوروبي موحد، من هنا سننتظر الأشهر المقبلة لتعطينا إجابات واضحة عن كل هذه التكهنات والتساؤلات، فالآتي من الأيام يحمل في طياته الكثير من المتغيرات في المواقف الدولية، وفي جملة مشاهد الصراع الدولي حول موازين القوى الدولية، وشكل العالم الجديد.
*كاتب وناشط سياسي –الأردن.