ماذا يعني حديثُ الرئيس الأمريكي عن إصلاح مجلس الأمن الدولي؟.

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق

/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة ليس بجديد.. فاذكرُ مُذ كنتُ عضوا في وفدِ بلادي لدى الأمم المتحدة في نيويورك أوائل الثمانينيات، كانت تجري مثل هذه الطروحات من طرف بعض وفود وزعماء العالم الثالث، أو عالَم الجنوب..
بل فكرةُ إصلاح الأمم المتحدة، قديمة قِدَم هذه المنظمة الدولية.. وقد برزت هذه الفكرة على نحوٍ أكبر بعد الغزو الأمريكي للعراق في آذار عام 2003، بعد تنبيهِ أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي أنان في خطابهِ في 30 تموز/يوليو 2005 حينما قال: إننا نعيش أزمة نظام دولي..
كما عُقِدت مؤتمرات بهذا الشأن في بعض البُلدان، كما اليابان..
وفي أيلول عام 2005، في الذكرى الستِّين لتأسيس المنظمة الدولية، عُقِدت في نيويورك قمة عالمية استثنائية، قدّم خلالها أمين عام الأمم المتحدة حينها، كوفي أنان، مشروعا شاملا للإصلاح (القانوني والإداري والسياسي) من تسع وثلاثين صفحة، إلا أنّ الولايات المتحدة عرقلت تنفيذ هذا المشروع حينما قام المندوب الأمريكي (جون بولتون) وقبل موعد القمة بأسبوعين، بتوزيع اقتراح أمريكي بحذفِ أكثر من أربعمائة بند في مشروع الإصلاح المذكور.. وتقلّصت الوثيقة إلى ثلاث صفحات فقط.. واتّفق بعدها قادة العالم على اعتماد وثيقة مُخفّفة اللّهجة لإصلاح الأمم المتحدة..
**
فماذا استجدَّ حتى يقف الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم 21 أيلول 2022، ويطرح مسألة الإصلاح من فوق أعلى منبر عالمي، وهو منبر الجمعية العامّة؟. ولماذا تحدّث عن الإصلاح فقط في مجلس الأمن الدولي، وليس في كافة مفاصل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، عملا بمشروع كوفي أنان؟.
الجواب لا يخفى على أحد.. فالولايات المتحدة تريد تقليص الدور الروسي في مجلس الأمن بعد كثرة استخدام حق النقض(الفيتو) في السنوات الأخيرة من عُمر المجلس، لاسيما في الحالة السورية والأوكرانية، وحالة كوريا الشمالية..
ولكن هل هذا ممكنا؟.
ليس من السهل إطلاقا تحقيق أي إصلاح في مجلس الأمن، لأن هذا يحتاج إلى موافقة كافة الأعضاء، دون أي فيتو، وثُلثي أعضاء الجمعية العامّة..
ومن الطبيعي أن تستخدم أي دولة من الدول الدائمة (ومنها روسيا) حق النقض إزاء أي مقترحات لا تتوافق مع مصالحها..
فالتركيز هو اليوم على مجلس الأمن.. الجميع ينادي بفكرة الإصلاح، أمريكا وروسيا وكافة الدول الأعضاء.. ولكن لا يوجدُ اتّفاقا حول شكل الإصلاح.. بل أخذوا يستخدمون ذلك للمُزايدَة أمام دول العالم الثالث، وكلٍّ منهما ينادي بِضمِّ دول جديدة من هذا العالم، كي يظهر أنه الأحرص والأقرب للدول النامية.. تجارة سياسية..
فهناك طروحات حول توسيع العضوية الدائمة في المجلس، وحِصص القارات الإقليمية.. أي أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.. ولكن هناك خلافا حول الدول التي يُمكن ضمّها من هذه القارات.. فالباكستان لا تقبل بضم الهند كعضو دائم.. والأرجنتين قد لا تقبل بضم المكسيك كعضو دائم.. والبرازيل تجد نفسها الأحق في تمثيل القارة الامريكية الجنوبية.. وجنوب أفريقيا قد تتنافس مع نيجيريا.. الخ..
وهناك طروحات لتوسيع العضوية الدائمة إلى 25 دولة، آخذة بعين الاعتبار القوة الاقتصادية والعسكرية للدول الجديدة التي يُمكن أن تكون أعضاء دائمة..
وهناك طروحات في أن تكون إحدى الدول الإسلامية عضوا دائما في مجلس الأمن، وهنا يبرز التنافس بين تركيا وأندونيسيا والباكستان.. فكلٍّ منها يرى في نفسه الأحقية..
وكذلك الدول العربية ترى ضرورة وجود عضو دائم منها، وهنا تبرز المنافسات أيضا بين مصر والجزائر والسعودية.. الخ..
بينما أوروبا تريد ضم ألمانيا واليابان للعضوية الدائمة.. والصين قد تعترض على عضوية اليابان.
وهناك طروحات في توسيع الدول دائمة العضوية التي يمكن أن تتمتع بحق الفيتو، والدول الأخرى التي لا تتمتع بحق الفيتو.. أي الفصل بين الأمرين..
**
كل هذه الطروحات لا يمكن أن تؤدي إلى إصلاح في الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، أو الانتقال إلى نظام عالمي جديد.. فطالما سيبقى حق الفيتو قائما، فهذا يعني أن الإصلاح مستحيلا، وحتى لو تمّت زيادة أعضاء مجلس الأمن، وتمّ الاتفاق على ذلك، فهذا لن يُغيِّر من الأمر شيئا طالما هناك دولا بعينها لها حق النقض(الفيتو) وستبقى ذات المُعضلات قائمة، وسيبقى هناك إقطاعا سياسيا عالميا مُمَثلا في مجلس الأمن، ودولا ضعيفة في العالم الثالث تابعة لهذه الدول الهامّة والمؤثِّرة، وتسعى لكسبِ ودّها.. وبدورها ستقوم هذه الدول دائمة العضوية باستقطاب كلِّ منها لِما يستطِع من دول العالم الثالث خدمة لمصالحهِ..
وهكذا سيبقى التناقُض قائما حتى في ميثاق الأمم المتحدة الذي تنصُّ المادّة الثانية، الفقرة الأولى منهُ على مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء، بينما منحُ حق الفيتو لبعض الدول ينسفُ كل مبدأ المساواة..
هذا يُذكّرُ بدساتير بعض الدول التي تنصُّ على أنّ كافة المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ولكن من جهة أخرى تشترطُ أن يكون دِين رئيس الدولة الإسلام..
**
الأمم المتحدة يمكن إصلاحها في حالة واحدة، وهي أن يُلغى حق الفيتو نهائيا، وأن تُصبِح قرارات الجمعية العامّة مُلزِمة، وتُعتَمد بأغلبية الأصوات، وهنا تتساوى كافة دول العالم مع بعضها، إذ يكون لكلٍّ منها صوتا واحدا، وتُصبِح أكبر دولة كما أصغر دولة في حق التصويت، وهكذا تتحقّق المساواة، ولا تستفردُ دولا بعينها بالقرارات الدولية..
وهذا هو الأمر الطبيعي.. فالجمعية العامة هي بمثابة البرلمان الدولي، وفي كل البرلمانات هناك صوتٌ واحدٌ لكل عضو، والقرارات يتمُّ اتخاذها بالأغلبية..
حينها فقط نكون أمام عالَمٍ، ليس متعدد القطبية فقط، وإنما عالمي القُطبية.. وحينها تتسابق الدول الكُبرى لكسبِ ودِّ الدول الصُغرى كي تكسبَ أصواتها في الجمعية العامّة، وتُقدِّم لها المُساعدات.. تماما كما يحصل في الانتخابات البرلمانية في أي دولة، حيثُ يتسابق المُرشّحون على استرضاء كلِّ ناخبٍ حتى يحصل على صوته..
**
وأمامَ ما نسمعهُ من طروحات حول (عالمٍ جديدٍ متعدد القطبية) فهذه لا تخدم إلا دولٍ بعينها ولا تخدم كافة دول العالَم ولا المُجتمع الدولي.. فإن كُنا اليوم (على سبيل المثال) أمام دولة واحدة قوية ومُؤثِّرة، ثمّ أصبحنا أمام دولتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فماذا ستستفيد دول العالم الفقيرة والمغلوب على أمرها؟ ستبقى تحت نيرِ إقطاع سياسي عالَمي.. ولكن بدل إقطاعي واحد أو إثنين، يُصبحُ هناك أربعة أو خمسة.. يعني بدل إقطاعي في المدينة يُصبِح بكل حي وبكل قرية إقطاعي..
وكل دولة تدّعي أنها تهدف من طروحاتها خدمة المُجتمع الدولي أو القانون الدولي، فهي غير صادقة، لأنها تهدفُ لخدمة مصالحها فقط..
فمفهوم القانون الدولي مطّاطٌ جدّا لدى هذه الدول.. وما تراهُ من مصلحتها يُصبِحُ هو القانون الدولي.. وما يتعارضُ مع مصلحتها يكون خرقا للقانون الدولي.. ولذلك نرى ذات الدولة تُناقِض نفسها في سياساتها وممارساتها وأفعالها من مكان لآخر.. فقد ترفض استخدام منطق القوة في هذا المكان، ولكن تستخدمهُ في مكان آخر.. وقد تقفُ إلى جانب حق تقرير المصير في هذا المكان، ولكن ترفضهُ في مكان آخر.. وقد تتحدّث عن السيادة في هذا المكان ولكن تخرقها في مكان آخر.. فالمسألة مسألة مصالحٍ وليس قانون دولي ولا غيرةٍ على المُجتمع الدولي.. كل هذا تضليل..
**
ما لم يلتغي حق الفيتو نهائيا وتُصبِح قرارات الجمعية العامة بديلا عن قرارات مجلس الأمن، ويُصبِحُ دور مجلس الأمن هو متابعة تنفيذ قرارات الجمعية العامة، فلن يكون هناك عالَما جديدا متعدِّد القُطبية، على الإطلاق، وإنما مُتعدِّد الإقطاعيات.. وستبقى ذات العقلية التي حكمَت العالم، بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس “عُصبة الأمم”، واستمرّت بعد الحرب العالمية الثانية في ظلِّ “هيئة الأمم” التي حلّت محل العُصبَة، ستبقى ذاتها، صراعات وحروب وتنافُس وتناحُر ومُكايدات واحتلالات، على مبدا شريعة الغاب، أي شريعة القوي..
**
فبعد الحرب العالمية الثانية تأسست الأمم المتحدة عام 1945، ووُضِعَ ميثاقُها الحالي، الذي دعا في أولِ مقاصدهِ إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، وإزالة كافة الأسباب التي تُهدد السلم والأمن الدوليين، وقمعِ كل أشكال العدوان، والالتزام بحل الخلافات بالوسائل السلمية، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي..
ولكن ماذا تحقّق من ذلك؟.
الدول الكُبرى الأعضاء في مجلس الأمن هي من شنّت كل الحروب التي وقَعَت منذ نشأة الأمم المتحدة، واعتماد ميثاقها الحالي.. وهي من غطّت على كل عدوان.. والقوى العُظمى هي أول من انتهكت قواعد القانون الدولي، وما زالت، غيرُ آبهةٍ بكل مقاصد الميثاق الذي هي من وضعَتهُ على رغبتها ومقاساتها بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وأسّست من خلالهِ إلى هذا النظام الدولي الذي لم يجلب في أي وقت للعالم السلام والأمن والاستقرار.. وإنما استمرّت شريعة الغاب..
ولذلك العالم بحاجة إلى نظام دولي جدي يضعُ حدّا لشريعة الغاب، وهذا لن يكون إلا بالآراء سالفةُ الذِكر:
إلغاء حق الفيتو نهائيا، ووضعُ كل الصلاحيات في الجمعية العامة (كبرلمان دولي) وتُصبِح مهمّة مجلس الأمن متابعة تنفيذ قرارات الجمعية العامة، أو البرلمان.. أي تُصبِح مهمتهُ تنفيذية..
هكذا يكون لدينا عالم متعدد الأقطاب على عددِ دول العالم، ويتحقق مبدأ المساواة والعدالة بين الأمم..
ولكن هل تقبل الدول العُظمى بذلك؟. الجواب كلّا، أول من سوف يعترض هي الولايات المتحدة وروسيا..
ولذلك كانت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة خلال الدورة الحالية الـ 77 للجمعية العامة، وكما صرّحت المندوبة الأمريكية ليندا توماس غرينفيلد، هي عزل روسيا، لأنهُ لا يُمكن نزع حق النقض(الفيتو) منها.. وهذا ما تعمل عليه كافة الدول الغربية خلال الدورة الحالية 77 للجمعية العامة، وفي اجتماعات مجلس الأمن..
وفي آخر اجتماع على مستوى وزراء الخارجية يوم الخميس 22 أيلول 2022 انسحب وزير الخارجية الروسي لافروف من جلسة المجلس لأن كافة دول الغرب أخذت بمهاجمة روسيا بسبب أوكرانيا، ولم تجد دولة تُدافع عنها.. حتى أن الصين العضو الدائم في مجلس الأمن تحرص كل الحِرص على أن تأخذ دور المُحايد في هذا الصراع، رغمَ أنها استفادت جدا من هذه الحرب وذلك بِشراء النفط والغاز الروسي بأسعار مُخفّضة كثيرا..
والتقى وزير خارجيتها مع وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، على هامش أعمال الجمعية العامة، واتفقا على استمرار التشاور، رغم كل التوتر بين بلديهما في مضيق تايوان.. ولكن لم يحصل لقاء بين الأمريكي والروسي..
الدول مصالح.. وليست جمعيات خيرية.. ولا صليب أحمر دولي.. ولا يوجدُ شيئا لوجهِ الله.. فلا ينغرَّ أحدا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى