لماذا خسرت الولايات المتحدة موقعها القيادي؟
ضرغام الدباغ
منذ عقود، والتراجع الأمريكي واضح وينبأ بالكثير، وهناك الكثير من المشكلات الجنينية التي كانت تنمو وتتفاعل داخل
الامبراطورية الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، وتنبأ بتدهور مضاعف ما لم تبادر الولايات المتحدة لإيقاف التدهور
أولاً، ومن ثم اصلاح موطن الخلل، ولكن المسار التاريخي هو غالباً أقوى من إرادة البشر، ثم أن طبيعة التطور تشير أن
الخلل كبير، وحاسم، وربما يفوق قدرة القيادات على تداركه.
المحلل السياسي ليس بفتاح فال، بمعنى أن بوسعه أن يؤشر حالة التراجع، ودرجته، ولكن تحديد موعد السقوط وشكله،
هذه ليست من اختصاصه. والكثير جداً من العلماء الأمريكيين وغير الأمريكيين، أشاروا لهذا بشكل تفصيلي في كتبهم
ومقابلاتهم ومقالاتهم، منذ عقود طويلة خلت (منذ ثلاثينات القرن الماضي)، ولكني أعتقد أن غول الاحتكارات العملاقة
الأمريكية، تجوع كلما التهمت أكثر، ولا تستفيد من دروسها، فالهزيمة في فيثنام كانت شاملة : سياسيا وعسكرياً وأخلاقياً،
وكانت مقدماتها تلوح أمام القيادات الأمريكية قبل حلولها. فقد قرأت كتاباً في أواخر الستينات (عجز التقنية الامريكية في
فيثنام، بيروت 1968) يشير فيه كاتبه (نغودين خاكفين) بلغة الأرقام والحقائق أن الهزيمة حتمية للولايات المتحدة،
بطريقة علمية وذلك بسبب العجز المتراكم المتزايد للقدرة الامريكية في الحرب، حتى بعد الاستعانة بقوات الناتو .. ولشدة
الخسائر المالية والعسكرية، والسياسية.
والكتاب الذي ألفه كاتب فيثنامي، قرأته بشغف في أواخر الستينات (1968) وهو كتاب صغير الحجم قرأته بعمق، ولذلك
استطعت أن أتفهم بدقة، أن الأمريكان ماضون بسرعة أكبر ونتائج شاملة إلى الخسارة في العراق لأسباب مشابهة(سياسية/
عسكرية/ ويضاف إليها الاقتصادية والاخلاقية) فالحرب عام 2003 كانت حرباً عدوانية بصفة تامة 100% بحيث لا
يمكن لأي منافق الدفاع عنها. بل وأن قطبا العدوان من القادة الأمريكان والإنكليز (بوش وبلير) اعترفا بصراحة تامة
بالعدوان بعد أن وجدا أن الكذب صار مفضوحاً ولا سبيل للإنكار، والاعتراف بصراحته يستحق أن يحالا مع مجرمين
آخرين إلى محكمة الجنايات الدولية والحكم عليهما بأقسى العقوبات (الاعتراف سيد الأدلة)، وعدم مثولهما أمام المحكمة،
يؤكد أن هذه المحكمة هي أمريكية قد أنشأت لمحاكمة خصوم أميركا فقط، ومن يعصى أوامرها فحسب.
والحكومة الامريكية قد تتمكن بأساليب متعددة تدارك بعض الخسائر السياسية، في علاقاتها الدولية تستطيع أن تشتري
صمت البعض، بالمال أو بالمواقف السياسية، أو بالابتزاز ولغة التهديد بالعقوبات الاقتصادية، ولكن حتى هذا له حدود
معينة، فلم تنجح من حمل فرنسا وألمانيا على المشاركة في الحرب على العراق، كما أنهم لم ينجحوا في استحصال قرار
من مجلس الأمن بشن العدوان. الخسائر الاقتصادية تمكنوا من تدارك جزء منها بالاقتراض الداخلي، وإرغام حلفاؤها من
دفع أموال الحرب، كما تمكنوا من تخفيف بعض الخسائر بالأرواح، بنكران الخسائر واعتبارها حوادث طرق، أو خارج
ميادين القتال، أو نتيجة أخطاء تكنيكية، وفي الحرب على العراق اكتشفت بدعة جديدة، وهي أنها تقبل مجندين أجانب على
أمل منحهم الجنسية لاحقاً، أو البطاقة الخضراء للإقامة (Green Card)، أو تأسيس شركات قتالية تقبل مرتزقة، ولا
تعتبرهم في عداد القوات المسلحة، وبالتالي ضمن خسائرها.
ولكن لكل شيئ حدود، فحين يبلغ الاقتراض الداخلي حداً يعتبر غير مقبول، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4 مليارات
دولار سنة 2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا. والاقتراض تسبب أن يتصاعد الدين القومي الأمريكي ليبلغ 14
ترليون دولار، وأعتبر أن ما نسبته 7,5% من الديون إنما هي سبب مباشر ومن نتائج الحرب على العراق. كما أن الخسائر
بالأرواح لا يمكن تغطيتها إلى الأبد، فهناك جمعيات مدنية للمعاقين بسبب الحروب والمصابين بأمراض عصبية، وجمعيات
المحاربين القدماء، التي لا يمكنها تزوير الحقائق واختزال أعداد القتلى، وبالإضافة إلى مجاميع من العسكريين من مختلف الرتب،
أدركوا أنهم كانوا في مهمات إجرامية قتل وسلب وسرقة ليس إلا صاروا يبوحون بنا تختزن ذاكرتهم المريضة.
الولايات المتحدة تكابر، تنكر، ولكن في عالم ثورة الاتصالات والإعلام، لم يعد بالإمكان إخفاء الجرح الغائر عميقاً، أو إنكار الحقائق
الساطعة، أن العراقيون ألحقوا هزيمة تاريخية بالولايات المتحدة. هزيمة مريرة هذه هي الحقيقة، ومن نتائج حرب العراق أن
مكانة أميرا تراجعت على كافة الأصعدة، وبدت خسارتها لموقعها الدولي واضحاً
فقرار الانسحاب من العراق ومن أفغانستان ينطوي في جوهره على معان سياسية :
- التسليم بخسارة الهدف العسكري والسياسي.
- تقلص خيارت دوائر القرار إلى خيار واحد وهو : الانسحاب.
- قبولها الحوار مع العناصر التي فشلت في إزالتها عن مسرح الصراع المسلح.
تقلص هامش الخيارات الأمريكية بات معروفاً حتى لحلفاءها المقربين، وحتى من ضمن عائلة الناتو، أن الولايات المتحدة عجزت
عن طرح بدائل لما تصدت له بالقوة، وهذا الفشل ساطع في العراق وأفغانستان، وأما في فلسطين فالفشل شامل وكامل ومتواصل،
فهي(الولايات المتحدة) لم تستطع منذ عام 1948 أن تبلور موقفاً ( متساهلاً ) يؤدي لإقامة سلام دائم، لأنها عاجزة عن كبح جماح
حليف شره شرس لا يتراجع عن سياسية التوسع.
وعسكرياً، فالبرغم من قدرات أميركا اللوجستية الهائلة (تنقل واسع النطاق على مستوى العالم) تتيح لها إمكانية إجراء مناورات
بالقطعات، إلا أن تعدد مسارح العمليات وتنوعها طبيعة الصدامات الواقعة أو المحتملة، أشارت لعجز ليصعب تلافيه. في مشهد يعلن
فشل الولايات المتحدة في حل أزمات بؤر التوتر عبر العالم، وهذا يعني بجلاء تناقض أهدافها مع إرادة وأهداف شعوب العالم.
وفي حرب العراق مورست هذه السياسة بشكل مكثف ومتنوع أكثر من ذي قبل بكثير، إذ ضغطت السياسة الخارجية الأمريكية
بتأثيراتها على أجهزة الإعلام في العالم، بما في ذلك أجهزة الإعلام في الوطن العربي بعدم نشر أنباء عن فعاليات المقاومة العراقية
ضد الاحتلال في العر ق، فحاولت جهد إمكانها التقليل من شأنها، وعدم نشر الأنباء عن عملياتها والخسائر الأمريكية، والغاية هي
عزل المقاومة العراقية من محيطها العراقي والعربي. ومحاولة بائسة لإخفاء حقائق الموقف في العراق، وأن خسائرها الحقيقية
(الاقتصادية والسياسية) هي أضعاف ما أعلن عنه رسمياً (نحو 5500 قتيل) فالخسائر الحقيقية هي أكثر 33,000 قتيل، وبالطبع
أضعافهم من الجرحى والمعاقين.
وبالاستعانة بجملة من الحقائق والإحصاءات التي أجرتها مؤسسات ومعاهد بحث أمريكية غير حكومية أو شبه رسمية، في إطار
حسابات الخسائر الأمريكية، ومن خلال تفاوتها الطفيف أو الكبير، نتأكد من حقيقة واحدة، أن المصادر الرسمية الحكومية لم تكن
صادقة بنشرها الأرقام والمعطيات. وهذا بالطبع له هدف واحد وهو إخفاء أبعاد الهزيمة المنكرة التي تلقوها في وادي
الرافدين.
وفي مقدمة هذه المصادر تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون وهو أول تقرير أميركي محترف رصين تضعه لجنة مستقلة من
الكونغرس استعانت بـ183 خبيرا عسكريا ومدنيا، وتعترف لأول مرة بأن معدل الهجمات في أكتوبر/ تشرين الأول
2006 قد بلغ 180 هجوما يوميا وبخسائر 102 قتيل لنفس المدة.
وفي الإطلاع على تقرير أميركي آخر لا يقل أهمية يشير إلى حجم آخر من الخسائر، وهو تقرير مكتب المحاسبة
الأميركي (G. A.O) الصادر بتأريخ 23 يوليو/ تموز 2008 عن الحرب في العراق، وينص التقرير على إجمالي
الهجمات التي نفذتها المقاومة العراقية بـ 164 ألف عملية قتالية أعتبرها التقرير مهمة وعنيفة) مع إشارة في نفس
التقرير إلى أن هذه الأرقام لم تشمل الهجمات شرق وجنوب البلاد).
إذا أضافنا 300 جندي أميركي قتلوا خلال فترة الحرب (لغاية أبريل/ نيسان2003 ) وكذلك القتلى من مرتزقة الشركات
الأمنية البالغ عددهم 1315، يكون الرقم الإجمالي لقتلى الجيش الأميركي في العراق 32000 + 1615 =
33615 قتيل حتى 2008، يضاف لهم نحو 40 ألف معاق، ولا تذكر المصادر الرسمية الأمريكية أرقام دقيقة لعدد
القتلى الذين قتلوا “في حوادث غير قتالية ” كما تذكر التقارير الأمريكية غالباً، أو المنتحرين أو عدد الجرحى الذين ماتوا
في المستشفيات الألمانية والذين لا تنص التقارير الرسمية الأمريكية على اعتبارهم قتلى في قوائم خسائر الحرب.
ولا تقل الخسائر المادية أهمية في الحسابات النهائية، إن لم تكن أكثرها أهمية لا سيما في بلد يعد متربول الرأسمالية
العالمية، كالولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر الأرباح أو الخسائر مقياساً للعمل السياسي والاقتصادي. وفي بلد يلعب
فيه الموقف في السوق في مقدمة الاعتبارات، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4 مليارات دولار سنة 2003،
ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا.
العبرة والاعتبار :
أن الولايات المتحدة تتمتع بتفوق في القوى ليس موضع جدال، ومن العسير أن تبلغه قوى أخرى منافسة لها أو حليفة. إلا
أنها منيت بهزيمة منكرة في حرب العراق، وأفغانستان، بعدها ستقلع الولايات المتحدة من لعب دور الدركي العالمي. نعم
… الولايات المتحدة تمتلك وسائل نقل الحرب حيث يشاءون، بإمكانهم إقامة واستخدام عناصر ردع هائلة، وربما بوسعهم
كسب حروب تقليدية، وبوسعهم إنزال ضربات مدمرة، يمتلكون روح وحشية تقتل عشرات ألاف الأطفال والنساء عمداً
مع سبق الإصرار والترصد، ولكن وقد غدا من الأكيد المؤكد أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقدم حلولاً سياسية
محترمة، لأزمات عميقة. ذلك أن الولايات المتحدة لا تمتلك صورة مشرقة تريده أن يحل بدل صور وطنية. الولايات
المتحدة لا تمتلك أفكاراً ولا أنماطاً صالحة للتصدير. كل فكرة تصدير ثورة أو نظام أو أنماط حكم هي فكرة بائسة من
أساسها، من نابليون، إلى نظام ملالي طهران، إلى الديمقراطية الأمريكية، وفي النهاية فليست هذه العناوين سوى شعارات
لتبرر التوسع والاستحواذ والهيمنة السياسية والاقتصادية.