لماذا انضمّت تركيا إلى مبادرة درع السماء الأوروبية؟
الحائط العربي
أعلنت تركيا عن انضمامها إلى مبادرة درع السماء الأوروبية الدفاعية التي اقترحتها ألمانيا، وجاء الانضمام التركي وسط تطور ملحوظ في علاقات أنقرة مع القوى الغربية مقابل توتر غير معلن مع موسكو. وثمة العديد من الدوافع المحركة لانضمام أنقرة للمبادرة، ترتبط برغبة تركيا في تأمين مصالحها الدفاعية والاقتصادية، ناهيك عن توفير قدرات إضافية في مواجهة التوترات الجيوسياسية في الإقليم.
في خطوة جديدة في سلسلة من التقارب التركي مع الغرب، انضمت تركيا ومعها اليونان رسمياً، في 16 فبراير الجاري، إلى مبادرة درع السماء الأوروبية (ESSI) التي تقودها ألمانيا، مؤكدة على لسان وزير دفاعها أن المعاهدة تمثل “خطوة مهمة نحو تلبية احتياجات الناتو”، وأضاف أن بلاده “على استعداد للمساهمة في هذه المبادرة، التي تقودها ألمانيا، من خلال مجموعة واسعة من الموارد الوطنية لدينا”. ويعد الانضمام للمعاهدة خطوة إضافية تستكمل سلسلة معالجة القضايا الخلافية مع الناتو، وكان البرلمان التركي قد أقر، في 24 يناير الماضي، الموافقة على لحاق السويد بعضوية حلف شمال الأطلسي.
وتأتي فكرة الدرع الأوروبية التي طرحتها برلين في العام 2022 عشية اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، في إطار محاولة لإنشاء نظام صاروخي متكامل قصير ومتوسط وطويل المدى لحماية الأمن الأوروبي. وترتكز مبادرة “درع السماء” على أن تشتري الدول الأعضاء فيه بصورة جماعية منظومات دفاعية مختلفة تتكامل مع بعضها بعضاً لحماية السماء الأوروبية.
تحركات مغايرة
جاءت الموافقة التركية على الانضمام إلى اتفاقية الدرع الأوروبية في سياق تقارب تركي مع القوى الغربية، كشفته العديد من المؤشرات، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- تمرير عضوية السويد داخل الناتو: تزامن انضمام تركيا إلى مبادرة الدرع الأوروبية مع التحسن الملحوظ في العلاقات بين أوروبا وأنقرة على خلفية موافقة الأخيرة في يناير الماضي على عضوية السويد بالناتو. وأزال تصويت البرلمان التركي عقبة كبيرة أمام إتمام الإجراءات المتعلقة بعضوية السويد داخل حلف الناتو، بينما تبقى موافقة المجر التي تُعد الدولة الوحيدة التي لم تُقر بعد انضمام السويد.
2- موافقة الكونجرس على صفقة F16: شهدت العلاقات الأمريكية التركية نقلة نوعية خلال الأسابيع الماضية بعد موافقة الكونجرس رسمياً على بيع مقاتلات F16 لتركيا، الأمر الذي يُنهي شهوراً من المفاوضات بين البلدين حول هذه الصفقة التي تُقدر قيمتها بنحو 23 مليار دولار. وتتضمن الصفقة التي حظيت بدعم من إدارة بايدن، حصول تركيا على نحو 40 طائرة من الطراز المتقدم، بالإضافة إلى تحديث وصيانة الطرازات القديمة من F16. وأعلن السفير الأمريكي لدى أنقرة في 11 فبراير 2024 عن موافقة بلاده رسمياً على الصفقة، وقال في رسالة نشرتها السفارة الأمريكية بتركيا إن “قرار الكونجرس بالموافقة على أن تحوز تركيا 40 مقاتلة إف-16 و79 مجموعة للتطوير يشكل تقدماً كبيراً”.
3- توتر مستتر بين موسكو وأنقرة: يأتي انضمام أنقرة إلى مبادرة الدفاع الأوروبية في سياق توترات مستترة بين أنقرة وموسكو خلال الآونة الأخيرة، كشف عنها على سبيل المثال تأجيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، والتي كانت مقررة في فبراير الجاري، بالإضافة إلى استجابة تركيا للضغوط الأمريكية بشأن ضرورة الانضمام للعقوبات الثانوية المفروضة على موسكو، وكان بارزاً هنا إغلاق أنقرة في الأيام الماضية حسابات الشركات الروسية في البنوك التركية.
ويشار إلى أن الشركات الروسية تستخدم تركيا كسلطة عبور للمدفوعات والتسليم عن تجارتها، وبخاصة تجارة النفط والغاز التي تواجه صعوبات معقدة في تصدير إنتاجها إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية، بسبب العقوبات الغربية على قطاع النفط الروسي. كما فرضت قيوداً على استخدام البنوك التركية من قبل المواطنين الروس، مما أثر سلباً على حركة التجارة والاستثمار بين البلدين. بالتوازي، دخلت العلاقات الروسية-التركية مناخ الشحن، مع بدء شركة بايكار التركية في بناء مصنع لإنتاج طائرات بيرقدار دون طيار في أوكرانيا، وهو ما أثار غضب روسيا.
4- تحسّن العلاقات بين برلين وأنقرة: على الرغم من تصاعد التوترات بين ألمانيا وتركيا على خلفية عدد من الملفات أبرزها الحرب على غزة، والموقف التركي الرافض لدعم برلين المطلق لإسرائيل؛ إلا أن العلاقة بين البلدين حققت نقلة نوعية خلال الأشهر الأخيرة، وظهر ذلك في زيارة الرئيس التركي للعاصمة الألمانية برلين في نوفمبر 2023، وهي الزيارة الأولى له منذ 2020. ووصف أردوغان خلال الزيارة ألمانيا بأنها “أقوى دولة في أوروبا”. وتوصل البلدان إلى تفاهمات بشأن دعم العلاقات التجارية والتي وصلت بنهاية العام 2023 إلى ما يقرب من 50 مليار دولار، كما تجاوز عدد الشركات الألمانية العاملة في الأسواق التركية حاجز 8 آلاف شركة، بينما بلغت قيمة الاستثمارات الألمانية المباشرة في تركيا نحو 23 ملياراً و100 مليون دولار خلال العام 2022.
على صعيد متصل، وبرغم تباين رؤى البلدين بشأن الحرب على غزة فإن وزيرة الخارجية الألمانية أشارت في تصريحات لها إلى أن الدول الغربية ترى أن أردوغان يمكن أن يلعب دوراً في تجنب تصعيد النزاع في الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل الحوار معه أكثر أهمية وإلحاحاً.
أبعاد متعددة
على الرغم من وجود بعض الملفات الخلافية بين تركيا وبعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، فإنه يمكن أن تُعزَى موافقة تركيا على الانضمام لاتفاقية درع السماء الأوروبية، إلى عدة عوامل، أبرزها:
1- تصاعد التوترات الجيوسياسية لا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية: لا ينفصل انضمام تركيا إلى اتفاقية درع السماء الأوروبية عن الرغبة في تأمين قدراتها في مواجهة التوترات الجيوسياسية، خاصة مع استمرار الحرب الأوكرانية، وتصاعد فرص انتصار موسكو مع تراجع الدعم الغربي لكييف، بالإضافة إلى انعكاس التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في البحر الأحمر على المصالح التركية، وهو ما يجعل توجه أنقرة لتعزيز تحالفاتها الأمنية خلال المرحلة المقبلة يمثل أولوية استراتيجية.
وبرغم وجود تفاهمات أمنية بين تركيا وروسيا فإن التغير الحادث في سياسات أنقرة، وتوجهها نحو الاصطفاف نسبياً مع القوى الغربية، يؤشر إلى احتمال ظهور التوتر الكامن بين أنقرة وموسكو على السطح. في المقابل، فإن الانعطافة التركية نحو الانخراط في التحالف الدفاعي مع ألمانيا، يأتي في سياق توتر لا تخطئه عين بين أنقرة وتل أبيب، والذي وصل إلى الذروة على خلفية الموقف التركي المناهض للسياسات الإسرائيلية في الحرب على غزة.
2- تأمين الحصول على طائرات تايفون: تخطط تركيا لشراء 40 طائرة من طراز Typhoon (يوروفايتر تايفون)، وهي ذات إنتاج مشترك لتحالف أوروبي، وبينما حصلت تركيا على موافقة بريطانيا وإسبانيا على البيع، فإنها تراهن من خلال الانضمام إلى مبادرة ESSI، على إقناع برلين المترددة برفع الفيتو، والحصول على موافقتها للسماح بحصول أنقرة على الطائرة. كما تسعى تركيا عبر توظيف هذه المبادرة على الأرجح، للحصول على التكنولوجيا الأوروبية وبخاصة الألمانية لدعم خططها الدفاعية التي تستهدف بناء أنظمة أسلحة عالية التقنية.
3- تمرير اتفاقية التحديث الجمركي: يرجع اهتمام تركيا بمبادرة درع السماء الأوروبية إلى الأهمية الكبرى التي تمثلها القارة الأوروبية لتركيا، باعتبارها شريكاً تجارياً كبيراً ومهماً لها، علاوةً على حرص أنقرة على استثمار الدور الألماني داخل أروقة الاتحاد الأوروبي لإحياء المحادثات المتوقفة بشأن تحديث الاتحاد الجمركي بين تركيا والكيان الأوروبي. ومن هنا، فإن أحد أهداف توقيع تركيا على مبادرة درع السماء الأوروبية (ESSI)، يتمثل في حماية مصالحها الاقتصادية والتجارية المتزايدة مع دول القارة الأوروبية.
بالتوازي، فإن أنقرة تستهدف الحصول على دعم الدول الأوروبية الداعمة لمبادرة درع السماء الأوروبية، وبخاصة ألمانيا، لإنهاء ملف التأشيرات للمواطنين الأتراك، وهو الملف الذي يشهد تعثراً كبيراً، وتطمح تركيا إلى موافقة الاتحاد على إعفاء المواطنين الأتراك من التأشيرة.
4- رغبة تركيا في الحصول على قطع الغيار الدفاعية: على الرغم من التطور الحادث في الصناعات الدفاعية التركية، وبخاصة في قطاع المسيرات، إلا أن هذه الصناعة تعرضت لهزة كبيرة على خلفية فرض عدد واسع من الدول الغربية عقوبات عسكرية على تركيا، تضمنت حظر تصدير الأسلحة، وقطع غيار التسليح بسبب تدخلها العسكري في الشمال السوري 2019. صحيح أن بعض الدول ألغت حظر الصادرات التسليحية، منها كندا في يناير 2024، وكذلك السويد؛ إلا أن أنقرة تراهن على استثمار انضمامها للمظلة الدفاعية الأوروبية التي اقترحتها ألمانيا لتحفيز الدول الأوروبية لإعادة تصدير معدات التصنيع الدفاعية وقطع الغيار العسكرية لتركيا.
5- تحييد الانتقادات الغربية لحزب العدالة والتنمية داخل تركيا: ربما ترتبط الموافقة التركية على الانضمام لمبادرة درع السماء الأوروبية في جانب معتبر منها بالرغبة في إنهاء الانتقادات الغربية للممارسات السياسية لحزب العدالة والتنمية في الداخل التركي، حيث وجه التقرير السنوي للمجلس الأوروبي الصادر في سبتمبر 2023 انتقادات واسعة للأوضاع الحقوقية وسيادة القانون في الداخل التركي. ويُشار إلى أن أنقرة المقبلة على انتخابات محلية مهمة في نهاية مارس المقبل تسعى إلى تحييد الانتقادات الأوروبية.
تحييد الخلافات
ختاماً، يمكن القول إن انضمام تركيا إلى مبادرة (ESSI)، قد يسفر عن تحقيق مزيد من التطور في العلاقات التركية الغربية، ويسمح بالتحايل على جانب من القضايا الخلافية مع الاتحاد الأوروبي الذي تقوده برلين، وهو ما من شأنه أن يساهم في تأمين المصالح التركية مع القوى الغربية، ويفتح آفاقاً أوسع للتعاون الدفاعي والاقتصادي. بيد أن هذا الإجراء التركي قد يدفع نحو مزيد من التوتر في علاقات أنقرة مع موسكو ويؤدي إلى تآكل الثقة والتعاون معها، مما يجعل إدارة الملفات المتقاطعة بين البلدين في سوريا والقوقاز وآسيا الوسطى أكثر صعوبة خلال المرحلة المقبلة.