لكُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
رشيد مصباح (فوزي)
**
مات جدّي (والد أمّي) عام (1978)؛ انقضّ شلخٌ، وانهدمت رَكزةٌ. كنتُ حينها شابّا نزقا لا أكترث لموت جدّي، ولا لموت أحد. بدليل إنّني لا أحمل الآن عن جدّي سوى بعض الملامح والصوّر، أو بعض مغامراته التي كانت ترويها لنا جدّتي وأخوالي؛ عن شجاعته وإقدامه، وبقيّت راسخة في الذّهن. وكان أهل البادية يلقّبونه: “باطوز نو قشّوظ”، بلهجتهم المحليّة؛ و”باطوز” هي(آلة الحصاد)، وهي كلمة فرنسية. وأمّا “قشّوظ” فمعناه (خشب) في اللّهجة الشّاويّة، كناية عن صلابته وشجاعة قلبه. فقد كان رحمه الله يداني بين المترين وبضع السنتيمترات.
نتأثّر لفراق طفل صغير وشاب في عمرالزّهر؛ لكنّنا لانكترث كثيرا لموت شيخ مريض أو طريح فراش: “حمل بنادم قدّاش ثقيل” ــ المثل ــ، الأصول هم الرّكيزة الحقيقية والفعلية كالتي تحمل البناء. ـ (لم أصل إلى هذا الاستنتاج وهذه الخلاصةإلّـا بعد فوات الأوان، للأسف).
لم يكن لديّ وقت في تلك الأيّام أعود فيها إلى نفسي وأحدّثها قليلا؛ حال شاب يبحث عن اللّهو بأيّ ثمن وحسب. لم يكن الوقت يعني شيئا، بالنسبة لي. سيّما أن هناك “صمّام أمان” يعمل بصورة جيّدة؛ الوالد يكلّ ويكدح وبتألّم في صمت، لتلبية الطّلبات. والوالدة في المطبخ تجهّز لي الطّعام. ليرحم الله آباءنا.
كان جدّي رحمه الله كثير الحديث عن الماضي و”بكري”، عن حداثة سنّه وطفولته، وعن شبابه خاصّة، وعن مغامراته. وعن صراعه مع المرض. كان جدّي رحمه الله صعب المِراس؛ لم يقبّل يوما يد أحد، ولم ينحنِ لكائن من كان. على الرّغم من كل المحن التي مرّ بها. لم يكن جدّي يشكو همّه و بثّه لأحد، ولا حتّى لأقرب النّاس إليه. كنتُ يومها قريبا منه، بحكم حداثة سنّي، وأنا طفل صغير لا أتجاوز سن العاشرة. أمّا وأنا شاب، فلم أكن أسمعه يتألّم من شيء قط. أو يفزع لسبب من الأسباب. خاض جدّي الحرب الكونية الثانية جنبا إلى جنب مع الفرنسيين. وهو في ريعان شبابه. وتعرّض للاعتقال من طرف الألمان وهو في زهرة شبابه. وعاد إلى الجزائر أرض الوطن، ليتعرّض إلى التّعذيب في مركز”فان دي جو” الشّهير مرّة أخرى، بعد سجنه من طرف الفرنسيين الأوغاد. ومع ذلك، لم يطالب جدّي بتعويضه عن الأضرار التي ظلّ يعاني منها طول حياته؛ “لا من هؤلاء، ولا من هؤلاء”.
لكن المرض اللّعين وحده استطاع تركيع جدّي، فأمسى صاحب المترين كالرّضيع في مهده؛ يرى بعينه، ولا يحرّك ساكنا. مستلقيّا على ظهره، لا يقوى على الحركة. في أرجوحة، أو”دوّاحة” كما تسمّى، صنعوها له وعلّقوها في فناء البيت، ولم يبق من جدّي سوى حشرجة روحه في صدره. بعدما أنهكه المرض وبات حمله ثقيلا، عبئا على غيره.
ليرحمه الموت بعد ذلك،
وتسْلم روح المحارب لبارئها.
رحم الله جدّي، فقد كان جلَدا أمام أعدائه.
لكن.. هناك دائما من هو أقوى.
لكُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ
يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
( كعب بن زهير).
…..
ضائعٌ بين أقرانه
الجزء الثّاني
(25)