كل العيون تتجه نحو موسكو

حسن مدن

إحتفل العالم في التاسع من مايو/أيار الذي يُحتفل به في روسيا كعيد للنصر على ألمانيا النازية، واستمرّ هذا التقليد بعد انتهاء الحقبة السوفييتية، إحياء للذاكرة الوطنية لشعب قدّم نحو سبعة وعشرين مليون ضحية في هذه الحرب التي انتهت بصعود الجنود السوفييت إلى مبنى «الرايخستاغ» في برلين، وتعليق الراية السوفييتية عليه، علامة على النصر الساحق الذي عليه ترتّب ما ترتب من نتائج جيوسياسية لا في القارة الأوروبية وحدها، وإنما في العالم كله، حين هُزمت النازية الألمانية، في عقر دارها ببرلين، وانتصرت الإرادة الحرة لشعوب أوروبا والعالم برفض خيار العبودية الذي سعت ألمانيا هتلر وإيطاليا موسوليني والعسكرتارية اليابانية إلى فرضه على العالم، من خلال نظريات عنصرية قائمة على ازدراء الأمم والشعوب الأخرى، والإعلاء المغرض للعرق الآري، في إعادة إنتاج ممجوجة للرؤى والأفكار العنصرية التي تتمحور في افتراض تفوق مزعوم لأمة من الأمم أو عرق من الأعراق .

أنظار العالم توجهت هذا العام بالذات نحو موسكو، ليس فقط لمتابعة العرض العسكري المهيب الذي اعتادت روسيا تنظيمه في الساحة الحمراء بالعاصمة موسكو، وإنما نحو ما سيقوله الرئيس الروسي بوتين في خطابه بهذه المناسبة، بعد أن أشاعت الدوائر الغربية السياسية والإعلامية، طوال الأسابيع الماضية أنه سيعلن الانتصار في الحرب الجارية في أوكرانيا، وأن روسيا ستسعى إلى إحراز تقدّم ميداني حاسم فيها، يتوج بذلك الإعلان المرتقب، مع أنّ وزير الخارجية الروسي لافروف ردّ على ذلك بالقول، إن نهاية المعارك في أوكرانيا ليست مقيّدة بتاريخ معين، وإن ما سيحدد تلك النهاية هو نجاح روسيا في تحقيق الغايات المنشودة من عمليتها العسكرية هناك. ومن الواضح، حكماً من سير الأمور ميدانياً، أن تلك النهاية ليست وشيكة.

لا أحد بوسعه تخيل كيف كانت صورة العالم ستكون لولا الهزيمة الماحقة التي لحقت بالمشروع النازي، ولو أن هذا المشروع قيض له أن ينتصر يومها، لولا الحلف الدولي الواسع الذي تشكل يومها ضد تلك البربرية التي كانت ستعيد أوروبا والعالم كله أشواطاً إلى الوراء، ورغم الثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب والجيوش التي تصدت للنازية يومها إلا أن النهاية الحاسمة للحرب، ما كانت ممكنة لولا تلك التضحيات .

يلفت النظر أن روسيا بالذات من بين الدول المنتصرة في تلك الحرب هي الأكثر احتفاء وإحياء لهذه المناسبة. يبدو ذلك مفهوماً . فألمانيا، حتى لو خلعت العباءة النازية عن كاهلها، وحتى لو غدت موحدة بعد انقسام دام عقوداً بين شرقها وغربها، ليس بوسعها تجاوز عقدة الهزيمة المدوية، التي ترتبت عليها مفاعيل مستمرة حتى اليوم، ليس أقلها أهمية حرمانها من مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي رغم المياه الكثيرة التي جرت تحت الجسور خلال نحو سبعة عقود .

أما الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، رغم مساهماتها الرئيسية في هزيمة ألمانيا والحلف المؤازر لها في الحرب، فلا تستطيع، هي الأخرى، التحرر من عقدة أن نهاية الحرب أسست لنفوذ غير مسبوق لروسيا السوفييتية يومها، تخطى بكثير دائرة نفوذ الامبراطورية الموروثة من القياصرة، ليغطي شرقي أوروبا كاملاً وصولاً إلى برلين ذاتها .

ليست التضحيات الكبيرة التي قدّمها الروس في تلك الحرب، على أهميتها، هي وحدها باعث احتفائهم بالمناسبة، إنما الرغبة في التأكيد على رسالة راهنة موجهة للغرب اليوم أيضاً، فحواها أن “الحرب الباردة”، حتى لو لم تعد تحت رايات إيديولوجية كما كانت قبل تفكك الاتحاد السوفييتي، لم تنته، وأن عنوانها يظل، كما كان، ضبط لعبة النزاع على النفوذ في القارة العجوز، وبالتالي في العالم كه، بحيث لا يريد الغرب أن تقوم لروسيا قائمة أخرى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ولكن الأمر لم يعد رهينة الغرب وحده، ففي العالم تأسست وتتأسس وقائع جديدة على الأرض تجعل من أحادية القطب في العالم ماضياً، وما يجري اليوم في أوكرانيا يظهر أن الحرب بين أقطاب العالم قد خرجت، فعلياً، من دائرة “الحرب الباردة”، وتحوّلت إلى حربٍ بالسلاح يقاتل فيها الغرب روسيا، وإن كان بالوكالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى